في الأيام السورية الأخيرة، أظهر كثير من السوريين المساندين للثورة ضدّ نظام الأسد، كثيرًا من التقدير للراحل الشيخ جودت سعيد. التقدير الذي تجلّى واضحًا مع شيوع خبر وفاة الشيخ في 30 كانون الثاني/ يناير من هذا العام، وامتلاء صفحات (فيسبوك) بصور الراحل وتكرار عبارات التقريظ والإشادة بفكره واستذكار اللقاءات معه، حين يكون ثمة لقاءات وصور مشتركة. الحقّ أن وجود تقدير سوري مشترك لشخصية سورية ما، هو مما يثلج الصدر ويسند الأمل، بعد أن بلغ التشظي السوري حدًا يشبه التحلل. نحن بحاجة ماسة إلى ما يجمعنا، كما نحن بحاجة إلى ما نفتخر به في حاضرنا. والحق أيضًا أن في سيرة الراحل وفكره ما يستحقّ التقدير الذي أظهرته قلوب كثير من السوريين.
هنا مكان للإشارة إلى العمق الإنساني والفكري للراحل، وإلى أهمّيته المضاعفة لأنه ينطلق من المتن الثقافي المشترك والسائد (الإسلام) كي يصل إلى خلاصات فكرية ودلائل عمل إنسانية شاملة، ليست مفروضة على المسلمين من خارج غريب، بل نابعة من صلب الدين ويتكلم بها “شيخ” من بينهم، بعيد كل البعد عن بهرجة المشيخة وتعاليها ورسمياتها.
إن ملاحظة جودت سعيد أن الصراع على السلطة أرهق العمل الإسلامي وقاد إلى كوارث، من دون أن يعني بقوله هذا التمهيد للاستسلام والقبول بالسلطات القائمة، بل بالأحرى التشديد على أهمية العمل المدني والإصرار على رفض العنف، نقول إن هذه الملاحظة تشكل أساسًا لخطة عمل كاملة تستحق أن يُبنى عليها ويُهتدى بها. ويجد صاحب هذه السطور أن هذا الخط من النضال المدني يشكل، على وعورته ومشقته، بصيص الأمل في أن يمتلك السوريون تاريخهم ويستعيدوه من يد سلطات تتوالد بالعنف ومن العنف وتتشابه أكثر بكثير مما تختلف.
لكن ما يستوقف المرء هو أن يرحّب سوريون معارضون كثر بالعنفية وبالسلمية معًا، بالسلاح وبرفض السلاح، في الوقت نفسه. ومن اللافت أن يلقى صاحب هذا الفكر السلمي المدني “المتطرف” في رفض العنف، التقديرَ من نخبة سورية أظهرت وتظهر القدر نفسه من التقدير لمن هم على ضفة مغايرة أو معاكسة، نقصد رموز العمل المسلح وأبطاله على مسار الصراع السوري المستمر. ليس الغرض من هذا القول استنكار موقف هؤلاء السوريين، ولا استهجان المفارقة المذكورة، بل نقدها ومحاولة فهم دلالتها.
على تباعد نظرة وتفكير “غاندي سورية” أو “غاندي العالم الإسلامي” وتصوّره للتغيير، من نظرة وتفكير رموز الثورة المسلحة في سورية، فهناك ما يجمعهما وهو معاداة نظام الأسد. التقدير الذي يظهره هؤلاء السوريون للطرفين إذن هو في الواقع تقديرٌ للموقف المعارض للطغمة الأسدية، بصرف النظر عن التباينات في الوسائل بين أصحابه. المهم أن تكون في الموقع المعارض. ومن نافل القول أنه ما كان الشيخ سعيد ليحوز ذلك المستوى من التقدير، لو لم يكن موقفه المعارض لنظام الأسد صريحًا. هذا هو الأساس الذي يشرح المفارقة المذكورة، نقصد الجمع بين تكريم داعي السلمية وداعي العنف في الوقت نفسه.
لم يتبلور لدى السوريين، خلال عقود القمع السياسي التي عاشوها، تصور أو نظرية معتبرة، بشأن سبيل التغيير الممكن في بلدهم. الأحزاب السياسية التي عارضت، إلى هذا الحد أو ذاك، نظام الأسد، خلال هذه العقود، رسمت تصورات مختلفة، منها السلمي الذي ينتظر (أو يحرض على) ثورة شعبية تغير النظام، ومنها العنفي الذي يرى أن التغيير لا يمكن بدون عنف تتولى إطلاقه “طليعة” مقاتلة، ومنها من وجد أن السبيل الوحيد للتغير هو “الإصلاح”، وأن الالتحاق بالنظام والعمل من الداخل أجدى من المواجهة المحسومة النتائج معه. الواقع أن كل هذه التصورات فشلت، ولم يبلور السوريون بعد هذا الفشل، الذي تجلى واضحًا في السنوات التي تلت مجزرة حماة (شباط 1982)، تصورًا عن سبيل محدد للتغيير.
