المحتويات

صعوبة الأوضاع المعيشية التي يعيشها السوريون:

مؤشرات الاقتصاد السوري:

1 – مؤشر الأحوال المعيشية في سورية LCI

أولًا: حالة الغذاء

ثانيًا: حالة السكن والمأوى

ثالثًا: حالة الرعاية الصحية

رابعًا: حالة التعليم

خامسًا: حالة الطاقة والنقل والاتصالات

سادسًا: حالة الفساد الإداري والمالي

سابعًا: طوابير القهر والإذلال

2 – سُبل تكيّف الأسرة السورية مع الظروف الصعبة

الاستنتاج

المصادر

صعوبة الأوضاع المعيشية التي يعيشها السوريون

يومًا بعد يوم؛ يصبح الفقر وتدهور مستويات المعيشة، والتفاوت الكبير في توزيع الدخل والثروة، من المحركات الأساسية للصراع في سورية، خاصة حين يكون ذلك نتيجةً لطول أمد الصراع، حيث أهدر نظام الأسد مدخرات الدولة، وأثقل سورية بديون كبيرة، من أجل تسليح الجيش الذي وجّهه إلى قتل الشعب السوري، وقد استعان بالميليشيات الإيرانية وبالقوات العسكرية الروسية، بغية كسر إرادة الشعب وإخضاعه لسلطته. ومن جانب آخر، استنزف السوريون مدخراتهم، وتهدّمت القدرة الاقتصادية للاقتصاد السوري، بينما تعجز كلٌّ من روسيا وإيران عن تمويل النظام بما يعوّض تلك الخسائر، ولو بالقدر الذي يحفظ الحد الأدنى لمستوى معيشة السوريين. ومن المفارقات أن أوضاع الاقتصاد في مناطق النظام، في السنوات التي سيطرت فيها فصائل المعارضة والفصائل المعادية للنظام على معظم مساحة سورية، كانت أقلّ سوءًا مما هي عليه في الفترة الحالية، إذ تزداد شدّة أزمة المعيشة وتختفي كثيرٌ من أساسيات الحياة، على الرغم من هدوء العمليات القتالية وعدم وجود معارك تُذكر، وكأنّ إعلان النظام “الانتصار”، عسكريًا، كان إيذانًا ببدء تفاقم الأزمة الاقتصادية والمعيشية، على المستويين الرسمي والشعبي، حتى إن الأوضاع المعيشية للسوريين في المناطق التي لا يسيطر عليها النظام، مثل إدلب، ومناطق درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام، ومناطق شرق الفرات (التي تسيطر عليها فصائل حزب PYD التابعة لحزب PKK التركي)، هي أفضل بكثير من الأوضاع المعيشية في مناطق سيطرة النظام التي يشاركه السيطرة فيها كلٌّ من الروس والإيرانيين.

وكانت أعباءُ النظام المالية قد تقلّصَت مع تقلّص مساحة سيطرته على الأراضي السورية، وخروج ملايين السوريين من تحت سلطته، وذلك بدءًا من النصف الثاني من سنة 2012 حتى 2017، وكان ما لديه من مال حينذاك يكفي لتمويل آلته العسكرية أولًا، ولتسيير الأمور في المناطق التي ظلت تحت سيطرته ثانيًا. ويمكن القول إن عمليات استعادةِ الأسد وحلفائه السيطرة على أجزاء واسعة من الأراضي السورية شكّلت عبئًا ماليًا كبيرًا على النظام، يفوق قدراته المالية المنهكة.

من جهة أخرى، كانت سيطرة المعارضة والفصائل المعادية للنظام على المناطق التي كانت بحوزتها، في الفترة السابقة، تشكّل مصدرَ دخلٍ للنظام ومناطقه، حيث إن تمويل فصائل المعارضة الآتي من دول خليجية (بلغت أعداد أفراد تلك الفصائل عشرات الآلاف)، مع تقديم مستلزمات كثيرة أخرى لهم، كان مصدرًا لدخول الدولار إلى الأراضي السورية، وكان ذلك يغذي الطلب على الليرة السورية، كونها ظلّت العملة المتداولة في مناطق سورية كافة، وقد ساعد ذلك الأمر، إضافة إلى عوامل أخرى، في عدم تدهور سعر صرف الليرة السورية بسرعة، وبقي تدهورها ينحدر ببطء منذ 2011، وقد استقرّت تقريبًا عند سعر 500 ليرة سورية، للدولار الأميركي الواحد، وظلت كذلك سنوات عدة، بعد أن كان سعر صرفها مقابل الدولار بحدود 47 ليرة سورية، قبيل انطلاق الحراك في آذار/ مارس 2011. أما اليوم، أواخر سنة 2020، فقد تدهور سعر صرف الليرة السورية، واقترب من 3000 ليرة سورية، مقابل الدولار الأميركي الواحد، بينما تراوح رواتب العاملين في الدولة والقطاع الخاص، بين 40 و100 ألف ليرة سورية، شهريًا، أي ما يعادل 20 و 40 دولارًا فقط، أي أقلّ من دولار واحد للعائلة الواحدة في اليوم، بينما كان خط الفقر الأعلى في سورية قبل 2011 نحو 1.9 دولار للفرد الواحد باليوم. ومن هنا؛ يتبين الفارق الهائل بين مستويات الدخول لمعظم السوريين، والحد الأدنى للمعيشة اللائقة، وبذلك؛ يكون نحو 90% من السوريين دون خط الفقر، وجزء منهم تحت خط الفقر المدقع عند حافة الجوع.

