المحتويات

مقدمة

أوّلًا: مدى تماسك الوضع السياسي الداخلي لمجموعات النظام

ثانيًا: درجة خوف الطائفة العلوية والتفافها وشروط انفضاضها من حول النظام

ثالثًا: مواقف الأقليات من النظام وشروط انفكاكهم الكامل

رابعًا: شروط انفكاك سكان المدن السنة والطبقات الوسطى عن النظام في مناطق سيطرته

خامسًا: الفئات التي ترتبط مصالحها ومصيرها بوجود النظام، وبشار الأسد على رأسه

سادسًا: مدى تلاقي سياسات النظام مع مشاريع إيران، ومدى تحكم إيران بسياسات النظام ومدى قوة أتباعها على الأرض

سابعًا: مدى قرب النظام من إستراتيجية روسيا

ثامنًا: التناقضات بين إستراتيجيات النظام وروسيا وإيران

تاسعًا: الموقف السياسي الدولي تجاه الأسد ونظامه، هل يراه بديلًا وحيدًا من تنظيم الدولة الإسلامية)داعش( أم يراه عقبة أمام أي حل في سورية؟

عاشرًا: الحل السياسي الذي يمكن أن تقبله نخب النظام من دون الأسد وقياداته، وشروط تحول موقفها

حادي عشر:  الأدوات التي يستعملها النظام للقبض على مناطق سيطرته (القوة، الترهيب من التطرف، عدم قناعة بقدرة المعارضة على القيادة، فقدان الأمل بانتصار المعارضة، المصالح المادية، الخوف التاريخي المعشش في النفوس)

ثاني عشر: مدى توقع تبديل معظم الفئات الموالية مواقفها، وميلها إلى التوافق مع الوضع الجديد في حال تحققه

 

 

مقدمة

قبل الحركة التصحيحية عام 1970، لم يكن النظام ديمقراطيًا، فيفتقد بالتالي الشفافية. ولكن أخبار صراع مراكز القوى داخل النظام وفي أجهزته ومؤسساته، كانت تجد طريقًا للوصول إلى الناس، وإن بشكل مبتسر وغير دقيق دقة كافية، لكن الأسد الأب أنهى مراكز القوى وصراعاتها بعد تفرده بالسلطة، وأصبح الآمر الناهي الوحيد، وأصبح النظام مصمتًا عصيًا على اختراق جدرانه السميكة ومعرفة ما يدور داخل غرفه المعتمة. شذَّ عن هذه القاعدة حدثٌ فريدٌ وفي حالة استثنائية ولأسباب شخصية خاصة، حين نزل الصراع إلى الشارع عندما أنزل الأخ دباباته. استثنائية الحدث تمثلت بمرض الرئيس، وشعور ساد آنذاك بأنه من الصعب أن يتعافى تعافيًا تامًا، يمكّنه من إعادة الإمساك بالسلطة بقبضته الحديدية المعهودة، ومع ذلك لم يكن في إمكان غير الشقيق أن يفعل ذلك متذرعًا بحماية حكم العائلة، بضربة استباقية تقطع الطريق على إمكانية ولادة “مراكز قوى” داخل النظام، متمثلة بما كان يعرف آنذاك بمجموعة “العليّات”.

 

أوّلًا: مدى تماسك الوضع السياسي الداخلي لمجموعات النظام

الحديث عن الماضي لا يعني استنساخه وفرضه على الحاضر، ولكن للتذكير فحسب، بالتركيب البنيوي للنظام، وعلى الرغم من الفارق الكبير بين الأب المؤسِّس والابن الوارث، فإن شيئًا من أساسيات النظام لا يزال يعمل وإن بآليات متغايرة. بالتأكيد، فإنّ الابن لا يحمل مهابة الأب، ورجال الأب الذين صنعهم بنفسه ومنَّ عليهم بمراكزهم، وبذلك ظلت هناك مسافة بينه وبين رجاله لا يمكن تجاوزها. أما الابن، وعلى الرغم من تمهيد الأب طريق توريثه بإزاحة الحرس القديم، فإنه لم يكن أمامه خيارات كثيرة في اختيار حرسه الجديد. لكنّ من حسن حظ الوريث أن بقي من طبيعة النظام القديم آلية عضوية مهمّة لا تزال تعمل، متمثلة بأن جسد النظام عاجز عن تخليق رأس جديد له، بينما يستطيع الرأس تجديد خلايا جسده، وذلك بفضل طبيعة الأسس التي بُني عليها النظام. وهذا يعني أن الوريث ورث خاصية “تماسك النظام” حول رأسه.

ومع ذلك، هناك فرق جوهري بين تماسك كلّ من نظامي الأب والابن يتمثل بأن تماسك نظام الأب هو تماسك بالإيجاب، أي مفروض من فوق بقوة الزعيم القائد الذي صنع رجاله، بينما تماسك نظام الابن فهو تماسك بالسلب أو بالعطالة، عطالة تتمثل بعجز أي رجل من رجاله أن يشكل “مركز قوة” يفرض نفسه على زملاءه ويقنعهم بأنه “بديل” أفضل ليصبح رأسًا للنظام. كما استطاع الابن، مستلهمًا تجربة الأب، أن يحيط نفسه بحلقة ضيقة من الأعوان المخلصين له شخصيًا. ومنحهم صلاحيات وسلطات وقوة تنفيذ خارج المؤسسات الرسمية شكليًا وفوقها، وخارج أي قانون. تستطيع هذه الحلقة وضع حد لأيّ مسؤول في النظام يفكر في أدنى هامش من الاستقلالية، أو بأبسط تفكير في طموح أكبر مما هو مرسوم له أو مسموح به (غازي كنعان على سبيل المثال).

ازداد تماسك النظام السلبي بعد الثورة مع ارتفاع وتيرة الشعور بأن جميع أهل النظام يركبون سفينة واحدة، غرقها يعني غرق الجميع معًا. وفي الوقت نفسه تضخمت حاسة الحذر والتوجس والريبة في قمة هرم النظام، ونشطت فاعلية الحلقة الضيقة، وأصبح أي اجتهاد في طرائق معالجة الأزمة ووسائلها ممنوع يجب التصدي له بحزم (مصير خلية الأزمة على سبيل المثال أيضًا)، وأي تلكؤ أو برود في حماسة تنفيذ الخط الرسمي للنظام غير مرحب به ويجب تهميشه، مثل فاروق الشرع نائب الرئيس ووزير الدفاع علي حبيب. حتى الآن، وحتى إشعار آخر غير منظور، يبدو النظام غير قابل للتفكك، وغير قابل لحدوث انقلاب من داخله، وغير قابل لاستبدال رأسه.

 

لا يزال النظام متماسكًا، وسيظل كذلك ما لم يحدث ما ليس في الحسبان. وبشكل عام تتمتع الأنظمة الاستبدادية بالصلابة الهشّة، مثل الزجاج لا يستجيب للضغط عليه لكنه يتحطّم هشيمًا عندما يتلقى الضربة الملائمة. على العكس من الأنظمة الديمقراطية المتصفة بالمرونة والمتانة فإنها تتكيف مع الضغوط لكنها لا تتهشم. ويمكن القول -بشكل خاص- إن أنظمة الزعيم الأوحد تستمد قوتها من قوة وحدانيّة الزعيم، لكن نقطة قوتها هذه تتحول إلى نقطة الضعف في حال غياب الرأس بشكل مفاجئ. والمفارقة بالنسبة إلى لنظام السوري في الحالة السورية الراهنة تتمثل بأن نقطة الضعف هذه، أي مخافة انهيار النظام، تتحول إلى نقطة قوة له، وعلى الأخص لرأسه.

 

لا يمكن الاستناد إلى التصريحات الدبلوماسية والإعلامية الدولية، لكنها تصبح ذات مغزى خاص عندما تتقاطع مع التحليل. عندما يتحدث الروس عن عدم تمسكهم بالأشخاص لكنهم لا يجدون البديل، يجب مقاطعته مع كلام آخر لهم مفاده أنهم لن يسمحوا بــ “انهيار النظام”، تحت تسميته “انهيار الدولة”، والممارسة الروسية الميدانية توضح أن “الدولة” بالنسبة إليهم هي “النظام”. حتى الآن، وحتى إشعار آخر يربط الروس بين خروج رأس النظام وانهيار النظام.

 

معظم القوى الدولية وبعض القوى الإقليمية لا تريد انهيار “الدولة” لكن سياستهم العملية تخلط موضوعيًا بين الدولة والنظام، الرعب الذي عمّ أوساط مجموعات النظام، والفوضى التي دبّت بينهم لحظة الحشد العسكري الأميركي قبالة الساحل، قد تكونان أحد الأسباب التي دعت أوباما إلى الاكتفاء بالحصول على السلاح الكيماوي والعودة سالمًا غانمًا.  والخلط العملي، وليس النظري، بين انهيار الدولة وانهيار النظام من جانب مَنْ يسمون أنفسهم أصدقاء “الشعب السوري” يعود إلى عدم استعدادهم لدفع ضريبة التدخل الفاعل الذي يُمكِّن من حماية الدولة إذا انهار النظام. وبذلك يمنحون روسيا مشروعية الخلط الديماغوجي المقصود بين الدولة والنظام. أما إيران فهي متمسكة، ما استطاعت، أكثر من غيرها ليس بالنظام فحسب، إنما برأسه تحديدًا، ويبدو سبب التصلب الإيراني في هذه النقطة عائدًا إلى إدراكها أن أيّ حلّ يضحّي برأس النظام واستبدال رأس آخر به، حتى من داخله، مع بقاء النظام، سيفقدها نفوذها القويّ وشبه الوحيد على سوريّة، “الحلقة الذهبية” في سلسلة “مشروعها الإمبراطوري الإقليمي.  تلك المواقف الدولية والإقليمية، مع حفظ التباينات بينها تُشكِّل أسبابًا خارجية تدعم العوامل الداخلية لتماسك النظام، وتطيل في عمره.

 

ثانيًا: درجة خوف الطائفة العلوية والتفافها وشروط انفضاضها من حول النظام

مع انطلاق التظاهرات والاحتجاجات الأولى، وقبل أن تتحول إلى انتفاضة شاملة فثورة شعبية، اتبع النظام إستراتيجية واضحة تعمل على استدراجها إلى “الطائفية والعنف والتدخل الخارجي”. إذ لا يكفي وصمها إعلاميًا بهذه الصفات زورًا، بل لابد من إيصالها إليها إذا لم تتوقف أو يُقضى عليها سريعًا. ليس المجال هنا لشرح دوافع وأهداف اعتماد هذه الإستراتيجية، يكفي ذكر بعض أهدافها بإيجاز قبل الانتقال إلى الهدف المتعلق بهذه الفقرة تحديدًا. هَدَفَ النظام إلى تبرير قراره المسبق باستخدام القوة العسكرية، مصدر شرعيته الوحيد، لإنهاء ظاهرة التظاهر السلمي وإخضاع الشعب وإعادته خانعًا إلى “بيت الطاعة”. كما لا بد من تبرير استنجاده بالخبرات الإيرانية بقمع الثورة الخضراء عام 2009 في طهران، واستيراد العصي الكهربائية والقناصات لقتل المتظاهرين العزل. ما يهمّ هنا هو شدّ عصب طائفته العلوية لاستمرار التفافها حوله والدفاع عنه. فتصوير التظاهرات بأنها عنفية وطائفية ومدفوعة من الخارج لتنفيذ مؤامرة كونية، سيعمل على تخويف قاعدته الاجتماعية من تحقق شعاراتها بالحرية والكرامة. والنظام يدرك أن تخويف طائفته أمر سهل. فهناك جذر للخوف، وسابقة أثبتت ذلك. فما إن أُعلِن عن وفاة الأب في 10 حزيران عام 2000 حتى أسرعت عائلات علوية في دمشق وحمص إلى توضيب حقائبها، على عجل، ورحلت إلى مسقط رأسها. ولم تعد إلى أن تم تنصيب الابن رئيسًا.

