إعداد: عمر إدلبي – محمود الحسين

سعت “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقًا)، إلى خلط الأوراق مجددًا في إدلب، بعد إدراكها أن الاتفاق بين الرئيسين الروسي والتركي، في آذار/ مارس الماضي، لا يتقاطع مع مصالحها، ولذلك حاولت التصعيد أكثر للمحافظة على وجودها، وما حادثة الاشتباك المباشرة، بين عناصر الهيئة والجيش التركي، إلا دليل على استعداد كلا الطرفين للذهاب بعيدًا، من أجل الدفاع عن مصالحهما وأدوارهما. حيث استُهدفت آلية تركية بمجموعة من القذائف والصواريخ، بالقرب من بلدة النيرب في ريف ادلب الشمالي، وجاء الرد التركي سريعًا، من خلال استهداف طائرة مسيرة تركية نقاطًا عسكرية تابعة للهيئة[1]. إلا أن الرسالة التي يمكن قراءتها هي مسارعة الطرفين إلى احتواء التصعيد، ورغبتهما في التوصل إلى تسوية.

في الآونة الأخيرة، على المستوى المحلي، ازداد الضغط الشعبي على “هيئة تحرير الشام”، بعد إعلانها فتح معبر تجاري مع النظام السوري (معارة النعسان – ميزناز)، تهدف الهيئة من خلاله إلى تحقيق مكاسب اقتصادية، من خلال إيرادات عبور البضائع وتنشيط الحركة التجارية التي تهيمن الهيئة على معظم قطاعاتها في المناطق المحررة، إلا أن رفض الأهالي فكرة فتح المعبر جاء عبر تظاهرات شعبية وقطع الطريق الواصلة بين بلدتي معارة النعسان وميزناز شمالي مدينة إدلب[2]، رد عليها عناصر الهيئة بإطلاق الرصاص الحي، ما أدى إلى سقوط جرحى ومقتل شخص مدني.

بعد هذه الحادثة؛ أصدرت الهيئة بيانًا علّقت فيه قرار فتح المعبر الجديد[3]، رغبة منها في احتواء الغضب الشعبي من جهة، وقطع الطريق على احتجاج بعض قادة التشكيلات العسكرية المنضوية في صفوف الهيئة، على استعمال السلاح بمواجهة المدنيين، من جهة أخرى.

ومجمل هذه التطورات تضع الهيئة وقادتها أمام تحديات جديدة، قد تدفعها إلى التفكير في مستقبل وجودها، كقوة عسكرية، وكتنظيم إداري تنفيذي يفرض نفوذه على آخر المناطق الخارجة عن سيطرة نظام الأسد في شمال غرب سورية.

المعابر… شرط البقاء

بينما تسعى الهيئة لتعويض خساراتها معابر مهمة في معركة إدلب وريف حلب الأخيرة (معابر مورك وقلعة المضيق في ريف حماة، والمنصورة والعيس في ريف حلب)، يرفض المدنيون فكرة فتح المعابر لأسباب عدة:

– السبب الأول: التخوف من انتقال فيروس كورونا Covid19، من مناطق سيطرة النظام السوري إلى المناطق المحررة في الشمال السوري، حيث إن المناطق المحررة لم تسجل أي حالة إصابة بفيروس كورونا حتى هذه اللحظة، على عكس مناطق سيطرة النظام التي سجلت العديد من حالات الإصابة بالمرض.

– السبب الثاني متعلق بالجانب الاقتصادي، حيث يعتقد الأهالي أن تسويق محاصيلهم الزراعية إلى مناطق سيطرة نظام الأسد يؤدي إلى نقص المعروض منها في مناطقهم، وإلى ارتفاع أسعار المنتجات الزراعية.

– السبب الثالث: ذو طبيعة سياسية، حيث يعتقد الأهالي أن تسويق منتجات من مناطقهم، باتجاه أسواق النظام السوري، سيؤدي إلى تخفيف معاناته الاقتصادية، ولا سيما في قطاع المحروقات التي تعاني أسواق النظام شحًا كبيرًا فيها.