ويُبرر النظام تدهور مستويات المعيشة بأنه من مفاعيل “المؤامرة الكونية على سورية”، وقد كان يقدّم الوعود بانفراج الأوضاع مع انتهاء القتال، وهو اليوم يبررها بمبررات أخرى: تارة بفرض قانون قيصر، وتارة بسبب انعكاس الأزمة المالية في لبنان على الاقتصاد السوري.

مؤشرات الاقتصاد السوري

تبدو مؤشرات المشهد الاقتصادي في تراجع مستمر، منذ عام 2011 حتى 2019، وهي نتيجة طبيعية للحرب التي يشنها النظام على الشعب السوري منذ آذار/ مارس 2011، وقد تزايدت حدة ذلك التراجع في عام 2020، بفعل عوامل إضافية عديدة، من أبرزها العقوبات الاقتصادية الدولية، وجائحة كورونا، والفساد الإداري والمالي الحكومي السافر.

وتقدّر الأرقام المنشورة أن الناتج الإجمالي المحلي انخفض بنسبة 66%، وتراجع الاحتياطي النقدي من 21 مليار دولار، إلى ما دون المليار الواحد، وتراجع نصيب الفرد من حوالي 3000 دولار سنويًا قبل 2011، إلى حوالي 500 دولار سنويًا، وذلك بحسب تقديرات النصف الأول من عام 2020، وهذا يقودنا مباشرة إلى متابعة معدلات الفقر، وفق أرقام منظمة الأمم المتحدة والبنك الدولي، حيث تشير إلى أن 33% من السوريين كانوا يعيشون تحت خط الفقر قبل 2011، أما الأرقام اليوم، فإنها تشير -بحسب صحيفة (الشرق الأوسط) اللندنية، نقًلا عن “المركز السوري لبحوث السياسات” الذي أنجز بحثًا بالتعاون مع الجمعية الأميركية في بيروت- إلى أن أكثر من 93% من السوريين يعيشون في فقر، من بينهم حوالي 60 % يعيشون في فقر مدقع، وهذه الأرقام التقديرية المرعبة تحمل في تفاصيلها معدلات بطالة عالية جدًا تجاوزت 60%، وتركزت غالبية هذه النسبة العالية في قطاع الصناعة والبناء والتشييد والزراعة، وذلك نظرًا لغياب مقومات تشغيل هذه القطاعات.

أما ما يتعلق بالمستوى العام للأسعار ومعدلات التضخم، فقد فقدت الليرة السورية نحو 90% من قيمتها، وأدى ذلك إلى انخفاض الدخل الحقيقي للأفراد وضعف القوة الشرائية، وسط ارتفاع أسعار غير منضبط لكل متطلبات المعيشة من غذاء وطبابة وخدمات مختلفة.

وكشف التقرير الاقتصادي العمالي الذي يصدر عن اتحاد نقابات العمال في سورية أن متوسط تكلفة المعيشة للأسرة يصل إلى 600 ألف ليرة سورية شهريًا، وأن القدرة الشرائية لأصحاب الدخل المحدود -وهم الغالبية العظمى للسوريين- تراجعت إلى أكثر من 90%، وذلك بسبب الفجوة الهائلة بين الدخول والأسعار، حيث لا يتجاوز متوسط دخل الشهري للعامل 60 ألف ليرة سورية، أي نحو 20 دولارًا فقط.

