عندما يصبح البعض جاهزًا لزرع الموت في البراري والأرياف، فهذا يعني، أن الكل قد بيع، فعلى سبيل المثال، لا الحصر، قبل بعض المسؤولين، في بعض الدول العربية، والدول الإفريقية، كسورية وسيراليون وغينيا بيساو وكينيا وغيرها، وبسبب العمولات المختلفة، والرشوة والفساد، وبموافقة من مسؤولين في قمة السلطة أو أبنائهم أو عملائهم، بطمر نفايات صناعية سامة، ونفايات ذرية، تحت تربة بلادهم، لقاء عمولات متفق عليها، وهي حقًا عقود شؤم، تُسبب الغثيان بسبب الجشع، إنهم حقًا تُجّار الموت، فبعد أن تم القضاء على تجارة العبيد نسبيًا، وبعد أن أقام البعض بجمع ثروات طائلة، باعتمادهم على نهب المواد الأولية، التي انتزعت من بلدان العالم الثالث بأسعار بخسة، جاء دور تجارة الموت، وهكذا يرتكب بعض حكام العالم الثالث أو بعض المسؤولين فيه، بقبول تسميم الشعوب المغلوب على أمرها، وإتيان الكثير من المصائب، كالأكثار من إصابات السرطان، لتضاف إلى المضائب الأخرى العديدة التي تُعاني منها تلك الشعوب، وهكذا، فما أن يغيب أو يتغيب الرأي العام الحر، ووسائل الإعلام الحرة، في البلدان التي يحكمها الطغاة والمستبدون والمفسدون في الأرض، حتى تحدث مثل تلك الفضائح.
كان هناك أمثلة عديدة فضحتها بعض وسائل الإعلام، لأسباب مختلفة، كما حدث وأن ذكرت الواشنطن بوست،، في عددها الصادر بتاريخ 27/ 11/ 1980 أن شركة أميركية، عرضت 25 مليون دولار على رئيس سيراليون آنذاك، المفسد جدًا، والمدعو سياكا ستينفس من أجل أن يقبل استقبال نفايات سامة صناعية في بلاده، لكي تُطمر أو تُقبر فيها، وقد جرى الكشف عن خمسة آلاف طن من نفايات الزئبق القاتلة في المكسيك عام 1981، كما جرى الكشف أنها جلبت بطريقة غير مشروعة، من الولايات المتحدة، وبالطبع بعد أن جرى دفع ما يلزم للمسؤولين أو عملائهم، أو كلاهما.
من الفضائح الأكبر، التي اكتشفت، هي ما أعلن عنها من قبل الصحافة البرتغالية، إذ قبلت غينيا بيساو، البلد الإفريقي الغربي الصغير، المجاور للسنغال، أن تستقبل على أرضها فضلات سامة، قادمة من بلدان أوربية، ومن الولايات المتحدة ومن استراليا، حيث جرى التوقيع على اتفاقيتين، مدة صلاحيتهما من 5 إلى 10 سنوات، من قبل سلطات ذلك البلد، من أجل دفن نفايات ذات منشأ صيدلاني سام، وتضمنت الاتفاقية الأولى عقدًا مع الشركة السويسرية، المعروفة، تحت اسم (لنتركونتراكت) ومقرها في فريبورغ، كميات تتراوح بين 50 ألف ونصف مليون طن، حسب الحاجة. أما الاتفاقية الثانية، فكانت مع الشركات البريطانية المعروفة، تحت اسم “اكسبورت بيز إمبورت المحدودة”، ومقرها في لندن، ثم مع شركة “هوب داي” المحدودة، وبحجم سنوي، يصل إلى ثلاثة ملايين طن، وقد اشترط أن تكون النفايات في أوعية، تتسع لعدة مئات من الليترات، أو ضمن حاويات خاصة، وذلك قبل أن يتم دفنها، على أعماق تتراوح بين 6 و 15 مترًا في باطن الأرض. وتضمّن العقد أن تتلقى غينيا بيساو، أو المسؤولين عن تلك الصفقة فيها 4 دولار عن كل طن من النفايات يطمر في أراضيها. وتوجد المناطق التي اختيرت لتلك العملية قريبة من حدود السنغال، وليس بعيدًا عن نهر جيبا وترجع الاتفاقيات إلى رئيس جمهورية غينيا بيساو شخصيًا، كارلوس نينوفيبرا، بعبارة أخرى لا يمكن أن يكون جاهلًا بما حدث، على الأقل وكان لسكوته ثمن معلوم، وقالت وسائل إعلام إن كل ذلك جرى بسبب العمولات الكبيرة، التي دُفعت إلى المسؤولين.