– السبب الرابع: يعود إلى استياء الأهالي من كون “هيئة تحرير الشام” فضّلت -في أكثر من مناسبة- مصالحها التجارية على حساب المدنيين في الشمال السوري، من خلال البحث عن مصادر جديدة لتمويل اقتصادها، وهو ما يُشكل اقتصاد حرب تستطيع الهيئة من خلاله الحصول على عائدات مالية، من واردات المعابر التجارية.

والجدير بالذكر أن “هيئة تحرير الشام” حاولت أخيرًا افتتاح معبر (سرمين – سراقب) مع النظام السوري، من خلال تشكيل لجنة للتفاوض مع الجانب التركي على آلية فتح المعبر التجاري الجديد[4]، إلا أن الضغط الشعبي حال دون ذلك؛ لأن الأهالي يرون أن هذه الخطوة تعني القبول بالأمر الواقع الذي فرضه النظام السوري، في الحملة العسكرية الأخيرة التي أفضت إلى خسارة المعارضة السورية مناطق كثيرة، من ضمنها مدينة سراقب في محافظة إدلب[5].

وفي حين لا يشكل فتح المعابر فائدة تذكر للمدنيين في الشمال السوري الذين يحصلون على معظم مستلزمات حياتهم من منتجات محاصيلهم الزراعية، ومن السوق التركي الذي يورد لهم بضائع ذات جودة أفضل وأسعار معقولة، يُعدّ فتح أي معبر مصلحةً مشتركةً لبقية الأطراف،النظام السوري وروسيا، وتركيا التي تتدفق بضائعها إلى داخل مناطق سيطرة نظام الأسد، ولهيئة تحرير الشام أيضًا، حيث إن المعابر تحقق للهيئة منافع كبيرة من عائدات تشغيل المعابر، خاصة أن الهيئة امتلكت خبرات جيدة في إدارة المعابر التجارية التي ورثت معظمها من فصيل “حركة أحرار الشام”، قبل انحسار سيطرته عن الشمال السوري، مطلع العام الماضي 2019، بعد معارك ضارية بين الطرفين حسمتها الهيئة لصالحها.

وخلال أكثر من سنة من سيطرة الهيئة على معبري مورك وقلعة المضيق في ريف حماة، ونحو ثلاث سنين من سيطرتها على معبري العيس والمنصورة في ريف حلب؛ شكلت موارد هذه المعابر رافدًا تمويليًا مهمًا للهيئة، ولذراعها التنفيذي “حكومة الإنقاذ”، قبل أن يُسيطر النظام السوري -بتغطية واسعة من حلفائه الروس والميليشيات الطائفية المدعومة من الإيرانيين- على مناطق واسعة في أرياف حماة وحلب وإدلب، إبان الحملة العسكرية الأخيرة التي توقفت بإعلان وقف إطلاق النار في 5 آذار/ مارس 2020.

وتؤكد معلومات متقاطعة، من مصادر مختلفة، أن معبر العيس قبل إغلاقه كان يدخل منه يوميًا بين 300 و400 سيارة شحن كبيرة، تفرض اللجنة الاقتصادية التابعة للهيئة على كل شاحنة رسم عبور يراوح بين 100 و250 دولارًا، وذلك بحسب نوع البضاعة، أي ما مجموعه 50 إلى 100 ألف دولار يوميًا. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الطرف الثاني المسيطر على المعبر، أي نظام الأسد الذي كان يفرض رسوم عبور تراوح بين 200 إلى 1000 دولار على كل سيارة، وذلك بحسب نوع البضاعة[6]، ولهذا السبب فإن افتتاح معبر جديد هو مصلحة مشتركة لكلا الطرفين، خصوصًا أنه سيكون المعبر الوحيد في حال تم افتتاحه.

إعادة الهيكلة داخل “هيئة تحرير الشام”:

شهدت “هيئة تحرير الشام” أخيرًا العديد من الانشقاقات والاستقالات، كان أبرزها استقالة بسام صهيوني (رئيس مجلس الشورى العام في إدلب)، فضلًا على استقالة الشخصية الأهم في الصف العسكري الأول للهيئة المدعو “أبو مالك التلي” الذي يحظى بأتباع كُثر في صفوف عناصر الهيئة[7].