وهنا، من الضروري فهم العلاقة بين عدد من متغيرات الاقتصاد، الكلية منها والجزئية، حيث كانت مصادر الدخل قبل الحرب معروفة إلى حد بعيد، وكانت كميته مُحِدّدًا مهمًا من محددات مستوى الأسعار. وكانت المصادر المتنوعة لدخل الأسرة محدودة إلى حد ما، أما اليوم، في ظل الظروف السائدة، فقد باتت العلاقة مشوّهة بين العمل والدخل والإنفاق (الشخصي والعام) والأسعار والإنتاج…. وغير ذلك من المتغيرات. ولعلنا نحاول الوصول إلى فهم عام للمحددات الرئيسة لسبل العيش وعلاقاتها الكلية والجزئية.

 1 – مؤشر الأحوال المعيشية في سورية[1] LCI

يلقي هذا المؤشر بمركباته العديدة الضوءَ على جوانب العوز والحرمان التي تعانيها الغالبية العظمى من السوريين، حيث تشير كثير من الدراسات والأرقام التقديرية إلى أن المستوى المعاشي في سورية انخفض بنسبة تزيد عن 80% لغالبية السوريين، بين عامي 2011 و2020، في عموم البلاد، مع وجود تباين واختلافات بمستويات التدني، بحسب المحافظة والمنطقة وظروفها وسياق تطور الأحداث فيها.

وعلى سبيل المثال، تشير إحدى الدراسات إلى أن تكلفة سلة الاستهلاك الأساسية، لأسرةٍ من خمسة أفراد في دمشق، بلغت 660 ألف ليرة سورية، في نهاية أيلول/ سبتمبر لعام 2020، وبنسبة زيادة 85% مقارنة بالعام الماضي، وذلك وفق مكونات الاستهلاك المعتمدة في المكتب المركزي للإحصاء، وهي محسوبة على الأسعار الأدنى في دمشق[2].

ومن أجل رصد مظاهر الحالة المعيشية، نناقش أبرز مكونات مؤشر الأحوال المعيشية في سورية، وهي:

أولًا: حالة الغذاء

أشار برنامج الغذاء العالمي إلى أن هناك نحو 8 ملايين سوري يعانون انعدام الأمن الغذائي، وأن شخصًا واحدًا، من كلّ شخصَين، لا يعرف من أين سيأتي بوجبته التالية، وقد حذّر البرنامج من خطر وصول 2،2 مليون سوري -إضافة إلى ما سبق- إلى حافة الجوع والفقر، ولا سيّما أن سورية تصدرت قائمة الدول الأكثر فقرًا في العالم، بنسبة بلغت حوالي 82،5 %[3]، بحسب موقع“World By Map”.

ونشر موقع (قاسيون)[4] تكاليف متوسط احتياجات الفرد الواحد من أساسيات المعيشة، بحسب السلة الغذائية المعتمدة في المكتب المركزي للإحصاء، كما يلي:

الجدول (1) احتياج الفرد للغذاء في اليوم

السعر بالليرة سوريةالوزن بالغرامالمادة
30500خبز
12650بيض
10025جبن
76875لحوم
103250خضار
12670أرز
310200فواكه
274112حلويات
1837 المجموع

وهذا يعني أن حاجة الفرد الواحد هي 1837 ليرة سورية يوميًا، أي 55.110 ليرة سورية للفرد شهريًا، و275.550 ليرة سورية، لأسرة من 5 أشخاص شهريًا، للغذاء فقط. وهذا يظهر الفجوة الكبيرة جدًا بين متوسط الدخل المُقدر بنحو 60.000 ليرة سورية في الشهر، ومتوسط احتياج الفرد الواحد للإنفاق على السلع الأساسية فقط، حيث تأخذ تكاليف الحصة الغذائية حوالي 80% من الدخل، هذا بدون إضافة تكاليف الطاقة والصحة والتعليم والنقل واحتياجات المسكن وغيرها.

الجدول (2): احتياجات الفرد من السوائل والمشروبات

السعر بالليرة سوريةالكمية المادة
215005 ليترالزيوت
150001 كغالشاي
76001 كغالقهوة

وبالإضافة إلى النفقات السابقة، تكون تكاليف الغذاء الضروري والمشروبات، لأسرةٍ مكونة من 5 أشخاص في دمشق، 319.650 ليرة سورية شهريًا. وأشارت أرقام تقديرية لبرنامج الغذاء العالمي إلى أن 14% من الأسر في مدينة دمشق لديها مستويات استهلاك غذائي غير كاف، بينما أعلى معدلات عدم الكفاية في حلب 41%، والرقة 39%، واللاذقية وحمص 34%، وهكذا باقي المناطق والمحافظات. وبذلك يكون التباين مرتبطًا بالقدرات والفرص والتحديات المفروضة من آثار الحرب، وتبدد الموارد وندرة الفرص وسوء الإدارة وفسادها[5].