هذا وكان أن تم الشروع بتلك العملية، وإعداد أكثر من موقع لدفن النفايات، وذلك بإقامة طبقة كتيمة نسبيًا، مكونة من طبقة من 3 إلة 5 أمتار، وباستخدام نشاطات زراعية سطحية. وقد عهدت حكومة غينيا بيساو، للإشراف على العملية، إلى المكتب الفرنسي “أوريتاس”، أو بالأصح إلى فرعه المسمى “تكنتاس” للقيام بتلك العمليات. وقد كشف رولان دوفيفييه وأصدقاؤه من علماء البنية، وبعد وقت قصير، أن الشركتين البريطانيتين، ليستا في الحقيقة، سوى شركتين ستارتين لحماية الشركة الأميركية “لنداكو”، من دوترويت في ميشغن، ويضاف إلى الأموال المقدمة، مقابل تحويل البلاد إلى مزبلة نفايات سامة، تنشر الموت فيها، هناك أيضًا اتفاقية تجارية، بأنها كانت تعمل أيضًا لحساب شركات إيطالية، التي اقترحت تجهيز مدينة بيسو بشاحنتين، أو ثلاث شاحنات، من النوع القلاب للقمامة، وكذلك محرقة للنفايات. وكان الأمريكيون أكثر كرمًا، فعرضوا عليهم تجهيز ميناء بيسو على نفقتهم، وكانت في الوقت نفسه، تقوم الشركة السويسرية، بمفاوضات مع السنغال وموريتانيا، ولقد نفت حكومة غينيا بيساو أي علم لها بهذه الاتفاقيات في البداية، إلى أن قام رولان دومفيفيه بتوزيع نسخ فوتوغرافية عن تلك الاتفاقيات إلى الصحافة وعندها لم ترد السلطات المسؤولة على ذلك. أخيرًا، وبعد جدل طويل، بين أخذ ورد، أرسلت سلطات غينيا بيساو في نهاية حزيران/ يونيو عام 1988، برقية إلى شركة “لنداكو” لوضع حد للمفاوضات، لكونها تواجه حملة دولية أطلقت ضد حكومة غينيا بيساو، وإنها تأسف لتعليق جميع النشاطات والمفاوضات في نطاق ذلك المشروع.
جرت إشاعات عن طمر حمولات من النفايات الذرية قادمة من لو آفر في فرنسا، في كل من آلوماي دينيان، عمليات أثارت الاستياء في أوساط السكان المحليين، والذين تظاهروا علنيًا، وذلك قبل عدة أسابيع من تفجر مشكلة غينيا بيساو تلك. وكتبت بعض الصحف الدولية كجريدة لوموند بتاريخ 30 آذار/ مارس 1991، وبحذر شديد، حول ذلك الموضوع، تحت عنوان إفريقيا، وخطر النفايات القاتلة. ثم قدم تقرير سري، أكثر تفصيلًا عن حمولات من النفايات القادمة من برست. في الوقت نفسه، انطلقت حركات معارضة ومقاومة بي بينان، أطلقت نداءً للبرلمان الأوروبي، طالبت فيه، أن يقوم وفد من أعضائه بتفحص موضوع تصدير النفايات الذرية السامة القادمة من البلدان الصناعية لتدفن في بعض بلدان إفريقيا. واحتجت حركة المعارضة هذه على توقيع عقد بين الشركة البريطانية “سيسكو – جبل طارق”، بشكل خاص، والتي ستشرف عليها، فيما بعد مصالح جنوب إفريقيا، مع حكومة بينان من أجل إلقاء 5 آلاف طن من النفايات السامة الصناعية القادمة من أوروبا والولايات المتحدة، في العام، حسب بيان حركة المعارضة، على أن تلقى في المنطقة المستنقعية في أجيجة، الواقعة على مصب نهر أوويميه. وحسب بيان صادر عن حركات المعارضة، قد اختفت قبيلة توفان، التي كانت تعيش في قرى على أطراف أجيجة، ضحايا وباء الكوليرا، وأمراض غامضة، بالإضافة إلى أمراض سببتها تلك النفايات. وقد وجه البرلمانيون الأوروبيون نداءً من جديد لوقف مثل تلك الأعمال الفتاكة وأرفقوا بندائهم صورة طبق الأصل لعقد موقع بتاريخ 12 كانون الثاني/ يناير 1988، بين نائب رئيس الشركة البريطانية، “سيسكو – جبل طارق”، وثلاثة وزراء من بينان، هم إبراهيم سورا جو، وزير التخطيط والإحصاءات وسولاي دنكورو وزير المعدات والنقل وساليو ابورو وزير العدل والمشاريع العامة. ويقضي ذلك الاتفاق بتسليم نفايات سامة، يتراوح وزنها بين 1 و5 مليون طن “من الأصناف، دون شرط استبعاد النفايات المشعة”، ومدة العقد عشرة سنوات. ويتوجب على شركة سيسكو – جبل طارق حسب العقد تحويل 2.5 دولار فقط لكل طن، واستثمار 0.5 دولار لكل طن من النفايات، في البلاد. وطالبت الشركة البريطانية المذكورة بالاستفادة من شرط حق التصرف بالنفايات.