 

في البداية لم تكن الطائفة العلوية في حاجة للخوف والتخويف للالتفاف حول النظام والدفاع عنه، فقد كانت المعركة معركتها الخاصة أيضًا؛ فهي معنية مباشرة بالدفاع عن المكاسب والامتيازات المادية والمعنوية، بوصفها “رأس مال رمزيًا”، التي تنعمت بها طيلة عقود أربعة. وحاولت تصوير معركتها بأنها معركة الدفاع عن “الوطن”! و”الدولة”! وليس عن النظام. لكنْ مع استمرار الحرب واستطالتها بدأت الطائفة تستشعر فداحة الخسائر التي تتكبدها ويصعب تحملها، والمستقبل المجهول الذي ينتظرها. لم تعد بحاجة لعملية تخويف، فالخوف أصبح حقيقة ومبررًا ومشروعًا. ولم تعد قادرة على إقناع نفسها بأنها كانت تدافع عن “نظام سياسي” “علماني”! تحتاجه، علاوة على “الوطن” و”الدولة”. اعترفت أمام نفسها بأنها كانت تقاتل، تَقتُل وتُقتَل، حماية لكرسي “حكم عائلة”. في حين كان في الإمكان، نظريًا، المساهمة في تغيير “النظام السياسي” وحفظ دورها وحصتها في نظام علماني جديد. لكن هل “سبق السيف العذل”؟!

قبل محاولة أي جواب متسرع يجب الوقوف عند مصاب الطائفة الأليم. لا يقتصر الأمر على جرح الطائفة المفتوح ونزفه المستمر دونما أمل في وقفه قريبًا، بل تتعداه إلى جوانب كثيرة ستستمر نتائجها إلى أمد بعيد. فالأمر لا يتوقف عند تعداد الضحايا بين قتيل وجريح ومعاق ومفقود، والمقدرة بمئات الألوف في طائفة قليلة العدد نسبيًا (10 ـ 12 في المئة) من السكان. فلا بد من رؤية الاختلال والتشوه الحاصل في هرمها السكاني. تضمر نسبة فئات عمرية بين 20 إلى 30 سنة، وبنسبة أقل بين 30 إلى 40 سنة. وتتغير نسبة الذكور إلى الإناث في هاتين الفئتين، علاوة على الآثار النفسية والاجتماعية لدى جموع الثكالى والأرامل. إضافة إلى الآثار الاقتصادية والثقافية. كما هاجرت نخبة من المتعلمين والمثقفين.

 

فهل بلسم النظام جراح طائفته؟ لا تتوقف معاناة القاعدة العريضة من الطائفة من الفقر بفعل الأزمة الاقتصادية والمعيشية، بل هناك ما هو أمرّ وأدهى بسبب ظاهرة التشبيح المنظم الذي يسرح ويمرح فوق القانون من دون حسيب أو رقيب. حيث تشهد مناطقهم تظاهر الفساد وتهريب المخدرات وانتشار العنف والجريمة مثل: “القتل” و”الابتزاز” و”الخطف” و”النهب” و”الاختلاس” و”التهديد”. ولعل حادثة أخذت طابعًا رمزيًا جسّد جميع تلك التظاهر، وانتجت غضبًا عارمًا، وطرحت أسئلة حارقة، حين أقدم سليمان الأسد على قتل العقيد حسان الشيخ أمام عيون زوجته وأطفاله لأنه تجاوزه بسيارته. عقيد علوي في الدفاع الجوي يقاتل الجماعات الإرهابية والتكفيرية على الجبهات، يُقتَل على يد شبيح بسبب تجاوز مروري، كيف لا وهو ابن الأكرمين كما في حادثة مصر زمن عمرو بن العاص. هذه الحادثة برمزيتها ألهبت مشاعر الطائفة وأثارت رفضًا لاستمرار هذه الظواهر، أدى إلى اعتصام في دوار الزراعة في اللاذقية في تحرك نادر.

 

ليس هذا هو التحرك الوحيد، شهدت حمص تظاهرات عديدة عقب عمليات التفجير المتكررة، وطالب المتظاهرون بمحاسبة المحافظ وقادة الأجهزة الأمنية. كما حدثت اعتصامات في طرطوس وحمص للمطالبة بفك الحصار عن الجنود في مطاري كويرس بحلب وأبو الظهور بإدلب. إضافة إلى الاعتصام على طريق مطار دمشق الدولي للمطالبة بعملية عسكرية لفك الحصار عن بلدتي كفريا والفوعة في ريف إدلب، بالتزامن مع محاولات للمعتصمين بقطع طريق المطار، حيث نجحوا في ذلك عدة مرات.

 

فهل سيصبح الوضع الاجتماعي في المنطقة الساحلية مرشحًا للانفجار؟ من المستبعد جدًا حدوث ذلك مادامت الحرب مستمرة. فجميع تلك الاحتجاجات، والشكاوى اليومية المستمرة كانت تستنجد برأس النظام، وتصب جام غضبها على المحافظين الذين لا حول لهم ولا قوة. لكن من المتوقع في حال توقفت الحرب، أن يتكشف الوضع عن تناقضاته الداخلية، وأن يحصل التناقض ما بين مؤسسات الدولة ومؤسسات الميليشيات الذي قد يؤدي إلى الانفجار.

فكيف تتقبل الطائفة هذا الوضع وتتحمله؟ لم يستمد النظام، منذ 1970، قوته ولا «شرعيته” بالطبع من طائفته، بل من سلطته العسكرية والاقتصادية التي استولى عليها. وعلى العكس من ذلك هو الذي منحها امتيازاتها ومكاسبها، عبر “عطاءاته” و”مكرماته”. واستخدمها لأهداف تأبيد النظام وتوريثه. كما عمل النظام على إقصاء وتهميش نُخب الطائفة الدينية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية التاريخية والتقليدية المستقلة. وصنّع نُخبًا جديدة من متقاعدي أجهزته الأمنية والعسكرية تدين بالولاء المطلق له، ولا تحمل شيئًا من مناقبية النخب القديمة. ثم استقدم، موضوعيًا إن لم يكن ذاتيًا، “ثالثة الأثافي”. أي المنظمات الإرهابية التكفيرية التي وضعت الطائفة أمام خطر وجودي يجعلها تلتصق بالنظام مهما يُكلفها الأمر، ما لم يُقضَ على تلك المنظمات وإرهابها وتنتهي الحرب.

أما من أي بارقة أمل تلوح من داخل الطائفة العلوية؟! سرّبت هيئة الإذاعة البريطانية إلى وسائل الإعلام العالمية “وثيقة”، سلمها لها ناشط علوي في ربيع عام 2016. الوثيقة صادرة عن “مجموعة الابتدار العلوي”، بوصف مُصدريها من أعيان الطائفة العلوية السورية، بعنوان: “العلوي في المجتمع”، “إعلان وثيقة إصلاح هوياتي”. وعلى الرغم من غياب أي معلومة عن “المجموعة”، ومَنْ تضم، وماذا تمثل داخل الطائفة، يمكن التعامل معها بوصفها “وثيقة تاريخية”. لا مجال، هنا، لمناقشة الوثيقة، لكن سنعرض أهم ما يتعلق بموضوع هذه الفقرة؛ إذ تعلن الوثيقة:

“إن جميع الفتاوي الخالصة إلى استتباع العلويين بالشيعية كفرع من فروعها هي، لذلك، لاغية بالنسبة إلينا وواقعة موقع العَدَم منّا”.

“يتمسك العلويون بقيم المساواة والحرية والموَاطَنة، وبفكرة أنها مبادئ فعلية لتنظيم الكيان الاجتماعي ولحفظ أعضائه، وليست مجرد قيم سامية دون مضمون تطبيقي. ينادون لذلك بـ”العلمانية” كونها ـ كالديمقراطية، إحدى آليات تشغيل هذه القيم، لا رديفًا لها أو نوعًا منها”.

يُذكّر الإعلان بـ: “الوثيقة الموقّعة في 2 حزيران 1936 وموجّهة إلى مرجعية الانتداب، وتعلن تمسك طائفة العلويين بالبلاد السورية الموحدة ومدى تعلقهم بترابها. أما الوثيقة المشهورة المطالبة بالافتراق عن تلك البلاد، فهي صادرة عن المجلس التمثيلي لحكومة اللاذقية بمن فيهم غير العلويين، وكما أنها موقعة بتاريخ أيام بعد تاريخ الوثيقة الأولى”.

 

لا يقصد التعرض لهذه الوثيقة بناء أوهام حول فاعلية تأثيرها الراهن داخل الطائفة العلوية. فشرط فاعليتها قد يكون متاحًا مع توافر شروط انفضاض الطائفة من حول النظام. والتي يمكن تكثيفها بالوصول إلى الحالة التي تنعدم فيها إمكانيات إعادة تأهيل النظام بالمحافظة على جوهره، مع عملية تجميلية. مترافقًا هذا الشرط مع شرط آخر يتمثل بزوال إمكانية قيام دولة دينية في سورية. عبر حل سياسيّ يُفضي إلى بناء دولة مدنية تعددية ديمقراطية.

 

ثالثًا: مواقف الأقليات من النظام وشروط انفكاكهم الكامل

  • الأكراد

يكاد الكرد في سوريّة أن يُجمعوا، كما أحزابهم السياسية القومية على التمسك بـ”الحلم القومي الكردي”، والعمل على تحقيق بناء “الدولة القومية الكردية” التي تضم الشعب الكردي الموزّع بين تركيا والعراق وإيران وسوريّة. لكنهم يختلفون في إستراتيجيات العمل وتكتيكاته للوصول إلى هدفهم المنشود.

 

تتبنى معظم الأحزاب الكردية السورية إستراتيجية العمل تحت السقف التاريخي الذي ترسمه الأوضاع الدولية والإقليمية والمحلية، وأخذ موازين القوى والإمكانيات الذاتية في الحسبان، والعمل على تحقيق خطوات تراكمية على طريق طويل، وعدم القفز في المجهول، وخسارة مكاسب ممكنة التحقق. مستلهمة بذلك واقعية تجربة البرزاني في كردستان العراق.

 

بينما يمزج حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني في إستراتيجيته وتكتيكاته خليطًا مركبًا من مغامرة انتهاز الفرص التاريخية، من دون التمعن في رؤية بعيدة النظر تتفحص الإمكانات الحقيقية والواقعية التي تحملها تلك الفرص، وبراغماتية شديدة في تبديل الأصدقاء والحلفاء والخصوم والأعداء، وراديكالية في أساليب وأدوات العمل. وبذلك يكون ابنًا نجيبًا لرحمه، حزب العمال الكردستاني التركي تاريخيًا، وقيادة جبال قنديل حاليًا، بعد التباين بينها وبين زعيمها المؤسِس عبد الله أوجلان.

 

في بدايات الثورة السورية خرجت الشبيبة الكردية في عامودا والقامشلي، في تظاهرات تحمل شعارات الثورة حينذاك في الحرية والكرامة وحقوق المواطنة المتساوية، إضافة إلى “الحقوق القومية” في دولة ديمقراطية. وانضمت الأحزاب الكردية المُشكِّلة لـ”المجلس الوطني الكردي” إلى المجلس الوطني المعارض، ثم الائتلاف الوطني، وهو الآن ضمن الهيئة العليا للتفاوض والوفد المفاوض. في حين وقف الاتحاد الديمقراطي في صف النظام، وقمع التظاهرات. واتُهِم بقتل واغتيال عدد من السياسيين والناشطين الكرد.