ثانيًا: حالة السكن والمأوى

يُعدّ المجتمع السوري من المجتمعات المتحضرة بدرجة عالية، بنسبة تصل إلى 73%، ويعيش في مدينتي دمشق وحلب حوالي 37% من سكان الحضر، ولكنّ قطاع الإسكان والمرافق -كما هو معلوم- تأثر بدرجة كبيرة جدًا، من جراء الصراع الذي يدور على الساحة السورية، حيث واجهت كثير من المدن دمارًا وحشيًا لا مثيل له عبر التاريخ، وستبقى حلب المثال القاسي، حيث دُمّرت أحياء عديدة تدميرًا كاملًا، وبعض الأحياء الأخرى تدميرًا جزئيًا. وكذلك جرى في حمص وريف دمشق والرقة ودير الزور وغيرها، وتدهورت نوعية المساحات المعيشية والأراضي والممتلكات في عموم سورية، ريفًا ومدينة، وحدثت حركة نزوح وتهجير كبيرة أثرت في الكثافة السكانية بالزيادة في المدن الآمنة نسبيًا، وبالنقصان في المناطق الأقل أمانًا وأمنًا، وكذلك ازدادت الهجرة من الأرياف باتجاه المدن ازديادًا ملحوظًا.

على سبيل المثال، أصبحت دمشق منطقة نزوح رئيسية بكثافة عالية، وجاء إليها سوريون من مختلف مناطق سورية، إضافة إلى الغرباء من الميليشيات المقاتلة مع سلطات النظام التي لعبت دورًا بارزًا في هذا القطاع، من خلال الفساد والإفساد والتأجير والاستئجار والشراء لأغراض بعيدة المدى.

أحد أحياء حلب المدمرة [7]

وتتمثل أبرز المشكلات في هذا القطاع، بعدم توفر السكن، وارتفاع إيجارات البيوت والعقارات ارتفاعًا غير معقول يعجز عن دفعه معظم السوريين، وكانت صحيفة (تشرين) الحكومية قد نشرت تقريرًا، بيّنت فيه أن متوسط إيجار مسكن لعائلة من خمسة أفراد في دمشق ما بين 200 إلى 300 ألف ليرة سورية، وذكرت أن أغلبية أصحاب البيوت يطلبون دفع الإيجار مقدمًا لمدة سنة أو 6 أشهر، وأشارت إلى أن ذلك يعود للارتفاع الكبير في أسعار العقارات، وكذلك بسبب انخفاض قيمة الليرة السورية، ويتدرج الإيجار بالتناقص، كلما اتجهنا من مركز دمشق نحو المحيط والأطراف، ويمكننا القياس على ذلك بالنسبة إلى حلب واللاذقية وطرطوس وحماة والسويداء[6]. إضافة إلى تعقيدات عملية استئجار البيوت، بسبب الحصول على الموافقات الأمنية، حتى تتمكن من الاستئجار أو التأجير وما يرافق ذلك من ابتزاز وفساد ودفع رشا وإتاوات للشبيحة والمتنفذين والمرتبطين بدوائر الأمن، وكذلك هناك قضايا تتعلق بصلاحية السكن، من حيث المساحات والتهوية والتصدع والصيانة والمرافق والصرف الصحي وتأمين مياه الشرب والإنارة والتدفئة. لقد قلّص الدمار الذي تسبب به النظام معروض السكن، في غالبية مناطق سورية، حيث يُقدّر عدد المساكن المدمّرة بنحو مليون مسكن، إضافة إلى نحو مليون مسكن آخر تعرض لأضرار، ويشكل ذلك نحو 40% من مساكن سورية قبل اندلاع الحرب. أما المناطق التي بقيت تحت سيطرة النظام ولم تتعرض للقصف والهدم، مثل منطقة الساحل، فقد اكتظت بنحو 1.5 مليون نازح نزحوا إليها من محافظات حلب وإدلب وحماة وحمص وغيرها.

ثالثًا: حالة الرعاية الصحية

كانت البنية الصحية في سورية قبل 2011 ضعيفةً، وكانت استجابتها لاحتياجات الرعاية بطيئة، وذلك قبل استهداف المشافي والمراكز الطبية والصحية ومعامل الأدوية، وقبل هجرة الكفاءات والكوادر الطبية في أثناء الحرب، لذلك نجد أن تكاليف الرعاية الصحية ارتفعت ارتفاعًا كبيرًا، وقد شكّل ذلك عبئًا كبيرًا على المواطن، إضافة إلى عبء المعيشة، واليوم تعود تكلفة الرعاية الصحية بحدها الأدنى، مع استبعاد الطوارئ، بحوالي 33 آلاف ليرة سورية شهريًا للأسرة.

