يربط بعض المفكرين العرب حالة التردي الحاضرة في الأوضاع العربية، إلى ذلك الحدث الحاسم في مسيرة تاريخ العرب الحديث، والذي يتعارف العرب على تسميته بـ “هزيمة 5 حزيران/ يونيو 1967″، ليس فقط لأن الهزيمة شهدت انهيار حلم الجماهير العربية، وكشفت عن الحقائق الفعلية، نتيجة تلك الصدمة المريعة التي تعيشها مجتمعاتنا العربية حتى الآن، بعد مرحلة الاستقلال الوطني، بل لأن الهزيمة كانت حدًا فاصلًا، وبداية لسلسلة من الهزائم السياسية والعسكرية وحتى الفكرية التي تكبدها العرب.
بعد تلك الهزيمة، دارت حوارات بين النخب السياسية حول العلاقة مع “إسرائيل”، إلى أن تجرأ بعضهم واجتاز الخطوط الحمراء، التي وضعتها الجماهير العربية، واندفع نحو “التطبيع” كمفهوم سياسي وحتى ثقافي، وصار هذا المفهوم أحد الموضوعات المطروحة للنقاش في الحياة السياسية والثقافية العربية، لا بل أصبحت معظم الطبقات الحاكمة، تعلن صراحة أن التسوية “السلمية” مع ذلك الكيان الصهيوني، هي هدف استراتيجي لذلك الكيان، ومن المشروعات التي خطط لها الفكر الصهيوني، بمساعدة الولايات المتحدة، التي زادت من ضغوطها على معظم الأنظمة العربية للسير في ذلك الطريق المملوء بالأفخاخ والألغام المتفجرة.
تضمن مفهوم (التطبيع) نقطتان أساسيتان: أنه مصطلح سياسي فرضته الحرب بين العرب و”إسرائيل” على اعتبار أن العرب هو الطرف المهزوم عسكريًا، وأنه هدف استراتيجي بالنسبة لـ “إسرائيل”، وهو حاجة دائمة بالنسبة لها، أما بالنسبة للعرب، أو الأنظمة العربية، أو بعضها، فلم يطرح كمشروع سياسي، بل مسألة ظرفية، تحكمها عوامل المتغيرات السياسية الدولية، وهزائم تلك الأنظمة العربية وخذلانها وعدم القدرة على التكيف مع الأوضاع المستجدة، في غير صالح القضايا العربية، وكذلك تفرد الأنظمة العربية، باتخاذ القرارات الحاسمة بمعزل عن إرادة الجماهير.
يمكن القول، إن توقيع اتفاقية “التسوية” بين مصر و”إسرائيل”، بعد زيارة الرئيس أنور السادات إلى القدس، كان كمؤشّر أول شجع الأنظمة العربية أو بعضها للقبول بما تفرضه الولايات المتحدة على تلك الأنظمة العربية، والتهافت الذي صدر عنها، كل ذلك أيضًا يعكس الرغبة في التخلص من المشكلة نهائيًا، حسبما تراه تلك الأنظمة. رغم ذلك، لا يمكن إغفال الأثر السيء لمعاهدة “كامب ديفيد”. لأنها جاءت على أيدي حكام أهم قطر عربي، كما أن تلك التسوية، أوهمت المسؤولين عنها، وبتشجيع من الولايات المتحدة، بإمكانية وضع حد للمشاكل الاقتصادية التي يعانيها النظام، وهي لعبة لم تمثل مصر فيها إلا دور الحالم، حيث تكشفت عن أنها لم تكن سوى حيلة انطلت على نظامها آنذاك.
لكي تدعم “إسرائيل” فكرة إلغاء المواجهة بينها وبين الأنظمة العربية، حسب تصورها، أخذت تطرح مفاهيم أسمتها مفاهيم المعايشة مع العرب، من خلال تصورات ومخططات، وبدعم من الولايات المتحدة، بهدف إلغاء الاعتبارات القديمة، وحتى المفاهيم حول العروبة والإسلام، وإحلال مفاهيم جديدة بديلة، مثل فكرة الشرق الأوسطية وغير ذلك، وقد وجدت هذه الطروحات هوىً لدى بعض الأنظمة العربية، وهذا القصور في الفهم أو التخطيط لا ولن يخدم بالطبع سوى المطامع الإسرائيلية ومن ورائها الولايات المتحدة، بجعل الوطن العربي، والمجتمع العربي، موزاييك متنافر، وبالتالي تغيير اتجاهات التطلعات العربية، في الوحدة وفي أسباب قوة الأمة العربية.
