ورقة عمل مقدمة في ورشة عمل مركز حرمون حول المرحلة الانتقالية في 27 و28 تموز/ يوليو 2016 بالدوحة

 

سورية هي جغرافيا وتاريخ ارتبطا منذ أكثر من سبعة الاف عام بتكوينات مجتمعية عُرفت على مر العصور والحقب، بتنوعها وتعايشها وغناها ودورها كمركز وملتقى، تفاعلت على أرضه الحضارات والأديان، وكجسر تُعقد وتمر عبره العلاقات الاجتماعية والاقتصادية.
سورية مجتمع معقد بتركيبه، شّكل دولة منذ سبعين عامًا (منتصف أربعينيات القرن الماضي) ضمن حدود جغرافية مرسومة، لم تعرفها أبدًا سورية في تاريخها الطويل. حاول السوريون بكل مكوناتهم وأطيافهم بناء هذه الدولة الجديدة، وترسيخ مقوماتها، رغم كل الانتكاسات والمطبات التي مرت بها: الانقلابات العسكرية، الوحدة مع مصر، وانقلاب البعث، والنظام الأسدي منذ 1970.
وكذلك سورية ثورة قامت في آذار/ مارس 2011 ضد الاستبداد والفساد، ومن أجل الحرية والكرامة. يسعى السوريون من خلالها لملمة حالة وطنية متشظية، وتحقيق طموحاتهم عبر عقد اجتماعي جديد، يرسي لدولة وطنية حديثة، ومجتمع ديموقراطي تعددي يمهد لانطلاق جمهورية سورية ثالثة.

لن أتطرق في هذه المداخلة إلى إشكالية إيجاد تعريفات واضحة ومحددة، لبعض المقولات والمفاهيم والتعابير المستخدمة في هذه المرحلة المضطربة والخطرة، التي نعيش أحداثها وتحولاتها: المجتمع، الأمة، الشعب، المواطنة، الدولة، ولا سيما مفهوم الهوية الذي تناوله الأخوة في مركز حرمون -وحدة دراسة السياسات في إصدار تموز 2016 تحت عنوان “الهوية السورية المبددة: هل في وسع السوريين استعادة هويتهم الوطنية الجامعة؟” عنوان مربك يُطلق قضية/مسلمة ويفترض واقعا مثيرًا للجدل، ثم يطرح سؤالًا كبيرًا أعتقد أن معظمنا هنا في هذه الورشة يجد صعوبة في الإجابة عليه، على الأقل ضمن إطار
تداعيات التطورات الميدانية على المسار السياسي، وتحديات الصراعات الاجتماعية الممتدة، وانعكاسها على مستقبل سورية.

كيف يبدو المجتمع السوري اليوم في عام 2016، كحصيلة لتاريخ طويل يتجاوز تاريخ إعلان الدولة السورية؟

1- يبدو كمجتمع تمييزي منقسم بين جماعات أهلية طرفية، وأخرى أهلية مركزية:

– جغرافيًّا؛ ريف (طرف) مدينة (مركز)، ومديني ضد ريفي وبالعكس.
– سكّانيًّا؛ قبلي (مركز في الشرق وطرف في الغرب) حضري (مركز في الغرب وطرف في الشرق).
– دينيًّا؛ مذهبيًّا مسلم سني (مركز) مسيحي، علوي، درزي، إسماعيلي (أطراف)، اجتماعيًّا أكثرية مقابل أقليات، سياسيًّا، أقلية ضد أكثرية
– قوميًّا؛ إثنيًّا عربي (مركز) كردي، سرياني أشوري، تركماني (أطراف)
– جندريًّا؛ ذكوري ضد حقوق متساوية للمرأة

2- يبدو مجتمعًا فاقدًا لهوية سياسية وطنية جامعة:

– لم تأخذ الهوية الوطنية السورية الجامعة، كما أشرنا، وقتًا كافيًا للتبلوُر، وعملت بعض الأحزاب السياسية والانقلابات ومنظومة الاستبداد والفساد على ترسيخ هويات عابرة للحدود وإبقاء الهوية الوطنية أضعف.
– تم تقوية الهويات الأهلية الدينية والقومية، في إطار المحافظة على السلطة، على حساب الهوية الجامعة؛ فقد تم على نحو متعمد طمس طبقة الانتماء إلى الهوية الوطنية، واستخدمت الطبقات التي قبلها والتي بعدها لمحوها، تلك العملية هي جزء من عملية نزع السلطة من الشعب.
– الخروج من السياسة أدى إلى سلسلة من التداعيات بينها تقوية الهويات الأهلية.
– الانكفاء نحو هويّات دون الهوية الوطنية الجامعة، جاء في إطار الدفاع عن النفس والاحتماء بها، أمام تغول السلطة، وحرمان شبه مطلق للمكونات من حقوقها.