السؤال المذهل، هو، لماذا وقّع هؤلاء الوزراء، على اتفاق على أساس 2.5 دولار للطن الواحد، في حين اقترحت شركة “انتركونترا”، التي عُرِفت في غينيا بيساو من قبل، بدفع 40 دولار عن كل طن من النفايات؟ ليس من حاجة لتكون منتجًا كبيرًا لمعرفة مصير الـ 50.37 دولار عن كل طن.
من جديد، أكدت الصحيفة النيجيرية اليومية، الغارديان، بتاريخ 2 حزيران/ يوليو أن “كوجيما”، وهي فرع (جي إي آي)، المختصة بالشؤون النووية، والمكلفة خصيصًا بإعادة معالجة النفايات الذرية الفرنسية في لاغوس، أكدت على دفن النفايات في بينان، مما سبب ذلك، سخط السفير الفرنسي على الجريدة، وكذب الخبر، إذ قال: “إن تأكيدات جريدة الغارديان خطيرة، وتشكل جريمة تسبب الهلع، لقولها أن مياه لاغوس ستصبح ملوثة بسبب ذلك الاتفاق المزعوم”. لكن، أكدت السلطات البينانية، في النهاية، واعترفت رسميًا بتلك المعلومات”. وهكذا، تصبح بعض بلدان إفريقيا “مزبلة للنفايات السامة القاتلة القادمة من بلدان الشمال”.
كما كشف رسالة الكونتينانت، بتاريخ 8 حزيران/ يونيو، حيث جرى اتفاق على نطاق واسع، ووقع في نهاية عام 1985، في إفريقيا الوسطى، من أجل دفن نفايات صناعية وصيدلانية سامة في منطقة باكوما ـ على أساس 42 دولار للطن الواحد.
كانت الحمولة الأولى من 70 ألف طن، وقد أفرغت في عام 1986 في ميناء بوانتي – نوار، في الكونغو، وكانت معبأة في براميل مجموعة حاويات، وقد دمغت بعبارة “أسمدة زراعية” وجرى تسيير نصف هذه الحمولات عن الطريق النهري إلى منطقة بوزوم، انطلاقًا من ميناء سوكادا – لاكوانغا، من ثم إلى سفن تجارية صغيرة مسماة (نغوندة) حتى مويان، ولم يعرف أن توجه النصف الآخر من حمولة النفايات حتى الآن.
وقد شاهد صيادو السمك في جزيرة كاسا، مقابل كوناكري “غينيا” بتاريخ 16 شباط/ فبراير 1988، اقتراب البارك، وبقي طاقم تلك الناقلة، مدة خمسة عشر يومًا، يقوم بإفراغ حمولتها التي تزن 145 ألف طن من النفايات السامة، حيث كانت تنقل إلى خندق أعد خصيصًا. وعلى الأثر تلفت النباتات بسرعة كبيرة، وأصيب الصيادون بقلق شديد، ثم سيطر عليهم الغضب، وتقدموا بعدة شكاوى، ثم انفجرت الفضيحة: حيث تم الكشف أن السفينة مستأجرة من قبل فرع شركة لجماعة نرويجية، تسمى “كلافينيس” وللفرع علاقة عمل مع بعض المسؤولين في الحكومة الغينية، وبأن تلك الحمولات قدمت من فيلادفيا، وأن تلك الشركة النرويجية فهي متخصصة بنقل النفايات السامة من جميع الأنواع، وبأنها تمتلك معظم أقسام شركة الـ (إس آي آ جي) “أي الشركة الدولية ألوكو ـ غينيا” والحالة هذه، فإن الـ الشركة حصلت بتاريخ 11 كانون الثاني/ يناير 1988 على شهادة استيراد لنقل (مواد بناء) من الإدارة العامة للتجارة الخارجية، ما هي إلا منتجات سامة. وتتضمن الاتفاقية الحقيقية طمر 85 ألف طن من هذه المواد في غينيا والأمثلة كثيرة، أنهم تجار الموت، وقد جرت أعمال مشابهة في بعض البلدان العربية، تقاضى فيها بعض المسؤولين أو أبناءهم عمولات، وجرى طمر مواد نووية لكن سريعًا ما جرى طمس ما حدث.