وبهذا، فإن المتتبع لملف الصهيونية ولمختلف تحركاتها، يلاحظ أن الجوهر العنصري الذي تستمد منه إيديولوجيتها، يفرض عليها أن لا تقبل بأدنى تعايش أو توافق مع الجماهير العربية، انطلاقًا من مبدأ الاستعلاء العرقي، وأوهام (شعب الله المختار) وسياسة مختلف الحكومات الإسرائيلية، يمينها ويسارها، كافية للتدليل على ضراوة العداوة التي تكنه الصهيونية للعرب، وهي كافية، لتعلن للعرب جميعًا، وللحكام العرب خصوصًا، سوء منقلبهم وفداحة خطئهم في القبول بالتسويات المطروحة، لأن الصراع مع ذلك الكيان سيبقى صراع وجود، وليس صراعًا على الحدود.
وهنا أيضًا، لا يذهبن في اعتقاد البعض أن ما يسمى النظام الدولي الجديد، الذي يسعى إلى أمركة العالم، كفيل أن يغير من المفاهيم والقيم الإنسانية للشعوب والحضارات الأخرى، ويمحو كل ما هو غير أميركي، حسبما يعتقد فوكويوما أو سواه من المنظرين الأمريكيين. فالنظام الذي تطرحه الولايات المتحدة هو نظام قائم على التدمير أو على الأقل التهميش، وعلى مبدأ “كل من ليس معنا فهو عدو لنا”، فهو ليس نظامًا قائمًا على توازن المصالح، ولا على أولية القضايا الإنسانية، أو الوفاق والسلام والعدل في العالم.
أما “إسرائيل”، فلا تقف في مفاهيمها الاستراتيجية الأمنية جامدة، إنما تتحرك وفق المتغيرات الدولية، وتتحرك بمهارة في آفاق متعددة، مما يستدعي إدخال تعديلات في مخططاتها حسبما تقتضيه تلك المتغيرات، وتُدخل مصطلحات جديدة، مثل “العمق الاستراتيجي” و “حدود يمكن الدفاع عنها”، و”أمن الشريط الحدودي”، وهي مفاهيم تعكس العقلية الإسرائيلية، التي لا تقف أطماعها عند حد معين، وقد استخدمت هذه المفاهيم الاستراتيجية وطبقتها، في اجتياح لبنان، وفي ضرب المفاعل النووي العراقي، ثم في تدمير قوة العراق العسكرية، ثم في دعم الأسد من وراء ستار في حربه ضد شعبه.
كما طبقت إسرائيل تلك المفاهيم أيضًا من قبل، باحتلال البقية الباقية من فلسطين، وشبه جزيرة سيناء، والجولان، وتلحق تلك الأعمال بفرض مشروط على المنهزمين، مثل المناطق المنزوعة السلاح، وإحباط أية قدرات عربية لتطوير تسليحها، أي تكون البلاد العربية منزوعة السلاح الاستراتيجي، ويجري ذلك بمساعدة الولايات المتحدة، والأخطر من كل ذلك، أن تقوم الولايات المتحدة ذاتها بتواجدها عسكريًا في كثير من الأقطار العربية إن لم يكن في أغلبها، وبهذا أصبح الأمن القومي العربي مرهونًا ورهينة للأمن الإسرائيلي.
يُروَّج لجميع هذه الطروحات والمصطلحات، من قبل الإسرائيليين والأميركيين في تناغم يكاد يكون منسقًا ومخططًا، بهدف إدخال اليأس إلى عقول الجماهير العربية، لتستطيعا بعد ذلك الحصول على وضع شعبي ورسمي عربي، يسهل لهما تمرير مشاريعهما، والانتهاء من حالة القلق التي ولدتها الطروحات القومية العربية، والمشروع العربي النهضوي، وبالتالي يصبح وجود الكيان الصهيوني والهيمنة الأميركية مقبولان، لا بل مرحبًا بهما، لكن قد يغيب عنهما أن مصير الشعوب لا تقرره الطائرات والدبابات وأسلحة الدمار الشامل، بل إرادة الدفاع والتصميم على تحقيق النصر مهما كانت التضحيات، وعلى الأنظمة العربية أن تعي تلك الدروس قبل فوات الأوان قبل أن تدق نواقيس الخطر.
يجب على الولايات المتحدة أن تعي، أن نظامها الدولي الذي تفرضه على العالم أجمع سوف لن يصبح بالضرورة أقل أزماتيًا، عن ذلك الذي انقضى، لهذا، فإن نظام الأمن الجماعي الذي تريد الولايات المتحدة فرضه بالقوة، يوجب القيام بإجراءات جديدة، توجه لخلق الثقة بين دول وشعوب العالم، واحترام ثقافاتها وتطلعاتها، لأن هذه الشعوب ليست جاهزة أو مستعدة للتخلي عن سيادتها أو ثقافتها، وإنه من غير الممكن، إقامة نظام جديد من الأمن الشامل، طالما استمرت المشاكل الخاصة بالحدود والطموحات المتعلقة بالمصادر الطبيعية، والسيطرة على التنمية.