 

مما تقدم يتضح أن إمكانية انفضاض الكرد من حول النظام وانفكاكهم عنه يجب أن تُحصر بإمكانية انفكاك حزب الاتحاد الديمقراطي بقيادة زعيمه صالح مسلم، ومن خلفه القيادة العسكرية لحزب العمال الكردستاني التركي في جبل قنديل. إن تلك الحصرية لا تنبع -فحسب- من العلاقة التاريخية مع النظام، تلك العلاقة التي بُنيت وفق منهج مكيافيلي انتهازي من جانب الطرفين، تقوم على تقاطع المصالح وتبادل المنافع بين “أعدقاء”! وتستند تلك الحصرية إلى حقيقة إمساك الحزب كليًا -وبصورة منفردة- بالساحة الكردية بالقوة العسكرية العارية، وإخضاع الكرد بالقمع. من هنا يجب فهم رفض الحزب لفكرة دخول عدة آلاف من مسلحين كرد سوريين المعروفين بـ”البيشمركة”، المدربين والمسلحين من جانب قيادة كردستان العراق إلى سوريّة. واشتراط الحزب أن تخضع البيشمركة إلى قيادته العسكرية والسياسية بشكل مباشر، رافضًا فكرة تشكيل غرفة عمليات عسكرية مشتركة بين الطرفين، مهددًا بحرب أهلية كردية في حال دخول البيشمركة من دون إذنه ووفق شروطه. وبذلك فقدت أحزاب “المجلس الوطني الكردي” أي قوة فعلية على الأرض تدعم سياساتها وبرامجها.

 

لم تتم سيطرة “قوات الحماية الشعبية” الكردية، الجناح المسلح لحزب الاتحاد الديمقراطي، على مساحات واسعة من شمال سوريّة نتيجة حرب مع النظام، لكنها كانت أشبه باستلام وتسليم. فقوات النظام لم تعد قادرة على التمسك بالأرض. شملت السيطرة ثلاثة جيوب غير متصلة جغرافيًا في المناطق ذات الأغلبية الكردية على الحدود التركية. فهل كان النظام يعتقد، أو يتوهم، أن صالح مسلم سيدير تلك المناطق لمصلحته، وكأنه محافظ من محافظيه؟ من المؤكد أن النظام لا يثق به ثقة عمياء، لكنه يُفصضِّل سيطرته على الأرض التي لا يستطيع الدفاع عنها وحمايتها بدلًا من سيطرة المعارضة. ومن المرجح أن النظام لم يتفاجأ بخطوات الاتحاد الديمقراطي اللاحقة، لكنه مُرغم على تقبل تلك الخطوات آنيًا ومواجهتها لاحقًا في الوقت الملائم.

 

في خطوة أولى أعلن حزب الاتحاد الديمقراطي إقامة إدارة ذاتية مؤقتة لكردستان الغربية، ثم أعلن في خطوة لاحقة الفيدرالية وعقدها الاجتماعي. هذه الخطوات ترجح أن الاتحاد الديمقراطي يقوم بمغامرة غير محسوبة، وأن انتصاراته الجزئية والمرحلية مُتوهَّمة. فالأوضاع والتحالفات التي ساعدته وأغرته بما يقوم به ليست ثابتة ولا راسخة، بل هي حالة “ظرفية” يصعب استمرارها واستدامتها. فإن كان براغماتيًا في تحالفاته الدولية والإقليمية والمحلية، فإن حلفاءه لا يقلون عنه براغماتية، إن لم يتفوقوا عليه. إن الاتحاد الديمقراطي لا يُشكِّل بمغامرته خطرًا على مصير سوريّة ومستقبلها فحسب، إنما يُقامر أيضًا بمستقبل الشعب الكردي وقضيته العادلة والمشروعة، مقامرة ستكون نتائجها كارثية على الكرد أكثر مما ستكون على العرب.

 

لكن القاعدة الاجتماعية الكردية العريضة التي يُخضِعها الحزب بالحديد والنار لن تستكين له في أوضاع مختلفة. نظرًا للأضرار التي ستصيب مستقبل الشعب الكردي في سورية وغيرها من الدول الثلاث المجاورة، تركيا والعراق وإيران. فالشعب الكردي لم يناضل ولا يناضل ولن يناضل من أجل الانتقال من تحت حكم استبدادي شوفيني، عربي أو تركي أو فارسي، ليقع فريسة حكم استبدادي شوفيني كردي يقوده حزب واحد وزعيم أوحد، إضافة إلى الأذى البالغ الذي تلحقه هذه الخطوات في الثورة السورية وبمستقبل سورية، سورية الديمقراطية التي تعيش فيها الشعوب والقوميات بحقوق متساوية.

 

كما تقدم تلك الخطوات خدمة جليلة للنظامين السوري والإيراني. وينطبق ذلك على خدمة جميع الأصوات التي تتعالى لتخويف السوريين من استحالة التعايش في سورية وتفتيتها إذا ما سقط النظام، وكذلك تقوية الأصوات القومية العربية الشوفينية المحسوبة على المعارضة. لذلك ينبغي على السوريين العرب داخل المعارضة العمل على إدخال البيشمركة السورية إلى داخل سوريّة، وتقوية موقع المجلس الوطني الكردي في هيئات المعارضة وعمليتها التفاوضية، والوقوف بوضوح وحزم من “الحقوق القومية الكردية” العادلة والمشروعة في سوريّة الديمقراطية التعددية.

 

وخلاصة القول: إن “شعرة معاوية” لن تنقطع بين النظام والاتحاد الديمقراطي في المدى المنظور، ولا في معظم احتمالات المستقبل، بغض النظر عن أرجحيتها الفعلية وإمكانيات تحققها، ما دامت ممكنة بين خيارات الطرفين -ولو من باب التوهم- فإذا تمكن النظام من إعادة تأهيل نفسه لن يجد أفضل من الاتحاد الديمقراطي ليحكم الشمال بسلطات محلية واسعة مع تبعية شكلية للمركز. وبذلك يكون النظام قد بنى سورًا معاديًا بوجه تركيا. وفي المقابل، فإن إعادة تأهيل النظام سيعني للاتحاد الديمقراطي انسداد الأفق أمام مشروعه دوليًا وإقليميًا، فلماذا لا يقبل بأن يكون كبير محافظي النظام. وكذلك إذا اضطر النظام لقبول التقسيم ضمن مشروع “سوريته المفيدة” فلن يجد أفضل من الاتحاد الديمقراطي لتسليمه الشمال السوري ليبني سلطة تشبه سلطته التي يسعى لاستعادتها. “سلطة الحزب القائد للدولة والمجتمع”.

 

  • المسيحيون

تمايز ت بين المسيحين ثلاثة مواقف من الثورة: أقلية مؤيدة كليًا للنظام. وأقلية نسبية وقفت مع الثورة، وشاركت في التظاهرات والاحتجاجات، وتشارك في هيئات وأعمال المعارضة. وأكثرية كبيرة صامتة، وإن كانت تتمنى أن تنتصر قيم الديمقراطية والعلمانية والعدالة بديلًا من الفساد والقمع. ويمكن إرجاع هذا الموقف الثالث للخوف من قمع النظام في بداية الثورة، ثم أُضيف سبب آخر لاحقًا مع بروز طابعها الإسلامي، وبشكل خاص صعود المنظمات التكفيرية. وهناك من يري أن المسيحيين ليسوا جزءًا من معادلة الصراع، مثلما العلويين أو السنّة. فالصراع في سوريّة هو بين النظام وأنصاره وأتباعه المستفيدين من علويين وسنة ومسيحيين من جهة، وبين طيف واسع من الشعب السوري الرافض لهذا النظام ووجوده، من سنة ومسيحيين وعلويين من جهة أخرى. كما سعى النظام بطرائق مختلفة لإظهار نفسه على أنه حامي الأقليات وحقوقهم، زارعًا الرعب في قلوب هذه الأقليات من الثورة السورية عن طريق اتهامها بــ “التطرف” وعدم استعدادها لتقبل الآخر، إن حالة الخوف التي عممها النظام على الأقليات شملت المسيحيين وساهمت في ابتعادهم عن الحراك الثوري.

تعرض المسيحيون للضرر. يُقدر عدد النازحين بنحو 450 ألف داخل سوريّة وخارجها، وعدد الضحايا بنحو 1200 قتيل، ودُمرت 60 كنيسة، وأُفرغت 24 بلدة من سكانها، كما اختُطفت 12 راهبة من مدينة معلولا، ولا يزال مصير مطراني حلب بولس يازجي ويوحنا إبراهيم مجهولًا، إضافة إلى الأب الإيطالي باولو دالوليو وعدد من الكهنة. كانت ردّات فعل النظام على بعض المسيحيين الذين انخرطوا في صفوف الحراك الشعبي قاسية، فقد تعرض هؤلاء للقتل والاعتقال والتعذيب على أيدي الاجهزة الأمنية، وتعرضت بعض القرى والبلدات المسيحية للقصف من جانب الجيش السوري النظامي، وتفشت حالة هجرة كبيرة بدأت بين العائلات المسيحية المقتدرة على ذلك، وبين الشباب الذين أصبحوا يرون في الهجرة هروبًا من الخدمة العسكرية الإلزامية في مثل هذه الأوضاع، وأملًا في رسم مستقبل آمن لهم خارج وطنهم سوريّة. كما يمكن ملاحظة الانخفاض الشديد في نسبة الملتحقين بالخدمة العسكرية من المسيحيين، وعدم التحاق من استدعي إلى الاحتياط، لشعورهم بأن المعركة بين الجيش النظامي والجيش السوري الحر اتخذت منحى حرب “جهادية” هادفة إلى إسقاط نظام الأسد بقوة السلاح، وهذا ما يتخوف منه المسيحيون لأن الشارع المسيحي في سوريّة لا يستطيع تحمل الخسائر. وبالتالي، لن تكون هناك قدرة على المحافظة على الوجود المسيحي في ظل أي حرب سورية داخلية.

وتبدو حالة الانقسام واضحة بين الشباب المسيحي وقياداتهم الدينية، بسبب عدم تقبل أغلب الشباب المسيحي لفكرة تدخل الكنيسة في شؤون السياسة، كما أن مواقف القيادات الدينية لم تكن موحدة. فقد امتنعت بعض الكنائس من فتح الكنائس وصالاتها لحفلات النظام الترويجية، وفي الوقت نفسه، لم يمتنع بعض زعماء كنائس آخرين عن تأييد النظام السوري على شاشات التلفزة في بداية السنة الأولى من الثورة السورية. وكذلك ظهر خطابان مختلفان. خطاب يؤكد على قضية أنه لا خوف من التغيير “تغيير النظام” في حال وُجدت ضمانات حقيقية ومطمئنة بخصوص المحافظة على الوجود المسيحي في سوريّة، وممارسة المعتقدات الدينية بحرية كاملة، وخطاب يرفض التغيير لأنه لا يعتقد بحقيقة وجود هكذا ضمانات، حيث يفضل الإبقاء على الوضع السياسي الراهن على ما هو عليه، كي لا يخسر المسيحيون المكاسب التي حصلوا عليها خلال وجودهم في سوريّة.

 

وردًا على معظم المواقف الكنسية ظهرت حركات شبابية احتجاجية. مثل “حركة شباب القديس يوحنا الدمشقي”، التي أصدرت بيانًا يوضح أنها: “حركة مسيحية أرثوذكسية انطاكية، غير انشقاقية، لكن تسعى إلى استعادة الكنيسة […] من خلال استعادة الإيمان الذي سرق من كنائسنا بأيدي السياسيين واتباعهم الذين حكموا البلاد والعباد بطرائق الظلم والاستبداد. ونحن لا ننتمي إلى أي تيار سياسي، […] إننا في الحركة، لا نبتدع لاهوتًا جديدًا، بل نعمل تحت رعاية روحية أرثوذكسية كاملة، يشرف عليها آباء أرثوذكس مشهود لهم بالإيمان والروحانية. […] ونحن الآن نعمل على تهيئة الزمان الملائم للإعلان رسميًا عن بدء حركة الاستعادة، بشكل نضمن فيه سلامة الأعضاء من بطش الظالمين”.