وفي سورية، كشفت معلومات مسربة من مصادر أوربية، وتحليل التربة وشهود العيان، عن وجود ثلاثة أماكن يرجح أن نفايات نووية دُفنت فيها، وعُرف منها مكانان، وهما منطقة الباردة التي تبعد حوالي 110 كم جنوب غرب تدمر، والثاني منطقة الدوارة وتبعد حوالي 27 كم شرق شمال تدمر، وبقي المكان الثالث مجهولًا.
وأشارت تحقيقات أن جيبوتي وفنزويلا رفضتا دفن نفايات نووية على أراضيهما وردتا سفينة “لينكس جيبوتي” إلى إيطاليا حيث مقر الشركة، وبعد خمسة شهور استقرت في ميناء طرطوس في أيار/ مايو 1987، بعد أن أبرم تاجر سوري صفقة مع شركة “جيلي واكس” الإيطالية التي تعمل في مجال تصريف النفايات النووية بعد تغيير اسم سفينته وعلمها وكل أوراقها.
وشركة “جيلي واكس” الإيطالية هي من أشهر الشركات في العالم التي تعمل كمتعهد لمفاعلات نووية في بلدان عديدة عبر الاستيراد وعقد الصفقات لدفن نفاياتها بمكان آخر، وبطريقة مافيوية مرعبة، وتوصف بأنها واحدة من أهم شركات “تجارة الموت” في العالم.
فيما بعد، كشف مديرها بيناتو بينت، خلال رده على بعض ما أثير حول شركته إثر فضحية دفن نفايات خطيرة في سورية، “نحن نعقد صفقاتنا مع مسؤولين رسميين في بلادهم، وعليهم تترتب مسألة دفنها بطريقة صحية”.
ووفق تحقيقات غير رسمية، تورّط في هذه الصفقة مسؤولون سوريون، والمسؤول عن أمن الميناء، وبعض رؤساء الأجهزة الأمنية، وليس شخصًا واحدًا. ويُعتقد أن كمية النفايات النووية المدفونة في سورية تبلغ 4 طن، أو ما يُعادل 21 ألف برميل، كانت قد استوردتها الشركة الإيطالية من الولايات المتحدة من نفايات سلاحها الجوي ومن شركة ألمانية أخرى، ودفنت في البادية السورية.
حال لبنان مشابه لحال سورية أيضًا، حيث ينشط تجار الموت، فقد عقد رجل أعمال لبناني صفقة مشابهة جمعت بين زعماء المافيا اللبنانية والسورية، ودخلت أربع سفن محملة بالنفايات على إثرها إلى ميناء بيروت في 21/ 9/ 1987، قادمة من ميناء كريرا إيطاليا، وإثر اكتشاف البراميل في عدة مناطق منها جبل كسروان، عقدت صفقة سريعة مع المافيا السورية دخلت على إثرها سفينتان إحداهما تدعى “إيفون” تحمل علم سنت فانسنت، والأخرى تدعى “رد هوست” بتاريخ 6/ 10/ 1978، وأفرغت الحمولة في ميناء طرطوس.
وتؤكد تقارير أخرى أن شركة “جيلي واكس” دفنت نفايات أخرى في 2/ 4/ 1988 بشكل عشوائي في جبل لبنان والساحل اللبناني، لكن ورغم طي الدعوى التي رفعها المحامي العام لمحكمة استئناف بيروت على شركتي “إيكو ليف” و”واكس” الإيطاليين، إلا أن إعادة فتح الملف من قبل رئيس الوزراء اللبناني الأسبق سليم الحص مع الحكومة الإيطالية كان السبب في استرجع المواد من قبلها وإعادة تأهيل المناطق التي تم الدفن فيها في لبنان، لكن سفينة واحدة وصلت إلى ميناء لاسينزيا في إيطاليا، فيما دخلت سفينة أخرى وتدعى “جون رامو” المياه الإقليمية السورية وأفرغت قسم من الحمولة في المياه الإقليمية والقسم الأخر في ميناء طرطوس.
تلك بعض من قصص “تجارة الموت”، حيث لم تكتف الأنظمة الديكتاتورية بقمع شعوبها واضطهادها وتشريدها، ولم تكتف بسرقة اقتصاد البلاد، ولم تكتف بقتل المعارضين ونفيهم، بل إنها لم توفّر فرصة للنهب إلا ومارستها، حتى لو كان في هذه الفرص موت شعوبها كلها.