وإضافة إلى النهب والفساد الذي انتشر في هذا القطاع، من سرقة الإمدادات والمساعدات من المشافي، وتدني مستويات جودة الدواء والمعدات والخدمات الطبية عمومًا؛ بدا الوضع أكثر تدهورًا وكارثية، مع انتشار وباء كورونا (كوفيد 19)، حيث تضم المدن السورية ملايين الأشخاص الذين يعيشون في أماكن مكتظة بالسكان، ومن ضمنها السجون ومخيمات النازحين والأحياء الفقيرة، وإن انتشار الفيروس في مثل هذه الظروف يؤدي إلى حدوث إصابات جماعية واسعة، وزاد ذلك أعباءَ تكاليف الوقاية والتعقيم.

من جانب آخر، استغل نظام الأسد انتشار فيروس كوفيد 19 في تفتيت البنية التحتية للرعاية الصحية في سورية، وكانت قد تقلصت ودمّرت خلال الحراب الدائرة في البلاد، وهي غير مجهزة للتعامل مع هذا النمط من الأوبئة، إضافة إلى أن حوالي 70% من العاملين في الكادر الطبي هربوا إلى خارج سورية[8].

ويُثير الجمع، بين الكثافة السكانية وضعف البنية التحتية للرعاية الصحية، مخاوف المعنيين والخبراء المحليين والدوليين في المنظمات غير الحكومية، وفي هذا الصدد، وفي إطار الرد على استفسارات حول الوضع في سورية، كتب الخبير الدكتور فرانشيسكو تشيتشي (أستاذ علم الأوبئة والصحة الدولية في كلية لندن للصحة والطب الاستوائي): “حتى مع المساعدة الخارجية، من المستبعد للغاية أن تكون سورية (سواء المناطق التي يسيطر عليها النظام أو التي تسيطر عليها المعارضة) قادرة على زيادة القدرة الاستيعابية، من حيث عدد الأسرّة، بناء على ما نعرفه في الوقت الحاضر، حيث إن الاحتياجات المتوقعة للقدرة الاستيعابية للعناية المركزة تفوق بكثير ما هو متاح حاليًا”[9].

تشير منظمة الصحة العالمية إلى احتمال انتشار موجة ثانية من فيروس كورونا في سورية، في وقت لا يزال فيه أكثر من نصف المهنيين الصحيين خارج البلاد، ولا يعمل سوى 48% من المستشفيات العامة، و48% من مراكز الرعاية الصحية الأولية بكامل طاقتها [10]، وهذا مؤشر إضافي على حالة النقص الكبيرة في احتياجات قطاع الرعاية الصحية.

رابعًا: حالة التعليم

لا شك في أن قطاع التعليم من أكثر القطاعات التي تضررت، من جراء ما حدث ويحدث في سورية، ولن نخوض في تفاصيل الدمار الذي حلّ بالبناء المدرسي ومراكز التعليم، والخراب الذي حل بالمناهج وطرائق التعليم والعوز والنقص الشديد بالكوادر وتسييس التعليم بمراحله كافة، لكننا سنسلط الضوء على انعكاس ارتفاع تكاليف التعليم على الأسر.

ارتفعت أسعار المستلزمات المدرسية عن العام الماضي أكثر من 200%، لكثير من مستلزمات التعليم، وهذا يشكّل عامل ضغط وصدمة مالية للأسرة السورية التي ما يزال دخلها ثابتًا، بالرغم من التضخّم الحاصل بالأسعار، حيث باتت كلف تجهيز أبنائهم للمدرسة، في وقتٍ واحد، أمرًا شبه مستحيل، ويحتاج إلى ميزانية خاصة، وفقًا لبعض الأسر، وفي جولةٍ لـموقع (الحل نت)[11]على أسواق دمشق، ظهرت تفاصيل كثيرة عن أسعار المستلزمات المدرسية، حيث توزعت تكاليف التعليم بين لباس مدرسي وقرطاسية وحقائب ودروس تقوية خصوصية ومواصلات، لتصل إلى حوالي 30 ألف ليرة سورية شهريًا للأسرة، ولا شك في أن هذا يشكّل عبئًا حقيقيًا يفوق بكثير قدرة معظم الأسرة السورية. وسيؤدي إلى ازدياد حالات التسرب من التعليم والالتحاق بالعمل بنسب كبيرة، وستزداد نسبة عمالة الأطفال، وتتراكم تبعات الانقطاع عن التعليم وآثارها الاجتماعية المختلفة.