وبعد موقف الكنيسة الأرثوذوكسية الروسية المؤيد للتدخل الروسي بذريعة محاربة الإرهاب، أصدر عدد من المنظمات المسيحية والشخصيات وبعض رجال الكهنوت بيانًا جاء فيه: “نحن السوريين المسيحيين من موقعنا وانتمائنا الوطني العميق […]  يهمنّا أن نوضح أنّ مثل هذا التصريح للكنيسة الروسية وما شابهه، لا يمثلنا ولا يعنينا ولا يعبّر عن قناعاتنا وتطلعاتنا، بغض النظر عن واقع أنّ الكنيسة الروسية ليست وصيّة علينا أصلًا، مع تأكيدنا القاطع برفض مفهوم الحرب المقدسة في المسيحية، كما نرفض أي حرب تحت أي مسمى أو غطاء ديني”.

إن متغيرات الحوادث السياسية والعسكرية وحتى الاقتصادية في سوريّة ستحدد طبيعة الاصطفاف المسيحي وماهيّته في المستقبل القريب والبعيد. سيحاول معظم رجال الإكليروس امتحان قدرتهم على التعاطي مع كل من النظام والمعارضة بخطاب يرضي الطرفين، ويصب في مصلحة المواطن المسيحي. كما ستبقى أكثرية المسيحيين على الحياد بسبب رؤيتهم أن الصراع القائم في سوريّة هو صراع “طائفي ولا يرغبون في الانخراط فيه. يتعزز هذا الموقف إذا لم يحصل اعتداءات مباشرة ضد المسيحيين من جانب الأطراف المتصارعة، وقد يتجدد انخراط الشباب في الحراك السياسي السلمي إذا ما تم إحراز تقدم بالحوار في اتجاه الحل السياسي. وفي انخراطهم سيتحقق تقدم في الحياة السياسية.

 

  • الدروز

لم يقف الدروز موقفًا مُوحَدًا من الثورة، بل تمايز داخلهم ثلاثة مواقف:

الأول: وقفت أقلية صغيرة موقفًا صريحًا وجذريًا مع الثورة. خرجت تظاهرات راوح عددها بين العشرات والمئات من الشباب. عملت مجموعات من الشباب في النشاطات السياسية والإعلامية والإغاثية. تعرض عدد منهم للملاحقة والاعتقال. قُتل بعضهم تحت التعذيب وبعضهم في المعارك. شاركت أعداد منهم في تشكيلات المعارضة الداخلية والخارجية، وانشق عدد من الضباط والجنود، وشكّل بعضهم مجموعات مسلحة لم تدم طويلًا، كما امتنع الآلاف من الالتحاق بالتجنيد الإجباري والاحتياط.

الثاني: مثلته أقلية ليست كبيرة وقفت مع النظام قلبًا وقالبًا. دعمت النظام سياسيًا وإعلاميًا. شكّل بعضهم ميليشيات مسلحة، قاتلت مع النظام في معارك محدودة خارج المجتمع الدرزي.

الثالث: شمل أكثرية واضحة. ضمت فئات ذات دوافع وأهداف متباينة. قاد هذا التيار ما عُرف بظاهرة “مشايخ الكرامة” المسلحة. استند مشايخ الكرامة إلى قاعدة اجتماعية عريضة غير متجانسة لكنها ظلت متماسكة، منهم مَنْ تحركه دوافع طائفية، كما ضمت أصحاب المواقف الرمادية، وكذلك المعارضة الصامتة تاريخيًا، ومعارضة سياسية واضحة تعمل بهدوء وتحت سقف يجنبها الاعتقال. ولعب “شيوخ العقل” دورًا مزدوجًا، لا يُغضب النظام ولا يستفز أكثرية المجتمع الدرزي استفزازًا حادًا.

 

عمل التيار الثالث بقيادة مشايخ الكرامة على تحييد المجتمع الدرزي في الصراع الدائر في سورية. وكانت مواقفه واضحة وصريحة. لن يقاتلوا خارج أراضيهم، ولن يقاتلوا إلا دفاعًا عن النفس، ولن يعتدوا على أحد ولن يسمحوا لأحد بالاعتداء عليهم. عملوا، بقوة السلاح، على حماية من تخلف عن التجنيد والاحتياط، وحرروا من اعتقل للسوق إلى الخدمة العسكرية، وأفشلوا جهد النظام بإشعال الفتنة بينهم وبين محيطهم من أهالي حوران، من خلال الاختطاف المتبادل، ونجحوا في عقد المصالحات وتحرير المخطوفين من الطرفين. كما أعلنوا انتماءهم إلى الوطن السوري، وإلى دولة سورية موحدة يتساوى فيها الجميع بغض النظر عن الدين والمذهب والعرق.

 

تم اغتيال زعيم “مشايخ الكرامة” وحيد البلعوس، ومجموعة من رجاله. جرت محاولات لإشعال حرب أهلية درزية. لكن تماسك المجتمع الدرزي، وقوة العلاقات العائلية قطعت الطريق أمام ميليشيات النظام المسلحة بالتحرك لقتال أهاليهم. ضعفت حركة المشايخ بعد مقتل زعيمها لكنها لم تنتهِ. ولا تزال حتى الآن تحمل السلاح الخفيف، وتقاوم محاولات الأمن لاعتقال المطلوبين. وتلتف حولها حركة شبابية تقوم بالتظاهر والاعتصام بين الحين والآخر.

 

أفشل الدروز محاولات النظام جرّهم إلى الحرب دفاعًا عنه، والاقتتال مع محيطهم الحوراني. والأهم سياسيًا فضحهم مقولة النظام حول “حماية الأقليات” إذ جعلوها تهتزّ، وأظهروا أن النظام يحتمي بالأقليات ويجرّها إلى محرقة حربه الخاصة للدفاع عن نفسه وامتيازاته. لا يغير من الأمر كثيرًا وقوف معظم الدروز في ريف دمشق، جرمانا وصحنايا، إلى جانب النظام. فمركز الثقل الدرزي في سوريّة، سكانيًا ومعنويًا ورمزيًا يقع في السويداء وجبلها، جبل العرب، كما يحبون تسمية جبلهم.

 

4-  الإسماعيليون

تكتسب معرفة موقف الإسماعيليين مما يجري في سوريّة أهمية رمزية، في سياق الجدل الجاري حول مسألة الأقليات ومصيرها، أكثر من أهميتها العملية والميدانية. فالإسماعيليون أقلية صغيرة جدًا، يشكلون أقل من 1 في المئة من السكان. ومتوزعون جغرافيًا في محافظتي حماه (السلمية ومصياف) وطرطوس (القدموس وقرى نهر الخوابي). وهم طائفة غير مُوحَدة مذهبيًا أو سياسيًا. ومجتمعاتهم غير متماسكة اجتماعيًا حول هويتهم الطائفية. أكبر تجمع إسماعيلي يقطن مدينة السلمية وريفها. وهناك اعتقاد خاطئ لدى كثير من السوريين بأن السلمية مدينة إسماعيلية. ولا يعرفون أنها مدينة مختلطة مذهبيًا ذات أكثرية إسماعيلية؛ ففي مدينة السلمية وريفها يعيش سنّة وعلويون أيضًا.

 

ينقسم الإسماعيليون سياسيًا إلى موالين للنظام ومعارضين له وصامتين أو رماديين، والتجمع الإسماعيلي الوحيد الذي جرى فيه حراك سياسي حقيقي جدير بالتوقف عنده ودراسته هو تجمع مدينة السلمية. بدأت التظاهرات المعارِضة للنظام بعد أسبوع من تظاهرة درعا الأولى قُدّر عدد المتظاهرين ببضعة آلاف متظاهر. ضمت التظاهرات الأولى إسماعيليين وسنّة وعشرات الناشطين العلويين، وقامت أعداد من الموالين بمشاغلة المتظاهرين. أما التظاهرات اللاحقة فأعقبتها حملات اعتقال وملاحقات واستدعاءات وتحقيقات. بعد اعتقال وفرار أعداد من الناشطين تحولت التظاهرات إلى تظاهرات صغيرة طيارة إلى أن توقفت نهائيًا.

مع بدايات مرحلة العنف تشكلت ميليشيا مسلحة تحت اسم لجان الدفاع عن الوطن. أكثر عناصر اللجان كان من الطائفة العلوية، وتزعمها أشخاص تربطهم صلات قربى مع قيادات أمنية عليا. قامت اللجان بعمليات الاعتداء على المواطنين والسرقة والنهب والاختطاف والقتل، وشمل الاستياء من هذه الممارسات الموالين للنظام من الإسماعيليين، وأخذوا يطالبون النظام بفرض الأمن وتطبيق القانون في المدينة من دون جدوى. وفي مرحلة لاحقة أخذ شباب من الإسماعيليين يتطوع في اللجان ويحمل السلاح، هربًا من التجنيد والاحتياط أو طمعًا بالتشبيح والمغانم. ومنذ فترة قريبة جرت عدة حوادث اشتباكات مسلحة بين عناصر اللجان أنفسهم، على أرضية انقسام طائفي إسماعيلي علوي. وكانت الحصيلة قتلى وجرحى.

 

تعيش مدينة السلمية حاليًا أوضاعًا صعبة للغاية. الخطر الأكبر الذي يرعب جميع سكان السلمية من موالين ومعارضين وصامتين هو خطر هجوم داعش والنصرة الموجودين على بعد عشرات الكيلو مترات. وبشكل خاص بعد ما جرى لقرية المبعوجة، المختلطة طائفيًا، حيث تعرضت لهجوم من داعش أو النصرة أو من يشبههم. وقتلوا عددًا من أهل القرية. واختطفوا أعدادًا من النساء والأطفال والرجال، لا يُعرف مصيرهم حتى الآن. إن حادثة المبعوجة التي تبعد عن السلمية حوالي 20 كم أرعبت الجميع من موالين ومعارضين. الموالون في السلمية يطالبون النظام بالدفاع عن المدينة بوجه داعش والنصرة وعدم تركها كما فعل في تدمر المجاورة. كما يطالبونه بضبط الوضع الأمني داخل المدينة، ووقف ومحاسبة زعماء الميليشيا. كما تعاني المدينة من انقطاع دائم للمياه، كما أنّ الاعتماد على الآبار لا يفي بالحد الأدنى من حاجات الناس. والتيار الكهربائي ينقطع خمس ساعات ويُوصَل ساعة واحدة.

 

الموالون والمعارضون يفضلون النظام على داعش. لكن مع اختفاء خطر داعش، لا أحد منهم يربط مصيره الوجودي بالنظام. وعندما يلوح في الأفق حل سياسي سيكونون من أوائل المرحبين به والمشاركين في تنفيذه. فمعظم أهل المدينة، وأكثرية الطائفة الإسماعيلية بمجموعها، ليس لديهم “رهاب” حكم أهل السنة في دولة مدنية ديمقراطية.

 

رابعًا: شروط انفكاك سكان المدن السنة والطبقات الوسطى عن النظام في مناطق سيطرته

تختلف مواقف سكان المدن السنة والطبقات الوسطى من النظام، ومتانة ارتباطهم به، وإمكانية انفكاكهم عنه؛ بحسب موقعهم في الهرم الاقتصادي الاجتماعي، ومدى تشابك مصالح كل فئة، أو شريحة، مع وجود النظام واستمراره.

هناك فئة صغيرة في قمة الهرم ترتبط أعمالها ومصالحها مع “المافيا الاقتصادية”، التي تشكل جزءًا عضويًا من النظام وأجهزته الأمنية، وتحمي نشاطاتها الاقتصادية والمالية وتجني أرباحها بقوة التسلط. وتعتاش على النهب والريعية. هذه الفئة قليلة العدد ومنفصلة عن قاعدتها الاجتماعية الطبيعية (السنية). بالطبع هذه الفئة ملتحمة بالنظام، ولن تنفك عنه ومصيرها الوجودي مرتبط بوجوده. لذا تعمل هذه الفئة على تهريب أموالها خارج البلاد وربما عائلاتها، وتتأهب للرحيل في ربع الساعة الأخيرة من عمر النظام.