بعد ذلك، شكلت “هيئة تحرير الشام” ثلاثة ألوية جديدة، أضيفت إلى تشكيلاتها العسكرية القديمة كإجراءات تنظيمية، لا سيما أن هذه التغييرات جاءت بعد الاستقالات التي شهدتها الهيئة أخيرًا، وقد يكون لهذه التغييرات دوافع داخلية وخارجية، منها ما هو متعلق بترتيب البيت الداخلي، خصوصًا بعد اعتراض قسم من القيادات على نهج قائدها “أبو محمد الجولاني” بالتعامل مع مختلف القضايا التي تواجه الهيئة، ومنها ما قد يكون له دوافع خارجية تتعلق بمستقبل الهيئة ودورها في الساحة السورية، خصوصًا أن مواقف الهيئة، وتحديدًا قائدها الجولاني، وُصفت بالبراغماتية المبالغ بها، من خلال التماهي مع الموقف الدولي والضغط الشعبي، بدايةً عبر فك الارتباط بتنظيم القاعدة في تموز/ يوليو 2016، وتغيير اسمها من “جبهة النصرة” إلى “جبهة فتح الشام”، وقد برر الجولاني فك الارتباط -حينذاك- بأنه “تلبية لرغبة أهل الشام في دفع ذرائع المجتمع الدولي”[8] الذي يُصنف جبهة النصرة على قوائم الإرهاب[9].

الموقف الثاني كان في كانون الثاني/ يناير 2017، من خلال اندماج “جبهة فتح الشام” مع فصائل أخرى مثل (نور الدين الزنكي، لواء الحق، جيش السنة، جبهة أنصار الدين) تحت مُسمى “هيئة تحرير الشام”[10].

أما الموقف الأبرز، فقد جاء عبر مقابلة الجولاني مع مجموعة الأزمات الدولية، في شباط/ فبراير 2020، إذ حاول الجولاني إيصال رسائل عدة إلى المجتمع الدولي والدول الفاعلة في الشأن السوري، والمجتمع المحلي في الشمال السوري أيضًا، ومن جملة هذه الرسائل اعتراف الجولاني بوجود انتهاكات وتجاوزات بحق الفصائل الثورية والمنظمات الإنسانية، كما وعد الجولاني بأن هذه الأخطاء لن تتكرر مرةً أخرى.

الرسالة الثانية هي أن الارتباط مع تنظيم القاعدة كان ضرورة لحماية وبقاء “جبهة النُصرة” في ذلك الوقت، في مواجهة تنظيم (داعش)، فضلًا عن أن جبهة النصرة سعت لحماية إدلب من (داعش) وأخواتها، وذلك بحسب ما ذكره الجولاني. أما الرسالة الأخيرة، فهي تأكيد الجولاني أن “هيئة تحرير الشام” رافضة لفكرة الجهاد عبر الحدود، وبأن مهمتها الحالية تقتصر على حماية المدنيين والدفاع عنهم ضمن الأراضي السورية. وهو الموقف الذي فسره كثيرون بأنه سعي من الجولاني للدفع باتجاه رفع اسم “هيئة تحرير الشام” عن قوائم الإرهاب، من خلال رفضه فكرة العمل العسكري أو “الجهاد” العابر للحدود[11].

“هيئة تحرير الشام” وموقفها من اتفاق موسكو الأخير:

كما أشرنا سابقًا، تحاول “هيئة تحرير الشام” إعادة التموضع ضمن ساحة الصراع السورية، بالتعاطي مع المتغيرات الدولية الأخيرة، من خلال تقديم كثير من التنازلات لضمان بقائها، وتأمين دور مستقبلي لها ضمن أي حل أو اتفاقية تشمل المناطق السورية الواقعة تحت سيطرة المعارضة المسلحة، التي تشترك الهيئة بالسيطرة عليها، إلى جانب قوى وفصائل مسلحة أخرى أقلّ شأنًا.