خامسًا: حالة الطاقة والنقل والاتصالات

ننطلق من آخر إنجازات الحكومة، حيث رفعت سعر ليتر البنزين الممتاز المدعوم إلى 450 ليرة، وغير المدعوم إلى 650 ليرة، وذلك بدلًا من 250 ليرة و450 ليرة على التوالي (يوجد نظام تعدد أسعار في السوق الواحدة، مدعوم وغير مدعوم، وهذا مصدر كبير للفساد)، ورفعت سعر المازوت الصناعي والتجاري غير المدعوم، بنحو مئة في المئة (من 296 إلى 650 ليرة)، كما رفعت سعر البنزين “الأوكتان 95” غير المدعوم، من 850 ليرة إلى 1050 ليرة.

وفي مبررات القرار، قالت الوزارة المعنية: إن رفع الأسعار يأتي “بسبب التكاليف الكبيرة التي تتحملها الحكومة لتأمين المشتقات النفطية وارتفاع أجور الشحن والنقل، في ظلّ الحصار الجائر الذي تفرضه الإدارة الأميركية على سورية وشعبها”. وهذا سيقود حتمًا إلى ارتفاع الأسعار بشكل عام، ولن يقتصر على تكاليف النقل والطاقة، نظرًا لارتباط معظم المنتجات بالطاقة ومشتقاتها. وصرّح وزير الكهرباء في حكومة النظام بأن “البلاد تحتاج إلى 8 آلاف ميغا واط ساعي -طاقة توليد- في حين أن قدرات توليد الطاقة الآن لا تتعدى 3 آلاف ميغا واط ساعي”، وأمام هذه الفجوة، لنا أن نتصور حجم الاحتياج، وكم ستكون تكلفة البديل للمواطن من الطاقة الموازية (المولدات الكهربائية الخاصة/ نظام الأمبيرات)، يضاف إلى ذلك عدم توفر المازوت والبنزين والغاز، وتذبذب الأسعار وفساد التوزيع، ولا يقلّ قطاع الاتصالات عما ذكرناه من ارتفاع تكاليف، حيث تقدر تكلفة الاتصال للأسرة بمتوسط شهري 11000 ليرة سورية. وكل هذا الارتفاع لم يقابله أي زيادة في مستويات الأجور توازن بعض هذا الارتفاع، ويعكس هذا عجز النظام من جهة، وعدم قدرة إيران وعدم رغبة روسيا في مساعدة النظام في الوقوف على قدميه، اقتصاديًا.

سادسًا: حالة الفساد الإداري والمالي

يتغلغل الفساد بكل أنواعه (السياسي، المالي، الإداري، الأخلاقي) في كل جوانب حياة السوريين، ومن ضمن ذلك حالات ابتزاز المواطنين، من قبل الحكومة وأجهزتها الأمنية وميليشياتها.

أما الفساد السياسي، فهو عريق ومتجذر، مع وجود السلطة الحاكمة التي امتهنت الاعتداء على الدستور والقوانين والأنظمة والحياة السياسية بالعموم، ومع الحكم الشمولي الذي يسيطر على مرافق الدولة ويسخّرها لتحقيق مصالح ضيقة لمحسوبياته وأعوانه، وفي الآونة الأخيرة، أصبح لكل الميليشيات الدخيلة (سواء التابعة لإيران أو لروسيا) سلطة تخوّلهم الاعتداء على حقوق الناس وابتزازهم، على نقاط التفتيش، أو في أثناء تنفيذ أعمالهم، أو حين استخراج وثائقهم وأوراقهم الرسمية، في القضاء والرقابة والمحاسبة والمعاملات العقارية والبيع والشراء، وامتد ذلك إلى يومياتهم المعيشية، من خلال تنظيم طوابير الحصول على الخبز والمحروقات والطبابة.

يتجلى الفساد المالي بأبشع صوره في نهب ثروات وخيرات الدولة، مع غياب الرقابة والمحاسبة والشعور بالمسؤولية، وتشكّل إمبراطوريات جديدة للمال والاستثمار محلّ القديمة (وستكون هذه موضع دراسة مستقلة)، وتعطيل عمل البنك المركزي وأدوار وزارتي المالية والاقتصاد، والتلاعب بأسعار الصرف وممارسة كل أشكال التلاعب المالي. ويترافق الفساد المالي مع الفساد الإداري الذي يتعلق بكيفية إدارة الدولة ومرافقها ومواردها، وآليات صنع القرار ومصادرته لصالح منظومة الفساد، ومن أبرز مظاهر هذا الفساد، التصرف بثروات الدولة وتقديمها على شكل رشًا سياسية، إلى روسيا وإيران وحلفاء السلطة، من تأجير الموانئ والمطارات ومصادر النفط، وتعقيد الإجراءات، وصياغة الأنظمة والقوانين والتعليمات التي تقيّد حركة الناس وتزيد أعباء الحياة اليومية.