أما البرجوازية الصناعية والتجارية التي تنشط وفق قواعد السوق الرسمية والقانونية، فإنها تعمل وفق محاور ثلاثة: يقضي الأول بتأمين استمرار أعمالها وأرباحها، وبالتالي، تجنب أي نشاط أو موقف يؤثر سلبًا على مصالحها. والثاني يقوم على عدم استفزاز النظام وأجهزته الأمنية لتجنب القمع المباشر الذي يؤدي إلى خسارتها كل شيء. والثالث يعمل على الحفاظ على علاقاتها وصلاتها بالقاعدة الاجتماعية العريضة من خلال الأعمال الخيرية المستورة والقيام بواجبات التضامن الاجتماعي التقليدي. لهذه الفئة مصلحة في رحيل النظام لإزاحة الفئة المافيوية الريعية من طريقها، وقيام نظام سياسي جديد يتيح لها الحصول على حصتها في السلطة السياسية، بما يتناسب وقوتها الاقتصادية ونفوذها الاجتماعي. لكنها لا تعمل شيئًا لخدمة هذا الهدف، فهي كمن يتطلع إلى ثمرة شهية على الشجرة، وينتظر أن تسقط في حضنه، من دون أن يقوم بأي جهد أو يدفع أي كلفة لقطافها. هذه الفئة غير ملتحمة أصلًا بالنظام لكنها تنتظر بدء العمل الجدي لحل سياسي حقيقي لإعلان الانفكاك عن النظام، والمساهمة في بناء النظام الجديد مستثمرة انتماءها إلى الأكثرية السنية، ذات المظلومية السياسية لأكثر من نصف قرن مضى.

تقف الأكثرية الكاسحة من شرائح الفئات الوسطى موقفًا معارضًا ضمنيًا للنظام. وتتجنب إظهار هذه المعارضة، ومزاولة أي نشاط يعكس موقفها المعارِض، تفاديًا للقمع المؤكد والقاسي وحماية لمدنها من الخراب والدمار الذي سيكون مصيرها المحتوم على غرار ما حدث في حمص على سبيل المثال. وقد يتمايز سلوك شرائحها وتوقيت تحركها السياسي للانفكاك عن النظام. فقد تميل شرائحها العليا وأقسام من شرائحها المتوسطة إلى سلوك انتظاري ومواقف محسوبة بدقة يتقاطع مع سلوك البرجوازية بترقب إمكانية الحل السياسي، والعمل من داخل ممكناته. بينما قد تنشط شرائحها الدنيا، بتواشج مع قاعدتها الشعبية، إذا ما لاح ضعف النظام وعجزه عن القيام بالقمع المعمم والتدمير الشامل، استباقًا لبدء تنفيذ الحل السياسي وتحسين مواقعها وحصصها ودورها فيه.

 

خامسًا: الفئات التي ترتبط مصالحها ومصيرها بوجود النظام، وبشار الأسد على رأسه

هناك فئات ترتبط مصالحها ومصيرها بوجود النظام، وبشار الأسد على رأسه. تشمل هذه الفئات الحلقة الضيقة من اصحاب السلطة الحقيقية، وصانعي القرار والآمرين بتنفيذه من كبار ضباط الأجهزة الأمنية، وكبار ضباط قوات النخبة في الجيش مثل الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة، وقيادات الميليشيات والشبيحة، ومجموعة المافيا الاقتصادية والمالية، وبشكل خاص الذين طالتهم العقوبات الاقتصادية. وكل مَنْ قد تطاله “العدالة الانتقالية”. حتى إن تم التوصل إلى حل سياسي لا ينص على تطبيق تلك العدالة، أو حتى إنّ نصّ على استبعادها وعدم تطبيقها. فبعض الجرائم لا “تسقط بالتقادم” مثل: جرائم الحرب، وجرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية …إلخ. وبالتالي، فإن أي نصوص تستبعد تطبيق “العدالة” في الحل السياسي لا تشكل ضمانة للمستقبل، ولا تمنح حصانة أبدية. فالحل السياسي بعد أن ينفذ وتبدأ عجلة العملية السياسية بالانطلاق، لن يتمكن أحد من مصادرة مستقبل الحياة السياسية والتشريعية والقضائية إلى ما لا نهاية. كما أن ملاحقة تلك الجرائم وتجريم مرتكبيها متاحة في كثير من الدول الأجنبية.

 

كما تشمل تلك الفئات كل من يخشى من عمليات الانتقام والثأر، نتيجة ارتكاباته ممارسات في مرحلة من مراحل الصراع، مثل القتل والتعذيب والاغتصاب والخطف … إلخ. كما تشمل من قام بالسلب والنهب والتعفيش والتهجير. وكذلك من يخشى المحاسبة على ثرواته تحت شعار “من أين لك هذا” مثل أثرياء الحرب، وحتى أشخاص من أطراف المافيا الاقتصادية التي تكونت ثرواتهم قبل مرحلة الصراع. تضم تلك الفئات اشخاصًا من جميع الطوائف، لكن الأغلبية العظمى هي من الطائفة العلوية.

 

تكمن مصلحة تلك الفئات بعرقلة الوصول إلى حل سياسي، مهما تكن نصوص المرحلة الانتقالية. فبعد المرحلة الانتقالية، واستقرار النظام السياسي الجديد، لا أحد يستطيع ضمان عدم التشريع بـ”أثر رجعي”. علاوة على أن معظم الجرائم التي ارتكبتها تلك الفئات لا “تسقط بالتقادم” في الأصل.

 

سادسًا: مدى تلاقي سياسات النظام مع مشاريع إيران، ومدى تحكم إيران بسياسات النظام ومدى قوة أتباعها على الأرض

يتحكم بالعلاقة بين النظام وإيران تقاطع المصالح وتبادل المنافع، مع محاولة كل طرف تحسين مواقعه في علاقته مع الطرف الآخر احتاج النظام إلى الإيرانيين إلى الدفاع عن نفسه بوجه ثورة الشعب، وتفادي سقوطه أمامها. استجاب الإيرانيون وحالوا دون سقوطه، كما صرح أكثر من مسؤول في قيادات حزب الله اللبناني والحرس الثوري والسلطة الإيرانية. الأمر الذي أدى إلى انزعاج النظام من إشهار هذه الحقيقة، ورد إعلاميًا على لسان مسؤولين كبار، مدعيًا أن صموده عائد إلى جيشه والتفاف “الشعب”! من حوله أولًا، وإلى دعم الحلفاء ثانيًا.

 

قدّمت إيران جميع أشكال الدعم الممكنة للنظام: قتاليًا؛ بوساطة الميليشيات الطائفية الشيعية من جنسيات مختلفة ومستشارين وخبراء عسكريين في مرحلة أولى، وقطعات من حرسها الثوري وقوات نخبة من جيشها في مرحلة لاحقة. كما دعمت النظام اقتصاديًا وماليًا، وساندته سياسيًا ودبلوماسيًا وإعلاميًا. قوة وقد مكّنها ذلك الدعم ونجاعته من التغلغل إلى مفاصل حساسة في هياكل “السلطة” وتحكمت فيها. لم يلقَ تضخم النفوذ الإيراني ارتياحًا عند رأس النظام، وفي قمة هرمه، لكن النظام لا يملك دفع هذا الارتهان للإيرانيين بسبب حاجته الحيوية والمصيرية إلى دعمه.

 

أتى فرج النظام على يد الروس. تدخلت روسيا في سوريّة عسكريًا، بعد أن كانت تكتفي بتقديم الدعم التسليحي والاقتصادي والدبلوماسي والإعلامي وسياسة “الفيتو”. المفارقة أن التدخل الروسي جاء بناء على طلب الإيرانيين مضافًا إلى طلب النظام. فهل توهّم الإيرانيون أنهم يستطيعون أن يشغّلوا روسيا عندهم لخدمة مشاريعهم الخاصة؟! وهل تناسوا أو تجاهلوا أن بوتين يسعى لاستعادة “دور” روسيا بوصفها “دولة عظمى” على الصعيد العالمي، سترث أمجاد الإمبراطورية القيصرية والاتحاد السوفييتي. ولا يهم هنا إدراك بوتين، أم عدم إدراكه، حقيقة امتلاكه جميع “مقومات” دور الدولة العظمى كافة، بما فيها قوة ومتانة الاقتصاد ودرجة تطور قواه المنتجة، من دون أن تقتصر على تطور الصناعات الحربية، وضخامة الجيش على سبيل المثال لا الحصر.

 

لكن كيف تنظر إيران إلى علاقتها بسوريّة ونظامها؟ وما المصالح التي تحكم تلك العلاقة؟ لا تريد إيران التعامل مع سورية بوصفها “دولة”، بل “ساحة” عبور أو “ميدان عملياتي” لخدمة “مشروعها الإمبراطوري الإقليمي” بوصفها “دولة عظمى” على الصعيد الإقليمي في الدرجة الأولى وكهدف أعلى. وهنا أيضًا لا يهم إدراك القيادة الإيرانية، أم عدم إدراكها، حقيقة امتلاكها “مقومات” تحقيق هذا المشروع كافة. تمثل سوريّة “الحلقة الذهبية” في سلسلة المشروع الإيراني، لكنها في الوقت نفسه “نقطة” ضعفه أو “الرمال المتحركة” التي قد تبتلعه. سوريّة حلقة ذهبية أو “واسطة العقد” بحسب تعبير الشاعر (ابن الرومي)، فهي الجسر البري الواصل بين “الساحة” العراقية و”الساحة” اللبنانية، وإطلالتها الواسعة على الواجهة البحرية لشرق المتوسط من حدود تركيا إلى حدود فلسطين المحتلة. وهي، أي سوريّة، ليست مثل العراق ولا لبنان. لإيران في العراق ولبنان قاعدة اجتماعية عريضة حقيقية، وراسخة مادام “الإسلام السياسي المذهبي الطائفي” الإيراني صاعدًا ولمّا يسقط. أما في سوريّة فليس لإيران قاعدة اجتماعية لحمل “إسلامها السياسي” المذهبي الطائفي، “الشيعية السياسية”. وهذا ما يفسّر إستراتيجية إيران “المزدوجة” في علاقتها مع النظام السوري. فحاجتها إلى سورية “ساحة” وليست “دولة” تقضي بالعمل على التحكم بـ”النظام” والهيمنة عليه. وضعف، إن لم نقل انعدام، قاعدتها الاجتماعية في سوريّة تجعلها لا تستطيع الاستغناء عن النظام، وبخاصة عن “رأس النظام” لتعويض ضعف القاعدة الاجتماعية. وهو ما يفسر التمسك الإيراني بـ”رأس النظام”. وعليه نعود إلى حقيقة أن قوة رأس النظام في ضعفه. وكأن المقولة اللبنانية الشهيرة “قوة لبنان في ضعفه” تتكرر هنا. ولكن تناقض هذه المقولة يولد هشاشتها؛ فقد تحطم نظام لبنان بسبب ضعفه، فهل تتكرر هنا “النتيجة” كما تكررت “المقدمة” هناك، بالمعنى المنطقي للعبارة؟

 

لم يكن نظام الملالي غافلًا عن ضعفه الاجتماعي في سوريّة؛ فقد عمل منذ استيلائه على السلطة في إيران على “مشروع تشييعي” في سوريّة. بُذل فيه جهدٌ كبير، وعُمل عليه برؤية بعيدة الأمد. لكن النتيجة بعد أكثر من ثلاثة عقود ليست متناسبة مع ضخامة الجهد وتمويله، لأن استقطاب الآلاف، وعشرات الآلاف، لا تغير الواقع السوري العنيد. قُدِّرت نسبة الشيعة في سورية تاريخيًا بنصف بالمئة (0.5 في المئة) من عدد السكان. وكانت الطائفة العلوية المُستهدَف الأول في هذا المشروع. ولا تبدأ إشكالية علاقة المذهب العلوي بالمذهب الشيعي مع هذا المشروع، فلن نستعرض هنا تاريخية تلك العلاقة. نُذّكِر، للتذكير فحسب، بالبيان الموسّع الذي وقّعه ثمانون رجل دين علويَّا في ستينيات القرن العشرين.