وجدير بالذكر أن “هيئة تحرير الشام” هي الفصيل الأكثر تنظيمًا وانضباطًا، على جميع المستويات السياسية والعسكرية، وحتى الإدارية، من خلال ذراعها التنفيذي الإداري “حكومة الإنقاذ”، التي تتيح للهيئة الإمساك بزمام الأمور المدنية أكثر، والتغلغل ضمن المكونات الشعبية في المناطق المحررة، مستفيدةً من القوى والخبرات العسكرية والأمنية التي تمتلكها الهيئة، وتستطيع من خلالها مواجهة أي طرف أو فصيل عسكري يقف في وجهها.

في لقاء الرئيسين، الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان، في 5 آذار/ مارس 2020، اتفق الطرفان على وقف إطلاق نار، على طول خطوط التماس في محافظة إدلب، إضافة إلى تسيير دوريات روسية-تركية مشتركة، على الطريق الدولي M4، بين بلدة طرنبة غرب سراقب وعين حور في ريف جسر الشغور، ابتداء من 15 آذار/ مارس 2020، فضلًا على إقامة ممر أمني بعرض 12 كم، شمال وجنوب الطريق الدولي M4 [12]. إلا أن قسمًا كبيرًا من المدنيين في إدلب، معظمهم من المهجرين، اعترضوا على هذا الاتفاق بحركة احتجاجية قوية، نفذوا خلالها اعتصامًا أطلقوا عليه “اعتصام الكرامة”، على الطريق الدولي قرب مدينة أريحا؛ للتعبير عن رفضهم تسيير الدوريات التركية الروسية المشتركة، أي رفضهم فتح الطريق الدولي، ولأن “هيئة تحرير الشام” تجد في مخرجات اتفاق موسكو تهديدًا جديًا لنفوذها في الشمال السوري، رغم موافقتها المعلنة عليه، تحسبًا من مواجهة مفتوحة مع الجانب التركي الذي بات يتمتع بوجود عسكري قوي في مناطق سيطرة الهيئة؛ حاولت الهيئة الاستفادة من هذه التظاهرات والتستر بحركة احتجاج المدنيين، فقامت بتشكيل لجنة مؤلفة من عدد من الشخصيات المحسوبة عليها، بهدف تنظيم الاعتصام على الطريق الدولي، كما قامت بتأمين كامل مستلزمات المعتصمين، من نقل وطعام وشراب وخيم[13]، وبالتزامن مع دعمها لحركة المحتجين المعتصمين، كانت الهيئة تطلق نشاطًا تفاوضيًا مع الجانب التركي، بهدف الاتفاق على آلية تحدد إجراءات فتح معبر تجاري جديد، مع مناطق سيطرة نظام الأسد، لتحقيق أقصى استفادة ممكنة من الواقع الذي فرضه اتفاق موسكو.

أي مستقبل لـ “هيئة تحرير الشام”؟

بعد جملة الأحداث الأخيرة التي شهدها الشمال السوري؛ انخفضت نسبة تأييد المدنيين لهيئة تحرير الشام، بعد خساراتها مناطق نفوذ كبيرة في معركة إدلب الأخيرة، وعدم خوضها معارك جدية بمواجهة النظام السوري وميليشياته، وبدأت انتقادات علنية توجه إلى تكتيكات الهيئة في المواجهة العسكرية الأخيرة، ومما ينبغي التأكيد عليه أن الهيئة حافظت على قدراتها العسكرية، باتباعها تكتيك الانسحاب من مواقع مهمة ورئيسية بالحد الأدنى من القتال، وتجنب المزيد من الخسائر. وما رضوخ الهيئة للرغبة الشعبية للأهالي في عدم فتح معبر (سرمين – سراقب) وتعليقها قرار فتح معبر (معارة النعسان – ميزناز) إلا دليل على رغبتها في احتواء مزيد من الضغط الشعبي؛ لأنها قلقة من أن انخفاض شعبيتها وصعود حركة احتجاجية ضدها قد يعجل في تقبلها خيارات لم تكن تقبل نقاشها سابقًا، كخيار الاندماج، أو الحل، أو إجراء تغيير عميق على مستوى القادة العسكريين أو الإداريين.