أما الفساد الأخلاقي -وهو أكثر خطورة وأثرًا- فقد تفشّى في كل مرافق الدولة، بدءًا من تزوير الشهادات ونتائج الامتحانات، وإشاعة السلوكات الشائنة التي تتنافى مع قيم الناس ومبادئها، وتعريض النساء للابتزاز والعنف الجنسي، إلى شراء المناصب، وتغيير القرارات القضائية، وتوجيه التهم الجاهزة إلى أي مواطن لتبرير اعتقاله، ومن ثم الحصول على مقابل لتحريره.    

سابعًا: طوابير القهر والإذلال

ما زال النظام الحاكم في سورية يبتكر أساليب الإذلال والقهر لمواطنيه، بعد أن تميّز بالقمع والتدمير والسلب والنهب والتعفيش لكل ممتلكات السوريين، وانتشرت طوابير (الذلّ)، كما وصفها السوريون، من أجل الحصول على رغيف الخبز وعبوة الغاز وكيس الطحين، واحتارت الإدارات المعنية كيف تدير معركة الرغيف، فتارة تخفض وزن ربطة الخبز، وتارة أخرى تقلل عدد الأرغفة، فضلًا عن الجودة المتدنية للرغيف التي تعكس صورة الحياة المعيشية بالعموم، ويحتاج تأمين الخبز للأسرة إلى تفرغ أحد أفرادها كليًا، لأنه سيقضي ساعات انتظار طويلة في طوابير كي يحصل على مخصصاته من الخبز، والمضحك المبكي في الوقت ذاته اختراع ما يسمى “البطاقة الذكية” الصادرة عن غباء منقطع النظير للحكومة، فكيف يمكن أن تعمل “بطاقة ذكية”، مع غياب الكهرباء وشبكة الإنترنت ومهارة المشغلين؟!

وليست أوضاع الحصول على المحروقات، بأنواعها، بأقلّ فداحة، وقد أصبحت طوابير الانتظار على محطات الوقود مثار تندّر وسخرية لدى السوريين، والأكثر إيلامًا تصريحات المسؤولين الحكوميين التي لا تخلو من سخرية واستهتار بآلام وقهر مواطنيهم، عبر تحليلات وتفسيرات لا تمتّ إلى الواقع بصلة.

موظفون سوريون ينتظرون الحصول على طوابع للحصول على منحة- أيار/ مايو 2020 (عدسة شاب دمشقي[12])
في انتظار الحصول على جرة غاز في دمشق
سيارات تنتظر دورها لشراء حصتها من البنزين في دمشق

2 – سُبل تكيّف الأسرة السورية مع الظروف الصعبة

بلغ المواطن السوري درجة عالية من اليأس، ولم يعد ينتظر حلولًا من الحكومة، ولا سيّما أن القرارات التي كانت تصدرها لم تزد الأمور إلا سوءًا، وأسهمت بدرجة كبيرة في الوصول إلى الوضع المعيشي المتردي إلى هذا الحد، وهي لا تملك الإرادة الحقيقية لإيجاد حلول، وقد ثبت أن معيشة المواطن ليست من أولوياتها، لذلك كان لا بد من اللجوء إلى إستراتيجيات وأساليب تكيّف خاصة بكل أسرة، بحسب طبيعتها وخصوصيتها، ومن هذه الأساليب:

  • – الاعتماد على تحويلات خارجية من المهاجرين أو اللاجئين، من أفراد الأسرة أو العائلة الممتدة.
  • – السعي لوجود أكثر من مصدر دخل في الأسرة، مثل العمل الإضافي للأب، وعمل الزوجة والأبناء حتى الأطفال. ومع الأسف، هناك مَن يضطر إلى إلحاق أولاده بميليشيات مقاتلة أو جماعات شبه مسلحة، بسبب الحاجة.
  • – الاقتراض المزمن من شبكات اجتماعية، من المعارف والأقارب، حيث تشير أرقام الأمم المتحدة إلى أن 57% من السكان يقترضون ليعيشوا.
  • – إعادة تدوير واستخدام الملابس بين أفراد الأسرة الواحدة، وأحيانًا العائلة، ولا سيّما لباس المدارس والكتب المدرسية، وشراء ألبسة مستعملة “بالة” بنسبة عالية.
  • – اختصار مكونات وجبة الغداء، وتقليل المحتويات واقتصارها على كل ما هو رخيص.
  • – استبدال استهلاك لحم الغنم، بلحم الدجاج، ولمرات محددة ومعدودة قد تصل إلى مرة في الشهر.
  • – تقشف الكبار في طعامهم لصالح تغذية الأطفال.
  • – الزراعة المنزلية وتربية دواجن. وهي أساليب تكيّف خاصة بالريف وأطراف المدن.
  • – رواج بعض الأعمال والأنشطة الغريبة عن المجتمع وقيمه وتقاليده، التي أصبح لها روّاد بدافع الحاجة.
  • – تغيير نمط الحياة الاجتماعية بما يخص المناسبات والزيارات والتواصل الاجتماعي.
  • – بروز ظاهرة المرأة المعيلة التي تؤمن الإنفاق الكامل لأسرتها، نتيجة غياب الرجل، إما بسبب الموت وإما بسبب الاعتقال أو اللجوء.