 

تقول خاتمة البيان: إن «تسمية الشيعي والعلوي تشير إلى مدلول واحد وإلى فئة واحدة هي الفئة الجعفرية الإمامية الإثنا عشرية». يومذاك لم يكن هناك “شيعية سياسية” ولا مشاريع إيرانية. ويأتي البيان في سلسلة السجالات المذهبية، تاريخيًا، داخل الطائفة العلوية نفسها. ومن المُرجّح على الأعم الأغلب أن يكون البيان مهجوسًا، وقتذاك، بتحسين فرص اندماج الطائفة العلوية “الاجتماعي والوطني” في الوطن والدولة السورية. ولكنه لم يستقطب جميع العلويين، واليوم تأتي “مجموعة الابتدار العلوي” لتقول: “إن جميع الفتاوى الخالصة إلى استتباع العلويين بالشيعية كفرع من فروعها هي، لذلك، لاغية بالنسبة إلينا وواقعة موقع العَدَم منّا”. وإن ذُكر في فقرة سابقة إن أثر مجموعة الابتدار سيكون مستقبليًا، وليس راهنًا، فيما يتعلق بانفكاك الطائفة عن النظام، فإن أثرها راهنًا، وسابقًا، يكمن في ما يتعلق بتحديد التخوم بين الهوية “العلوية” والهوية “الشيعية”. بدلالة الحوادث العديدة للاحتكاك بين علويين وعناصر من الميليشيات الشيعية بسبب حجاب المرأة، ومحلات بيع الخمور، وطقوس الأفراح والأعراس ورموزها. وليس بعيدًا عن تلك الدلالة الترحيب الشديد والفرح العارم الذي استُقبِل به التدخل الروسي في الأوساط الشعبية العلوية الواسعة. لا شكّ أن نصرة روسيا للنظام سبب لهذا الفرح. لكنه ليس سببًا وحيدًا؛ فأن ينتصر النظام بحليف “علماني”، وبدولة ستظل عاملًا خارجيًا في الحياة السورية، أفضل ألف مرة من الانتصار بحليف متدين، وبجماعات مُرشحة لأن تصبح عاملًا داخليًا في المجتمع السوري والعلوي منه بخاصة.

 

إذًا، لقد خفَّف التدخل الروسي من درجة تحكّم إيران بالنظام وبرأسه، ومن ثقل الارتهان له. وأعطى رأس النظام هامشًا أعرض لاستقلاله النسبي عن الإيرانيين. وأضعف حاضر ومستقبل النفوذ الإيراني على الأرض السورية، وفي نسيجها الاجتماعي مستقبلًا من مشاريعها الهادفة إلى التغيير الديمغرافي المذهبي، وإن كانت تلك المشاريع صعبة التحقق، إن لم نقل مستحيلة التحقق. وفي الأصل لا يزال النفوذ الإيراني في سوريّة خارجيًا ومفروضًا بقوة الحضور العسكري الميليشياوي والمالي، حتى الآن. ولن يُصبح جزءًا من النسيج الاجتماعي السوري، كما يحلم “المشروع الإيراني”. وفي المستقبل فإن أي حل سياسي قابل للحياة، وليس مدخلًا لعنفٍ لا ينتهي، سيعني زوال نفوذ إيران في سوريّة، علاوة على وضع “مشروعها الإقليمي” في مهبّ الريح.

 

سابعًا: مدى قرب النظام من إستراتيجية روسيا

قبل معارك حلب أوائل آب/ أغسطس 2016، بدا النظام مُطمئنًا للإستراتيجية الروسية. فكان يعتقد أن الروس سيمكّنونه من الانتصار، إن لم يكن انتصارًا كليًا، فعلى الأقل سيكون انتصارًا جزئيًا يمكّنُه من استمرار سيطرته على المناطق التي يسيطر عليها حاليًا، مع توسعتها لتشمل ما يسميه “سوريّة المفيدة”. وحمل المجتمع الدولي على التسليم بهذا الأمر الواقع، والقبول به رسميًا. فهل كان اطمئنان النظام يتصف بالواقعية، أم أنه إسقاط رغبة؟ كانت حركة روسيا الميدانية والدبلوماسية والإعلامية تبدو، على المدى القصير، مدعاة لاطمئنان النظام. وبالتالي كان النظام يرى نفسه قريبًا من الإستراتيجية الروسية، أو بالأحرى يرى إستراتيجية روسيا تخدم مصالحه. لكن ماذا عن الأمر في المدى المتوسط والبعيد؟ قبل محاولة الإجابة يسبقه سؤال آخر. وهل هناك ما بعد المدى القصير.

 

وجاءت المفاجأة من حلب! فأمسى المدى القصير أقصر مما هو متوقع. وجرت الرياح بما لا تشتهي سفن روسيا والنظام. وعلى الرغم من أن ما جرى في حلب ليس نهائيًا، ويبقى مفتوحًا على احتمالات متعددة، لكنه أحدث ما كان يُعتقد أنه من المرجح أنه سيحدث في المدى المتوسط والبعيد. تدخلت روسيا في سوريّة وهي تظن أنها ستحسم الأمور خلال بضعة أشهر، وها هي تشرف على نهاية العام الأول من التدخل؛ لذلك فهي تبدو متسرعة لفرض حل عاجل في سوريّة. والتسرع الروسي مفهوم جدًا، نظرًا إلى أن تدخلها في الأصل جاء بوصفه تدخلًا محدودًا في الزمن والقوى، وتعود محدوديته لتجنيب الاقتصاد الروسي تحمل كلفة باهظة ينوء تحتها، ولتفادي الغرق في المستنقع السوري على الطريقة الأفغانية. ولكن حساب حقل آمال بوتين بإنجازٍ سوري سريع خلال أشهر، لم يتطابق مع بيدر تعقيدات الوضع السوري، واحتياجات إيجاد حلول ممكنة التحقق. وهو، أي بوتين، لا يستطيع أن يمدد برنامج تدخله من أشهر إلى سنوات، لذا يستعجل بوتين مستغلًا حاجة إدارة أوباما لنجاحٍ في سياسته الخارجية يجيره لمصلحة مرشحة الحزب الديمقراطي في الانتخابات الأميركية، إن لم نقل يجيره لتاريخه الشخصي. تسرع روسيا لإيجاد حل في سوريّة والتجاوب الأميركي يطرح مجموعة من الأسئلة الشائكة: هل هناك “حل سياسي” ممكن في المدى القصير؟ وهل الحل المفترض روسيًا والمفروض بالقوة، قابل للحياة والتطبيق ويفضي إلى سلم واستقرار؟ وإذا كانت الإجابة بالنفي، وهي على الأرجح ستكون كذلك، فهل يبقى بوتين على إصراره بإعادة تأهيل النظام؟ أم أنّه سيقدم تنازلات في هذه النقطة؟ وهل ستستطيع روسيا الاستمرار في التدخل السوري إلى الأمد البعيد وفرضياته؟ جميع تلك الأسئلة، التي كانت مستقبلية ومؤجلة وأصبحت راهنة وعاجلة، تدعو النظام إلى الإسراع في إعادة النظر في اطمئنانه لقرب الإستراتيجية الروسية من مصالحه الضيقة، وليس لقربه من الإستراتيجية الروسية.

 

والحقيقة أن تلك الأسئلة أضحت راهنة ومستعجلة بالنسبة إلى الروس أكثر من النظام. فعلى روسيا إعادة نظرها في حدود القوة، والإمكانات الواقعية لفرض الحلول التي كانت تظن، أو تتوهم أنها قادرة على فرضها بالقوة وبإرادتها المنفردة، من دون الخوف من الغرق في المستنقع السوري. وإذا اكتشف النظام أن ممكنات الإستراتيجية الروسية ليست قريبة منه كما يأمل، فماذا يستطيع أن يفعل؟ هل يقول للروس اخرجوا أنا سأدافع عن نفسي؟ لا هو قادر على أن يدافع عن نفسه، ولا هو في موقع من يعطي الروس أوامر أصلًا، لقد فات الأوان لـ”حلم الشراكة مع الروس”! وبغض النظر عمّا يريده النظام؛ فإذا كان يُخشى من توافق الروس والأميركان، قبل حلب، على حل قابل للحياة لن يكون ملبيًا لطموحات النظام وآماله. فتلك الخشية يجب أن تزداد، بعد حلب، لأن العامل الإقليمي سيغدو مؤثرًا وفاعلًا أكثر مما كان يتوقعه الروس. ومحصلة التأثير الإقليمي ليست لمصلحة روسيا والنظام.

 

ثامنًا: التناقضات بين إستراتيجيات النظام وروسيا وإيران

ما الهدف الرئيس، أو الأعلى، في إستراتيجية كل من النظام وروسيا وإيران؟ البحث عن هدف رئيس لا يعني أنه هدف وحيد. هناك أهداف فرعية لكنها تنضوي تحت مظلة الهدف الأعلى، وتعمل على خدمته. لا تتحدد الأهداف بثبات مطلق، بل بثبات نسبي. وإن حركة الهدف بين حدين أعلى وأدنى مرهونة بامتلاك الأدوات واختيار الوسائل الملائمة لتحقيقه. كما هي حركة أي طرف في اتجاه هدفه تصطدم بإرادات أطراف أخرى معنية بالصراع، ولا يتقرر مصير الهدف بإرادة صاحبه وحده.

 

يهدف النظام إلى إعادة تأهيل نفسه واستمراريته بعد ذلك، وتستهدف إيران إدخال سوريّة في مشروعها الإقليمي، أما روسيا فهدفها الأعلى استعادة مكانتها الدولية بوصفها “دولة عظمى” وإنهاء الأحادية القطبية العالمية، التي تفرّدت بها أميركا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. تدرك روسيا أنها لا تستطيع، في المدى المنظور، أن تنتزع “أحادية” قطبية من يد أميركا، وتكتفي في أحسن الأحوال بمشاركة أميركا بـ”ثنائية قطبية” تشبه ما كان سائدًا زمن الحرب الباردة.

النظام هو الطرف الأضعف في هذا التحالف الثلاثي. وروسيا هي الطرف الأقوى. وتأخذ إيران المكانة الوسطى بين الطرفين. وموازين قوى كل طرف لا تعطي حصصًا متقاربة في التحالف، كي لا نقول متساوية. الحصص متفاوتة جدًا، بما يصعب قياسه. في المدى القصير، وما لم يتم طرح مشاريع تفصيلية للحل واضحة المعالم، تبدو التناقضات بين أطراف الحلف الثلاثي لا تهدد وحدة التحالف ويمكن التعامل معها من خلال التشاور والتنسيق.

 

النظام هو الطرف الأضعف حتى درجة الهشاشة، ويراهن على حاجة كل من حليفيه إلى بقائه، لكن هذه الحاجة ليست متساوية لدى طرفي حلفه. كما أنهما، أي الحليفين، لا يمكنهما رهن أهداف الإستراتيجية العليا ومصالحها كاملةً بموضوع بقاء النظام واستمراره. ستدرك روسيا، إن لم تكن قد أدركت، أنها لا تستطيع إدامة الصراع لزمن مفتوح، وأنها أكثر أطراف الصراع، المحلية والإقليمية والعالمية، استعجالًا وتسرعًا. كما تدرك أن انتصاراتها العسكرية المتحققة حتى الآن، غير عصية على الانتكاسة في حرب غير كلاسيكية. وعليها أن تدرك أنها لا تستطيع فرض حل في سوريّة لا يُرضي أطرافًا وازنة في معادلة الصراع المحلية، وأطرافًا إقليمية مؤثِّرة. وأطرافًا دولية فاعلة. ويُخطئ من يظن أن مرونة إدارة أوباما، تعني أن أميركا سلّمت بزعامة روسيا العالمية، وتخلت لها عن سوريّة. تلك التحفظات على حدود القدرات الروسية كانت متوقعة قبل حلب، وصارت حقائق بعد حلب. سيدرك النظام، آجلًا إن لم يكن عاجلًا، أن الورقة المستورة في لعبة البوكر الروسية، وليس الروليت، تبيّن أن مصير النظام قابل للتفاوض. والبحث يتم حول الأثمان.