3- يبدو كمجتمع مشتت، تعرض للدمار والقتل والتشريد بجميع أشكاله (التهجير، النزوح، اللجوء) أنتجت حالات توتر واحتقان، وخاصة في المناطق التي يوجد فيها احتكاك طائفي وقومي، مثل حمص أو منطقة الغاب أو حلب وريفها أو الحسكة، تؤدي إلى تحولات وتغيرات جوهرية في طبيعة السوريين، وترفع مستويات العنف في تكوينهم النفسي راهنًا، وسيكون لها ارتدادات في المرحلة الانتقالية، وربما لأجيال مقبلة. إضافةً إلى ما تعمل أطراف عديدة لإحداث تغيير في بنية المجتمع السوري الديموغرافية، لأسباب سياسية تتعلق بإحكام السيطرة عليه، أو على المنطقة ضمن صراع دولي وإقليمي.

من دون شك، إن عددًا من هذه الانقسامات العامة يمكن أن يبدو أبعد من السياسة، ويمتد نحو الثقافات المنتشرة في المنطقة، وعدد آخر نشأ بعوامل سياسية محلية بحتة ظهرت نتيجة سياسات الأنظمة وممارساتها ، لكن تقاطع هذه الانقسامات الدينية والمذهبية والقومية، وتداعيات الصراع في/على سورية تنعكس على بعض السيناريوهات المتداولة، التي قد تفضي ليس فقط إلى تداعٍ وتمزيق في المجتمع السوري؛ إنما إلى انهيار الدولة السورية وتفكّكها.

هل يمكن ترميم المجتمع السوري؟ وما الإجراءات التي تدفع السوريين للتصالح والتوافق من جديد، حول طبيعة سورية المقبلة وسبل العمل المشترك؟

تشير معطيات الواقع الميداني، والمواقف السياسية الإقليمية والدولية، إلى ترجيح استمرار الوضع الحالي للصراع على ما هو عليه؛ الأمر الذي يؤكد عدم قدرة أي من الطرفين، لا قوى الثورة والمعارضة ولا النظام، على حسم الموقف أو تحقيق انتصار ساحق في مواجهة الآخر، لذا فان الصراع سيدخل، على المديين القريب والمتوسط، مرحلة الجمود أو التجميد على الأقل على الصعيد السياسي.

على أي حال، من دون التوافق على حل سياسي وفق بيان جنيف وقرارات الشرعية الدولية، لا يمكن الحديث عن إعادة بناء المجتمع السوري، أو تعافيه، وعلى العكس تمامًا، سيضاف إلى هذه الحالة من الصراع والتداعي التي تسبب بها النظام الأسدي منذ عام 1970 وحتى اليوم، عوامل جديدة، ناتجة من آثار هذه الحروب على الشعب السوري، وخاصة مع وجود عنصر إيراني نافذ في سورية، فإن تغييرًا عميقًا في بنية المجتمع وسياسات إخضاعه، أصبح أمرًا محتمًا، يمثّل خطرًا بالغًا على المجتمع نفسه.

في محاولة لعرض بعض الأفكار والمقترحات في قضية لا أدري، حقيقةً، التعبير المناسب والدقيق لوصفها، وتحديد حدودها ومعالمها؛ أهي ترميم أم إعادة بناء؟ أم استعادة عافية؟ وخاصة أنّ الموضوع لم يأخذ بعد الأهمية والمكانة اللازمة لدراسته، وإجراء البحوث والطروحات عنه فيما يبدو. وفي العجالة التي طُلب مني فيها المشاركة في هذه الورشة؛ أطرح هذه النقاط، كبداية ومحاولة لوضع محاور وآليات وجدول زمني على مرحلتين:

الأولى: تمهيدية يجب أن تبدأ من اللحظة الراهنة
تستهدف هذه المرحلة إبراز المعنى العميق للحل السياسي المنشود بوصفهِ انتصارًا عظيمًا. وهي بهذا المعنى، عملية تمهيد نفسي لملايين السوريين المكتوين بجرائم النظام، بغية نقل معنى الانتصار من انتصار على الآخر المختلف (الموالي، العلوي، الرمادي) في مستواه الاجتماعي والهويّاتي، إلى مستواه السياسي الوطني، بوصفه انتصارًا عظيمًا للشعب على نظام شرس متوحش، على الرغم من جميع ما تلقاه من دعم غير مسبوق، وعلى الرغم من تخاذل المجتمع الدولي وصمته عن جرائمه.

– التركيز على أن المولاة للنظام لم تقتصر على طائفة بعينها، بل ضمّت كل الطيف السوري، وأن هناك كثيرًا ممّن لم يتمكنوا من إظهار معارضتهم للنظام، أو مشاركتهم في الثورة، نتيجة وجودهم في مناطق تحت سيطرة النظام.