الاستنتاج

على عكس ما كان يتوقع النظام وينتظره عموم السوريون (أن توقف الحرب أو تراجعها سيؤدي إلى تحسّن في ظروف عيشهم)؛ ما إن توقف القتال، عدا مناوشات صغيرة، حتى اكتشف السوريون أن إعلان انتهاء الحرب في سورية، بحسب تصريح وزير الخارجية الروسي لافروف، قد كان وبالًا على مستويات عيشهم، وأدى إلى ارتفاع نقمة الحاضنة في مناطق النظام، بعد أن تكشف لها أن النظام يبيعها الأوهام، وأن مبرراته لم تكن أكثر من مسكّن موضعي مؤقت لآلام السوريين، وبدأ التعبير عن النقمة يزداد ويرتفع، في بلادٍ تعَّود سكانها الصمتَ، منذ 1958، خوفًا من “آذان الحيطان” التي تكتب التقارير، وبدأ الناس يستنتجون، أو يقتنعون، على نحو متزايد، أن الأزمة المعيشية ستبقى ما بقي الأسد على كرسيّ السلطة. غير أن جزءًا من حاضنة النظام ما زال يُعرب عن تأييده له، إما لأنه مستفيد من بقاء الفساد، وإما بسبب عدم رؤية بديل أمامه.

إن من أهمّ مفرزات الوضع أن المواطن السوري بدأ يدرك أنه هو وحده المعني بإيجاد الحلول لأزماته المتلاحقة، وعلى رأسها أزمته المعيشة، وقد برزت أهمية الشبكات والصلات الاجتماعية، كما برزت ضرورة العمل على إعادة بناء رأس المال الاجتماعي المتصدّع من جرّاء سنوات طويلة من الاستبداد، إضافة إلى أن المواجهات والصراعات بعد 2011 فرضت واقعًا جديدًا يتعلق بالوصول إلى سبل العيش المختلفة، وتقليص وتخصيص فرص العمل والاستثمار، وتدمير الثقة بين الشعب وحكومته، وتدمير البنى التحتية، وتشويه العلاقات التجارية والتبادل، وقد ترك ذلك الواقع الجديد المواطنَ ضعيفًا يواجه كل تحديات تقلبات الأسعار ونقص السلع والمواد والخدمات، بالتوازي مع تحديات القهر والحرمان التي تلازمه عند طوابير الذل ونقاط التفتيش والاعتقال.

المصادر

https://bit.ly/2KCyIRI

http://bit.ly/2JkQnwv

http://bit.ly/3pqglhI

http://bit.ly/3mSWgP8

http://bit.ly/37N7sZr

http://bit.ly/37PVPkm

http://bit.ly/3hkQS6f

http://bit.ly/2MdTaJf

http://bit.ly/2WJJFn3

http://bit.ly/34LF7B3

http://bit.ly/3nMNx2m

http://bit.ly/37R11os

http://bit.ly/3aLtxd0

Computing pre-conflict poverty data in Syria- Samer Hamati, PhD candidate, School of Economics and Management, Universidade do Minho, Portugal, ISSN 1812-108x

World Bank, The Mobility of Displaced Syrians: An Economic and Social Analysis, 2020, url, p. 73


[1]     living conditions issue

[2] https://bit.ly/2KCyIRI

[3] http://bit.ly/3aQc3fz

 [4] https://bit.ly/3aKgHM0

[5] http://bit.ly/3hkQS6f

[6] http://bit.ly/37QuLli

[7] http://bit.ly/3aJ4TJO

[8] http://bit.ly/34Mxqu7

[9] http://bit.ly/3nMNx2m

[10] http://bit.ly/3rFy86u

[11] http://bit.ly/37R11os

[12] http://bit.ly/3pvfigt