 

إيران المتمسكة بالنظام أكثر من روسيا، والتي تُبدي استعدادها للدفاع عنه، إيران هذه عليها أن تتساءل وتحاول امتلاك الإجابات. عندما تقبل روسيا بحل لا يُبقي على النظام سوى لفترة زمنية محدودة تنتهي مع انتهاء ترتيبات البديل، ماذا تستطيع إيران أن تفعل لفرض بقاء النظام. هل ستستمر إيران في الحرب. ومن يظن أن قبول روسيا بالحل سيعني خروجها السلبي من الحرب؟ ستخرج خروجًا إيجابيًا، أي ستقاتل بالتشارك مع جميع الأطراف المحلية والإقليمية والدولية، لفرض الحل ومحاربة رافضيه. لكن إيران إن كانت عاقلة، وهي كذلك، لن تقاتل العالم من أجل بقاء النظام، بل ستبحث عن حصتها في الحل السوري. فهل يدرك النظام أن تناقضه، من أجل البقاء، لا يقتصر على روسيا، وسيتعداه إلى إيران؟

 

يأخذ “المشروع الإقليمي” لدى إيران أهمية قصوى لا تُقارن بضرورة بقاء النظام، وعلى إيران أن تتساءل حول إمكانية أن تكون روسيا حليفًا لها في نجاح مشروعها. على إيران أن تضع في حساباتها أن روسيا لن تستعدي العالم الإسلامي السني، والعرب منه على وجه الخصوص، لتحقيق أحلامها الإمبراطورية. وروسيا ستأخذ ايضًا في الحسبان مخاوف ومعارضة دول عالمية غير إسلامية للمشروع الإقليمي الإيراني. فهل تدرك إيران هذا التناقض أيضًا مع الإستراتيجية الروسية؟ لعلها تدرك ذلك!

 

وعلى روسيا، الساعية إلى المشاركة في زعامة العالم، إن نجحت وكيما تنجح أن تدرك الأثمان المطلوبة لزعامة العالم. هناك طريقان لزعامة العالم؛ الأول يمر بالقيام بواجبات الزعامة العالمية سياسيًا وقانونيًا وأخلاقيًا، ويؤدي إلى القبول العالمي بزعامتها طوعًا. والطريق الثاني يفرض نفسه بالعضلات والبلطجة والاستهتار بالقيم الإنسانية وحقوق الإنسان، ويؤدي، إلى المجهول. تجارب روسيا في سوريّة ومع إيران غير مشجعة ليبايعها العالم زعيمة له، وتكرار تلك التجارب قد تصل بها إلى دولة مارقة. فهل يقامر بوتين بهذا المصير، أم يبدأ التصحيح من سوريّة وإيران؟

 

تاسعًا: الموقف السياسي الدولي تجاه الأسد ونظامه، هل يراه بديلًا وحيدًا من تنظيم الدولة الإسلامية) داعش (أم يراه عقبة أمام أي حل في سورية؟

ينقسم الموقف السياسي الدولي من الأسد ونظامه؛ فعدد قليل من الدول لا تزال تقف إلى جانب النظام، وتعدّه نظامًا شرعيًا يواجه حركات إرهابية، ويجب دعمه كي ينتصر على الإرهاب، وبشكل خاص إرهاب تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). وتختلف وسائل الدعم من دولة إلى أخرى. فبينما قدمت روسيا وإيران جميع وسائل الدعم، وصولًا إلى الدعم العسكري والقتال إلى جانبه، اكتفت الصين وبقية دول البريكس (البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب أفريقيا) بالدعم السياسي والدبلوماسي، بما في ذلك استخدام الصين حق الفيتو متماشية بذلك مع روسيا.

 

لكن معظم دول العالم عدّت النظام ديكتاتوريًا مستبدًا يقتل الشعب المطالب بالحرية والديمقراطية. وأن شدة القمع الوحشي خلق مناخًا للإرهاب. وأن الأسد شكل مغناطيسًا للإرهاب. ولمحاربة الإرهاب والقضاء عليه لابد من تنحي الأسد والحلقة الضيقة المحيطة به. ومساعدة الشعب السوري لإقامة نظام ديمقراطي. وكانت أكثر الدول فاعلية في هذا الاتجاه أميركا ودول الاتحاد الأوروبي، وبشكل خاص فرنسا وبريطانيا وألمانيا. مؤخرًا حدثت تحولات في الموقف الأميركي، وبدرجة أقل في الموقف الأوروبي. لم تكن تلك التحولات نوعية لكنها ليست قليلة الأهمية. يجب التوقف عند تحولات الموقف الأميركي لأنها الدولة الأكثر فاعلية والأكبر تأثيرًا أولًا، ولأن الموقف الأوروبي سيلتحق بالموقف الأميركي في النهاية. فأميركا، التي قادت التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب، رفعت شعار “داعش أولًا”، لكن الأسد ليس شريكًا في الحرب على الإرهاب.

وكانت أميركا تصرّ على أن الحل السياسي يجب أن يؤدي إلى رحيل الأسد، وأنه ليس جزءًا من المرحلة الانتقالية. بعد التفاهمات الروسية الأميركية يبدو أن أميركا بدأت تتقبل فكرة مشاركة الأسد في المرحلة الانتقالية، لكن لن يكون له دور في مستقبل سوريّة. وبعض الدول الأوروبية تتحفظ على التحول الأميركي الأخير، لكن هذا التحفظ غير مؤثر. بينما لا تزال روسيا تصرّ على أن من حق الأسد الترشح بعد المرحلة الانتقالية.

من الصعب عدّ تلك المواقف من الأسد ودوره في المرحلة الانتقالية أو في مستقبل سوريّة مواقف نهائية، بل هي مواقف قابلة للتفاوض والمساومات. كما أن المحاولات الأميركية الروسية الراهنة لخلق مناخات تفاؤلية حول إمكانية التوصل إلى حل سياسي، وبدء تنفيذه خلال الأشهر المقبلة تحيط به الكثير من الشكوك. فمعظم العناصر اللازمة والضرورية للتوصل إلى حل قابل للتنفيذ غير متوفرة حتى الآن. فعلى الرغم من الحركة الدبلوماسية النشطة بين الروس والأميركان، لا يزال عدم الثقة المتبادل بينهما يغلب على تفاهماتهما المصوغة بعموميات غامضة. والأطراف الإقليمية على خندقي الصراع تملك إمكانية التعطيل، وقوى الصراع الداخلية لم تصل حد الإنهاك الذي يجعلها تقبل بوجهة نظر الطرف الآخر للحل. والأسوأ من صعوبة التوصل إلى حل عاجل خلال فترة زمنية قريبة، والأسوأ هو التوصل إلى حل على الورق غير قابل للتطبيق على الأرض. إن أي حل تتوصل إليه روسيا وأميركا يبقي مصير الأسد غامضًا في المستقبل، لن يؤدي إلى سلام واستقرار. وسيفتح الأبواب أمام أشكال جديدة للعنف. وعلى الأرجح ستحتاج التحولات المطلوبة في الموقف الروسي إلى جولات مقبلة من الصراع.

 

عاشرًا: الحل السياسي الذي يمكن أن تقبله نخب النظام من دون الأسد وقياداته، وشروط تحول موقفها

منذ أن نجح النظام، بعد أشهر من التظاهرات السلْمية المُطالِبة بالحرية والكرامة، في استدراج أعداد متزايدة من المتظاهرين إلى التسلح وطلب التدخل الخارجي. منذ ذلك الحين بدأت ترتفع أصوات من داخل المعارضة السياسية، والمجتمع الدولي، بضرورة الإعلان عن النظام السياسي المأمول لمستقبل سوريّة بعد سقوط النظام. بهدف طمأنة الموالين للنظام. وبشكل خاص نخبه لتكون بمثابة “ضمانات” لهم ولمستقبل أجيالهم. وبالفعل اتفقت المعارضة السياسية على أكثر من وثيقة، عُرفت بـ”وثائق القاهرة”. وبتصاعد قمع النظام الوحشي، وظهور المنظمات التكفيرية الإرهابية المتطلعة إلى “دولة إسلامية” و”دولة”. فقدت تلك الوثائق أية أهمية، وخاصة أن من كتبها لا يسيطر على الأرض. لذلك يجب أن توكل تلك “الضمانات” إلى الحل السياسي المنشود. من البديهي أن “الحل السياسي” القابل للحياة والاستدامة، ويفضي إلى سلام واستقرار راسخين، يجب أن يلبي احتياجات السوريين كافّة، مع القدرة -طبعًا-على القضاء على الإرهاب. ومن بين تلك الاحتياجات هي “ضمانات” تمنح الطمأنينة لنخب النظام ومستقبل أجيالهم.

 

على ذلك “الحل السياسي”، في مرحلته الانتقالية، الاستناد إلى قوة عسكرية تكون قادرة على فرض السلم، ومنع أي شكل من أشكال التعدي والانتقام والثأر، ومواجهة أي طرف يرفض تطبيق الحل. بغض النظر عن كيفية تشكل القوة، وممن تتشكل. ولعل أنجع الحلول هو تشكيل قوة حفظ سلام دولية، وليس قوة مراقبين، تشكل بقرار من مجلس الأمن تحت الفصل السابع وبموادّه التي تسمح باستخدام القوة والقتال. ويفضل أن تتشكل من دول محايدة مشهود لجيوشها بالمهنية والانضباط. وإذا تعذر ذلك أمكن تشكيل قوة إقليمية من مصر والأردن والمغرب والسعودية، واستبعاد إيران وتركيا.

 

ليس هنا المجال للحديث عن تفاصيل “النظام السياسي” المفضل لمستقبل سوريّة الذي يجب أن يتضمنه “الحل السياسي” بعد المرحلة الانتقالية. بل نكتفي بموضوع الضمانات المطلوبة لطمأنة نخب النظام. ومن حسن الحظ، فإن ما يمكن أن يشكل تلك “الضمانات”، يمكن له أن يكون الخيار الأفضل لكل السوريين، لأحلام وطموحات “الإنسان السوري” بحياة حرة كريمة، بغض النظر عن أي انتماء له لحق به قبل ولادته؛ فالحرية والكرامة هي الشعار ات الذي رفعها متظاهرو التظاهرات الأولى عام 2011.

 

في السجالات التي دارت خلال السنوات الماضية داخل أطراف من المعارضة، وبعض الشخصيات من نخب النظام المنشقة عنه، تم الحديث عن جوانب دستورية وسياسية وقانونية ومؤسساتية تلبي مخاوف تلك النخب وقواعدها الاجتماعية. وعلى سبيل المثال لا الحصر. اُقترِح “عقد اجتماعي” بين “مكونات الشعب السوري “الدينية والمذهبية والطائفية والقومية”، مُتضمَنة في نصوص الدستور لحماية الجميع وحقوقهم وخصوصياتهم. كما اُقترِح أن تتكون السلطة التشريعية من غرفتين، تكون الغرفة الأولى بمنزلة “برلمان، مجلس نواب” يُنتخب مباشرة من الشعب، ويمثل الشعب كل الشعب، بغض النظر عن أي نسب، دينية أو مذهبية أو طائفية أو قومية. وتكون الغرفة الثانية بمنزلة “مجلس شيوخ”، تتمثل فيه الطوائف والقوميات بشكلٍ متساوٍ. لكن التجربتين اللبنانية والعراقية لا تشجع على الأخذ بمثل تلك الاقتراحات. ولعل الحل الأمثل الاستفادة من التجربة السورية في خمسينيات القرن الماضي دون استنساخها، المتجسدة في دستور عام 1950، أي الأخذ بإيجابياتها وتلافي سلبياتها.