لكن ما تبلور بشكل حاسم لدى معظم السوريين، على اختلاف تصوراتهم عن سبل العمل، هو رفضهم النظام السياسي الذي أزرى بهم وببلدهم، والذي بدا، إلى ذلك، مؤبدًا. وهكذا حين خرج السوريون، بعد طول انتظار، يعبرون عن رفضهم، لم يكن لديهم تصور مشترك ومفكر فيه إلى الحد الذي يجعلهم يقاومون المجرى “الغريزي” للحدث. هذا ما يفسّر عبارة “كنا مرغمين على حمل السلاح”. والحق أنه لا يمكن الشك في أن مواصلة الاحتجاج ضد نظام من طبيعة نظام الأسد كانت تستدعي حمل السلاح، فقد كان من غير الممكن استمرار المسار السلمي الحاد (التظاهرات وغيرها من السبل السلمية) أمام تمادي نظام الأسد بالعنف.
مع ذلك، يبقى السؤال الذي على السوريين حسمه: هل استمرار الاحتجاج بالسلاح أفضل من التوقف عن الاحتجاج في لحظة ما، تحت ضغط العنف؟ يبدو هذا السؤال ثقيلًا، لأنه يوحي، في جانب منه، بالعجز: إما أن تواصل بالسلاح وتنتهي بكوارث، وإما أن تستسلم لأن الاحتجاج السلمي لا يستمرّ في مواجهة القمع الوحشي. غير أن هذه قراءة خاطئة للسؤال؛ فالسبيل السلمي الذي دافع عنه الشيخ الراحل لا يقتصر على التظاهرات والسبل الاحتجاجية السلمية الأخرى، بل هو عمل مستمر ويومي، ولا يقتصر على لحظات الذروة التي تتجلى في الاحتجاجات الشعبية الواسعة.
العمل المسلح أو التغيير بالعنف لا حضور له إلا في لحظة الذروة، إنه فعل مقطوع بطبيعته عن السياق الطبيعي لحياة المجتمع، ولا وجود له خارج لحظة الاحتدام الأقصى للصراع. أما العمل السلمي فهو عمل مستمر، لا تشكل الذروة فيه أيّ أشكال الاحتجاج السلمية الواسعة، مثل التظاهرات والإضرابات والعصيان المدني، سوى استمرارٍ للعمل التغييري السلمي الملازم للحياة اليومية، من تضامن مدني ونشر وعي مدني وحقوقي “حتى يُغيّروا ما بأنفسهم” (الآية التي جعلها الراحل عنوانًا لأحد كتبه، وجعل شرحها متنًا للكتاب)، وكشف حالات القصور والفساد والتعدي والتعذيب، بحيث يصبح الناس أكثر وعيًا بمجتمعهم. ولا ينبغي أن يكون غرض هذا النضال المدني السلمي اليومي وانشغاله الأساسي هو الوصول إلى إدانة ورفض السلطة السياسية القائمة، وإن كان هذا تحصيل حاصل، بل الأساس هو إدانة ورفض التقصير والفساد والتعديات على حقوق الناس، بحد ذاتها.
على هذا؛ فإن التظاهرات والإضرابات العامة ليست سوى اللحظات الحادة في اللاعنف الذي يدعو إليه صاحب “مذهب ابن آدم الأول”، بل هو عمل يومي تراكمي مديد وشاق، ولكنه العمل الوحيد المجدي والذي يجعل الناس يمتلكون تاريخهم، ويعيد للناس ما للناس.
نشكر لكم استاذ راتب هذا العرض المتأني العميق.
الي يعكس وعيا فكريا اجتماعيا سياسيا متميزا.
واتمنى أن يلقى ما كتبته الاهتمام الذي يستحق في الأوساط التي تنتسب للثورة أو تنتسب للاسلام أو تنتسب للمجتمع المدني
لابد من كلمة شكر استتاذ راتب،
لما في المقال من إيضاح لجوانب اهملها او غفل عنها او لم يعيها كثيرين ممن غالو في رفض فكر الاستاذ جودت،
وأهمل توضيحها كثيرين من محبيه،
أضف الى ما تفضلت به ان جودت رحمه الله لم يتنكر للجهاد كفريضة قرآنية عندما تستوف شروطها،
وإنما رفض الحركات التي سميت جهادية باعتبارها أخرجت هذه الفريضة عن مقاصدها ولم تستوف شروطها،
وارادت ان تسميها جهاداً!؟.
وجودت اطلق عليها اسم العنف باعتبارها ليست جهاد حينما افتقدت شروطها ولم تحقق مقاصدها،.