– الإشارة إلى وجود ضحايا أبرياء سوريين، ممّن يعيشون في بيئات موالية، فهم أيضًا تعرضوا إلى أمور مأسوية مماثلة على يد تنظيمات متطرفة، أو جهات تحسب على المعارضة بشكل أو بآخر.

– إن من شارك في جرائم من الطرفين لا يمثل إلا نفسه.

– إعادة السوريين إلى السياسة في نظام يعبر عنهم، ويشرك الجميع في العملية السياسية في كل مستوياتها، ويطورعلاقة الأطراف مع المراكز.

– بلورة خطاب سياسي وطني على أساس الهوية الجامعة، يلامس إحساس السوريين بطبقات انتماءاتهم دون أن تتعارض معها. خطاب يموضع الهوية الوطنية في مكانها الفعلي، ضمن بيئة قانونية دستورية، تكفل حقوق وخصوصيات جميع مكونات الشعب السوري.

طبعا، نقل هذه النقاط من مستواها النظري، وتفعيلها ضمن إطار تنفيذي مشترك يعتمد على وسائل الإعلام، وورشات العمل واللقاءات ونشاط مؤسسات المجتمع المدني، وأطر المعارضة والمؤسسات الدينية ورجالها، والمراكز البحثية.

المرحلة الثانية: تبدأ مع بدء المرحلة الانتقالية

تتم بإشراف الهيئة الحاكمة الانتقالية، ومؤسساتها المختصة بقضية المصالحة والمسامحة وجبر الضرر. لا سلام من دون عدالة وتطبيق مقتضيات العدالة الانتقالية بصيغة سورية، تخفف من حدة الاحتقان ودوافع الانتقام. لكن هذا لا يعني عدم دراسة العدالة الانتقالية، والمقارنة بها، والاستفادة من تجارب تطبيقها، في دول ومناطق صراع أخرى، عاشتها في السنوات الأخيرة (تشكيل فريق عمل).

– عمليات الوساطة: عبر تكثيف اللقاءات المباشرة، بين وسطاء من النخب التي تحظى بالشرعية (المرجعية) في البيئات المحلية، في مناطق التماس لطرح الهواجس والمخاوف على بساط النقاش والبحث، بهدف التخفيف من التشنجات، والشعور بالغبن، والسعي لدفع الطرف الأقل تضررًا، للقيام بإجراءات ملموسة ذات طابع اجتماعي وإغاثي، لصالح المناطق الاكثر تضررًا، ودعم النشاط الثقافي الذي ينهل من موروث العيش المشترك، وينعش الذاكرة الشعبية حول محطات ناصعة، عكست حالات التعاضد والتضامن الاجتماعي بين مختلف المكونات.

– عمليات التأطير: إطلاق منظمات المجتمع المدني التي تنهض بمهمات لا تبلغها الدولة بمؤسساتها الحكومية، وإنشاء مؤسسات أهلية توفّر فرصة لتلاقي الناس من مختلف المناطق، في أعمال مشتركة، من شأنها إعادة الثقة بين المواطنين، وإعطاء معنى ودور مهمّ وفعال للمواطن في بناء مستقبله.

– معايير: نتيجة التعقيدات المتوقعة واختلاف طبيعتها ودرجة حدتها من منطقة لأخرى، فلابد من أن تتوافر في البرامج مرونة كافية، وأن تمنح اللجان المحلية التابعة للسلطة التنفيذية في المنطقة، صلاحيات كافية لاتخاذ قرارات مناسبة في زمن مناسب، ومن هنا، فإن عامل انتقاء الشخص المناسب لكل مهمة، يجب أن يكون من الأولويات في المعايير المتبعة.

– التمييز الإيجابي: يجب أن تراعي، وفق معايير مبنية على دراسات وإحصائيات دقيقة، برامج إعادة الإعمار والتوطين وتوفير الخدمات والتعويضات لسكان المناطق الاكثر تضررًا والاكثر هشاشة، وتراعى فيها خاصة الاولوية لمناطق الاحتكاك، والتماس المباشر.

– الإدارات المحلية: إعطاء صلاحيات واسعة للإدارات المحلية في المحافظات والمناطق والنواحي والقرى الكبرى، بما يتيح لها سرعة الإنجاز وطمأنة المواطنين، عبر مشاركة ممثلين عنهم في السلطة التنفيذية، وفي لجان الرقابة وتقديم الخدمات.

هذه دفعة أولية لأفكار ونقاط، غايتها لفت الانتباه والتركيز على أهمية عملية ترميم المجتمع السوري وخطورتها؛ وكخطوة أولى، دعوة المراكز البحثية التي تتابع الشأن السوري لإطلاق ورشات عمل متخصصة بهذا البحث، وتحضير أرضية حوار ونقاش تقود، على الأقل، إلى محاولات الاجابة على التساؤل المصيري والمفتاحي الذي طرحه الزملاء في مركز حرمون: هل في وسع السوريين ترميم مجتمعهم واستعادة هويتهم الوطنية الجامعة؟