أما على المستوى الدولي، فإن الهيئة أصبحت تدرك حجم الضغوط الروسية على تركيا، لتنفيذ بنود اتفاق سوتشي الخاصة بمسألة حل التنظيمات التي تعدّها روسيا “متطرفة”، وهو البند الذي أكده اتفاق موسكو الأخير، في 5 آذار/ مارس 2020، كما أن الهيئة قلقة من احتمال معاودة روسيا شن عمليات عسكرية، في ما تبقى من مناطق نفوذها، وهو ما لا تريده الهيئة، وستحاول الالتفاف عليه بالقبول بخيارات لا تبقيها عرضة لاستهداف عسكري مدمر هذه المرة. ولا يقتصر الضغط على تركيا من أجل الحد من نفوذ الهيئة في إدلب على روسيا، واشنطن بدورها تمارس الضغوط ذاتها، حيث جددت أخيرًا، عبر المبعوث الأميركي الخاص إلى سورية جيمس جيفري، دعوتها تركيا للضغط على “الجماعات المتشددة” في إدلب، ومنها “هيئة تحرير الشام”.

ضمن هذه المعطيات، يمكن الحديث عن عدد من السيناريوهات المحتملة لمستقبل “هيئة تحرير الشام”، من أبرزها:

السيناريو الأول: الحل والاندماج

خلال الفترة الماضية، ظهرت مؤشرات على نية “هيئة تحرير الشام” حلّ نفسها، والاندماج مع فصائل “الجيش الوطني السوري”، وهو تحالف من فصائل من الجيش السوري الحر يتلقى الدعم من تركيا، ينشط في مناطق شمال حلب، أو ما يسمى منطقة “درع الفرات”، كما تداولت وسائل إعلام كثيرة أنباء عن توجه الهيئة نحو الاندماج مع “الجبهة الوطنية للتحرير”، وهي تحالف فصائل من بقايا مجموعات الجيش السوري الحر، تنتشر في مناطق متعددة في إدلب وريف حلب، تأسست بدعم تركي، في أيار/ مايو 2018، ويشكل فصيل “فيلق الشام” أبرز مكوناتها، ثم تبيّن لاحقًا أن من يقف وراء تسريب الأنباء عن نية الهيئة الذهاب باتجاه هذا الاندماج، هم قادة الهيئة أنفسهم، ولم تلبث هذه التسريبات أن طُويت وغابت عن التداول، بعد شكوك أبداها قادة في “الجيش الوطني السوري” و”الجبهة الوطنية للتحرير”، من نيّات الهيئة التغلغل في هذه التشكيلات والسيطرة على قرارها.

السيناريو الثاني: المواجهة مع تركيا

في إطار سعيها لتأمين استمرار نفوذها في الشمال السوري، واستباق أي محاولة من قبل تركيا لتفكيكها، قد تذهب “هيئة تحرير الشام” لخوض مغامرة مواجهة عسكرية مع القوات التركية، مدفوعة بمواقف بعض قادتها الأكثر تشددًا، ممن يعدّ أن خيار المواجهة الانتحاري أقلّ كلفة من انتظار عمل عسكري أو أمني تركي ضدّها، تدعمه روسيا، ولا تمانع واشنطن من حصوله، وعلى الرغم من خطر هذه المواجهة فإن هناك قيادات في الهيئة ترى أن إدارة معركة استنزاف محسوبة بدقة قد تكون بوابة للدخول في عملية تفاوض مع تركيا وروسيا وأميركا، تضمن حصة للهيئة في خريطة النفوذ في الشمال السوري، خاصة أن تغلغل وتوزع نقاط الهيئة العسكرية في مناطق مكتظة بالمدنيين سيؤمن لها حماية نسبية من هجوم عسكري كبير واسع النطاق، لا تتحمل تركيا مخاطرة سقوط ضحايا مدنيين، خلال تنفيذه.

السيناريو الثالث: إدارة سياسية للخلاف مع تركيا وتنازلات مقبولة

من المرجح أن تواصل الهيئة سعيها للتوصل إلى تسوية ما مع الجانب التركي، تضمن مستقبلها ضمن أي تسوية سياسية في الشمال السوري، على اعتبار أن الخيار العسكري ليس من مصلحتها أيضًا، وهذا الخيار يفرض على الهيئة مراعاة عدم استعداء تركيا، خصوصًا في ظل وجود ضغط روسي على أنقرة لتنفيذ الاتفاق الأخير،الذي قد يدفع تركيا إلى الذهاب في اتجاه خيار الحل العسكري لتفكيك الهيئة، وهو الخيار الذي تسعى تركيا أيضًا لتجنبه؛ لأن أنقرة تُدرك تمامًا تبعات وخطورة هذا الخيار، وتحديدًا على نقاطها العسكرية المنتشرة في الشمال السوري، التي لن تكون بمأمن من هجمات عناصر الهيئة.  وكذلك الأمر بالنسبة إلى الهيئة التي تدرك أهمية وجود علاقة مستقرة مع تركيا، كي لا يتسبب أي تصعيد بين الطرفين في خسارتها معبرين مهمين، تتحكم تركيا في أمر إبقائهما مفتوحين أمام حركة الأفراد والبضائع باتجاه مناطق نفوذ الهيئة: معبر “باب الهوى” الحدودي، ومعبر “الغزاوية” الواصل بين عفرين ومناطق ريف حلب الغربي وإدلب.

وفي سبيل إنجاح تسوية كهذه، قد تسعى الهيئة لتقديم أوراق اعتمادها لأنقرة وموسكو ولواشنطن، كشريك في محاربة مجموعات جهادية، في الشمال السوري، مدرجة على قوائم الإرهاب الأميركية، مثل تنظيم “حراس الدين”، وفصيل “أنصار التوحيد”، وغيرهما، وهي الفصائل التي تتجنب الهيئة حتى الآن قتالها، لاعتبارات أيديولوجية وسياسية، وعلى ذلك؛ سيكون خيار قتالها وإنهائها هذه التشكيلات ورقة مساومة، تستطيع من خلالها الحصول على مكاسب سياسية قد يكون من ضمنها رفع اسمها عن قوائم الإرهاب، وفي هذه الحالة؛ لن تمانع الهيئة تقديم تنازلات شكلية، من قبيل إعادة الهيكلة أو تغيير التسمية أو الانضواء تحت فصائل “الجيش الوطني” أو “الجبهة الوطنية للتحرير”، ولكن تبقى المعضلة الأكبر في هذا السيناريو هي كيفية التخلص من القادة والمقاتلين الأجانب داخل الهيئة، وهم قوة لا يستهان بها، لن تقبل بسهولة أن تتحول إلى كبش فداء.

أخيرًا..  تدرك “هيئة تحرير الشام” أنها -بواقعها الحالي وتاريخها الذي يحسبها على تيار الجهاد العالمي- غير مقبولة كشريك لدى الدول الفاعلة في القضية السورية، في أي حل سياسي قادم، كما تدرك أنها أضعف من أن تخوض مواجهة عسكرية واسعة وشاملة تقودها تركيا من خلال جيشها وبمساندة فصائل المعارضة السورية، بدعم روسي وأميركي، خاصة بعد فقدانها التأييد الشعبي الذي حظيت به في بعض الأوقات لأسباب معقدة، ولهذا يبدو أن خيارها الأكثر ترجيحًا سيكون منصبًا على الحل، وإعلانها الانتقال إلى شكل تنظيمي جديد، شكلًا لا مضمونًا، ربما يمكّن قادتها من شراء مزيد من الوقت.

وهذا الواقع يفرض على قوى الثورة والمعارضة السورية أن تميز نفسها باستمرار عن توجهات وسياسات “هيئة تحرير الشام”، وأن تجدد تأكيدها أن هذا الفصيل، مهما تغيّرت أسماؤه (من جبهة النصرة، إلى جبهة فتح الشام، إلى هيئة تحرير الشام، أو إلى أي اسم آخر) لا ينتمي إلى الثورة السورية، بل إنه يتناقض مع أهدافها في إنهاء نظام الاستبداد، وإقامة دولة مدنية ديمقراطية تعددية لكل السوريين، وأن كل التنظيمات الراديكالية المتطرفة، ومنها هيئة تحرير الشام، كانت سببًا في تحوّل موقف المجتمع الدولي الإيجابي -نسبيًا- من ثورة الشعب السوري، إلى موقف سلبي، ساهم في استمرار بقاء نظام الأسد، ومواصلته تدمير سورية وقتل شعبها وتهجيره.


[1] ترك برس، لصالح من تستفز هيئة تحرير الشام القوات التركية في إدلب، نيسان/ أبريل 2020، https://bit.ly/2KYBc9H

[2] عبد الله الموسى، خيارات تحرير الشام بعد اتفاق موسكو ومحاولاتها الحفاظ على وجودها، تلفزيون سوريا 29 نيسان/ أبريل 2020، https://bit.ly/2Wf5zOg

[3] نشرت هيئة تحرير الشام بيانًا عبر معرفاتها الإعلامية على مواقع التواصل الاجتماعي، في 30 نيسان/ أبريل 2020، بعنوان “تعليق حول أحداث فتح معبر ميزناز”.

[4] شكلت هيئة تحرير الشام لجنة متمثلة بالمدعوين “أبو أحمد حدود، وأبو عبد الرحمن زربة”، ومعهم وزير زراعة حكومة الإنقاذ المدعو “محمد الأحمد” الذي كان يُعرف بـ “أبو طه أفران”، بالتفاوض مع الجانب التركي على آلية ومكان فتح المعبر التجاري الجديد مع نظام الأسد، وذلك بحسب المقابلة التي أجراها مركز حرمون بتاريخ 23 نيسان/ أبريل 2020، مع أحد المطلعين على الواقع الميداني في إدلب، ولكنه تحفظ على ذكر اسمه لاعتبارات أمنية.

[5] مصطفى محمد، هجوم إدلب كيف توسعت رقعة النظام وانحسرت المعارضة، المدن، 30 آذار/ مارس 2020، https://bit.ly/2KWX0lP

[6] هذه الأرقام هي تقديرية حصل عليها مركز حرمون من مصادر متعددة، من المجتمع المحلي، في محافظة إدلب.

[7] بعد استقالة “أبو مالك التلي”، سارع الجولاني إلى الاجتماع به، ونتج عن هذا الاجتماع عدول “التلي” عن استقالته. عبد الله الموسى، خيارات تحرير الشام بعد اتفاق موسكو ومحاولاتها الحفاظ على وجودها، تلفزيون سوريا 29 نيسان/ أبريل 2020، https://bit.ly/2Wf5zOg

[8] شبكة الجزيرة، جبهة النصرة تفك ارتباطها بالقاعدة وفصائل ترحب، 2016، https://bit.ly/2YuXFTE

[9] جبهة النصرة ظهرت للمرة الأولى في سورية في كانون الثاني/ يناير 2012

[10] شبكة الجزيرة، هيئة تحرير الشام تكتل الرافضين لأستانة، 2017، https://bit.ly/2ybqkCB

[11] International Crisis Group, The Jihadist Factor in Syria’s Idlib: A Conversation with Abu Muhammad al-Jolani, February 2020, https://bit.ly/2z2MM0D

[12]  BBC العربية، الحرب في سوريا اتفاق روسي تركي على وقف إطلاق النار في إدلب، آذار/ مارس 2020، https://bbc.in/2VZOqsZ

[13] مقابلة خاصة لمركز حرمون في 23 نيسان/ أبريل 2020 مع أحد المطلعين على الواقع الميداني في إدلب، ولكنه تحفظ على ذكر اسمه لاعتبارات أمنية.