 

“العقد الاجتماعي” المُصوغ “نصه القانوني” في “دستور”، الذي يحفظ حرية وكرامة الإنسان، لن يكون بين “جماعات” أو “مكونات” أو “طوائف وقوميات”. العقد الاجتماعي المأمول هو بين “مواطنين أفراد أحرار متساوين في الكرامة الإنسانية”. ويتضمنه الدستور بنص: “المواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، بغض النظر عن أي انتماء سابق على ولادتهم، مثل الدين أو المذهب أو الجنس أو العرق أو اللغة أو اللون أو الثروة … ” وبعد تضمين تلك المساواة في مادة من المواد الدستور، يجب ألّا ينص الدستور على أي مادة أخرى تلغي تلك المساواة التامة، أو يحدّ منها، أو يقيدها. وهذه من سلبيات دستور 1950.

 

“النظام السياسي” هو نظام “جمهوري نيابي” وليس “جمهوري رئاسي”. رئيس الجمهورية يُنتخب، ويُحاسب، من جانب “مجلس النواب” وليس “الشعب”. مجلس الوزراء يتشكل من الأكثرية النيابية ويحوز على الثقة من “مجلس النواب” ولمجلس النواب وحده سحب الثقة من مجلس الوزراء مجتمعًا، أو من بعض الوزراء. وذلك تفاديًا لخضوع الرئيس لمزاج الجمهور، أو مغازلته إيّاه. فالتجارب، خاصة في البلدان حديثة الديمقراطية، تُحذِّر من إمكانية تحول النظام الرئاسي إلى “نظام شعبوي” يقوده “زعيم” وليس “رئيس”، والوصول إلى حكم “المستبد العادل”.

التجربة الديمقراطية السورية تدعو لتجنب ظاهرة “عدم الاستقرار السياسي”. لذلك يجب ألّا يكون النظام “نظامًا برلمانيًا” صرفًا أو صافيًا، كما في أنظمة الملكيات الأوروبية أو مثل النظام الجمهوري، الألماني والإيطالي. بل يجب أن يكون رئيس الجمهورية شريكًا لمجلس الوزراء في السلطة التنفيذية في الصلاحيات والمسؤوليات. وهذه من إيجابيات دستور 1950.

يجب التأكيد في الدستور على فصل السلطات، واستقلالية القضاء. فمجلس القضاء الأعلى لا يضم أحدًا من السلطة التنفيذية، لا رئيس الجمهورية ولا وزير العدل، والمحكمة الدستورية العليا لا يعينها رئيس الجمهورية بل تُنتخب من جانب البرلمان. وهذه أيضًا من إيجابيات دستور 1950.

تلك الضمانات الدستورية والقانونية ستكون، على الأرجح، شرطًا ضروريًا وغير كافٍ لتحول موقف معظم نخب النظام، في اتجاه حلٍ سياسي من دون الأسد وقياداته. والشرط الكافي هو وصولها إلى قناعة بانعدام حظ الأسد في البقاء على رأس هرم النظام، نتيجة تطورات المواقف الدولية والتطورات الميدانية، مجتمعة أو منفردة. أو على الأقل وصولها إلى الحالة التي يصبح فيها بقاؤه يؤذيها أكثر مما يفيدها. (مُكرَه أخاك لا بطل).

 

حادي عشر: الأدوات التي يستعملها النظام للقبض على مناطق سيطرته (القوة، الترهيب من التطرف، عدم قناعة بقدرة المعارضة على القيادة، فقدان الأمل بانتصار المعارضة، المصالح المادية، الخوف التاريخي المعشش في النفوس)

يستخدم النظام جميع الوسائل والأدوات اللازمة، لإحكام قبضته على المناطق الواقعة تحت سيطرته. لكن أولوية كل وسيلة، وترتيب الأهمية النسبية لكل أداة من الأدوات تختلف بين منطقة وأخرى. بحسب الموقف الحقيقي، والمُضمر، لكل منطقة منه ومن سيطرته.

 

ففي المناطق السنية غير الموالية وغير المحايدة ضمنًا مثل: مدينة حماة، ودرعا وريفها، والأحياء السنية في مدن بانياس واللاذقية وجبلة، وبعض أحياء السنة في مدينة دمشق مثل حي الميدان وكفر سوسة، تحضر القوة الكامنة والقمع الجاهز عند اللزوم والخوف من تدمير مناطقهم وتشريدهم أولًا وقبل كل شيء، وبعض المصالح المادية التي تؤمن معيشتهم وبقاءهم على قيد الحياة ثانيًا، وتتراجع عوامل الترهيب من التطرف وإمكانية انتصار المعارضة، ويغيب الخوف التاريخي وقدرة المعارضة على القيادة. وبقايا سنة حمص يكفيهم حصارهم في حي الوعر، والتل وبرزة يعانون الحصار النسبي.

 

أما المناطق السنية الموالية أو ذات المواقف الرمادية في مدن دمشق وحلب وطرطوس وبعض الأرياف تتقدم المصالح المادية أولًا، والقوة ثانيًا، والترهيب من التطرف وضعف الأمل بانتصار المعارضة ثالثًا، ويغيب الخوف التاريخي وقدرة المعارضة على القيادة.

وفي المناطق العلوية، وذات الأكثرية العلوية يحضر الخوف التاريخي المعشش في النفوس، والترهيب من التطرف أولًا، والمصالح المادية ثانيًا، وهم يكنون العداء للمعارضة بغض النظر عن الأمل بالانتصار أو القدرة على القيادة ثالثًا، وتكاد تغيب مسألة القوة.

والدروز في التجمعات شبه المدينية خارج الجبل والسويداء، مثل جرمانا وصحنايا فيحضر الترهيب من التطرف والمصالح المادية أولًا وثانيًا، والخوف التاريخي ثالثًا، والموقف السلبي من المعارضة رابعًا وخامسًا. والقوة سادسًا. أما في السويداء وجبل العرب، وهم الأغلبية الدرزية وحملة القضية الدرزية رمزيًا ومعنويًا، فقد استطاع الدروز تحييد القوة ليس لأنهم يستطيعون مواجهة النظام عسكريًا، فلا مصلحة للنظام باستخدام القوة أو القمع المعمم، كي لا تسقط مقولة “حماية الأقليات” سقوطًا كليًا، وهو مطمئن أنهم لن ينحازوا إلى المعارضة عسكريًا، ولا سياسيًا مادام وضعه متماسكًا. علمًا أن السويداء جعلت مسألة حماية الأقليات تهتز نسبيًا. تحضر المصالح المادية لضرورات الحياة كمكسب أولي من حيادهم في الصراع. أما الترهيب من التطرف والخوف التاريخي فضعيف، بسبب تماسكهم الاجتماعي وتحصنهم في الجبل وتاريخهم الحربي مع محيطهم البدوي أولًا ومع أهل سهل حوران ثانيًا. والموقف من المعارضة منقسم بين أقلية تأمل في انتصارها وتراهن على قدرتها على القيادة، وأكثرية لا تبالي أصلًا بالمعارضة.

المسيحيون في معظم مناطقهم يأخذون خطر التطرف على محمل الجد، ومسيحيو الجزيرة يواجهونه فعليًا. وتحضر المصالح المادية ثانيًا، وأكثريتهم لا تثق بالمعارضة ولا تتمنى انتصارها، والخوف التاريخي ضعيف نسبيًا وخاصة عند مسيحيي المدن، أما القوة فتأتي أخيرًا.

الإسماعيليون، ومعظمهم في السلمية وريفها، ليسوا في حاجة إلى من يرهبهم من التطرف. فـ”داعش” و”النصرة” على بعد كيلو مترات منهم، وحضوره يومي في حياتهم، هجمات وقتلى وجرحى. والقوة حاضرة ثانيًا، والمصالح المادية ثالثًا. وهم منقسمون بشأن المعارضة، فمنهم من لا يتمنّى انتصارها ولا يثق في قدرتها، والبقية تأمل في انتصار المعارضة بغض النظر عن قدرتها النسبية على القيادة. ونادرًا ما يحضر الخوف التاريخي. أما إسماعيليو مصياف ومحافظة طرطوس فيعيشون بوصفهم أقليات ضئيلة العدد، ومبعثرة جغرافيًا، في مناطق باردة مع محيطهم العلوي الواسع. مشكلات حياتهم المحلية الضيقة تطغى على مشكلات الأوضاع العامة، ينعدم بينهم النشاط السياسي. أكثريتهم من الموالين لكنهم يعيشون موالاتهم كلامًا بكلام، ومن يعدّ منهم نفسه معارضًا فمعارضته صامتة وساكنة. تحضر القوة في حياتهم اليومية أولًا، والقوة بالنسبة إليهم مزدوجة؛ قوة النظام، وقوة الطائفة المحيطة بهم، ويهجسون بقوة الطائفة أكثر من قوة النظام، إذا وصل إلى مرحلة الضعف. وتأتي المصالح المادية لتأمين حياتهم المعيشية ثانيًا. لا يأبهون للمعارضة، ويشعرون أن التطرف لا يزال بعيدًا جغرافيًا، أما الخوف التاريخي بالنسبة إليهم فمصدره محلي، وليس آتيًا من بعيد.

 

ثاني عشر: مدى توقع تبديل معظم الفئات الموالية مواقفها، وميلها إلى التوافق مع الوضع الجديد في حال تحققه

يرتبط توقع تبديل معظم الفئات الموالية مواقفها، وميلها إلى لتوافق مع الوضع الجديد في حال تحقق، بشكل رئيس، بكيف سيكون عليه ذلك الوضع. تزداد احتمالات تبديل المواقف والميل إلى التوافق معه، بارتفاع احتمالات استقراره وأرجحية رسوخه. ومدى تلبيته لمتطلبات الناس، من حياة آمنة وكريمة في ظل مناخ يسوده السلام والعدل. ويوفر الاحتياجات المعيشية الأساسية من الغذاء والمسكن واللباس، ويؤمن الرعاية الصحية، التعليم وفرص العمل. وقد تبدو تلك الشروط والأوضاع، بحق، مبالغ فيها، وغير واقعية نظرًا إلى ما سوف يعترض عملية بناء الوضع الجديد، وإقلاع دورة حياته من صعوبات وتحديات ومشكلات، موضوعيًا وذاتيًا؛ لذلك يجب التركيز في البدء على إمكانية تأمين الحدود الدنيا من تلك المتطلبات. لكن مطالبة الناس بالواقعية، والقبول بالمشاركة بتحمل الصعوبات والمساهمة في تذليلها، يجب أن يترافق مع الطروحات والمشاريع والجهد الذي يبعث الأمل، وتفتح أفقًا يبشّر بغد أفضل ومستقبل واعد. ويجب تحقيق ذلك الوعد مباشرة ولا عذر عن تأخيره. يتحقق التبشير بالأمل الواعد، مع القدرة على مواجهة التحديات وتذليل العقبات، بإتاحة الوضع الجديد المأمول للناس، جميع الناس، حق المُواطَنة وواجبها في المشاركة السياسية والثقافية والعملية. وعدم الإقصاء والتهميش لأي سبب غير قانوني أو قضائي. وهذا يتطلب سيادة القانون فوق الجميع من دون استثناء. وأن تقف الدولة على مسافة واحدة من الجميع من دون تمييز. ولتحقيق كل ذلك لا بد من قيام سلطة قضائية مستقلة، توفر قضاءً عادلًا ونزيهًا، يستطيع حماية الحريات العامة والخاصة.

إذا استطاع السوريون توفير ذلك بجهدهم الذاتي، فربّما يكونون قد أمّنوا الشرط الضروري ولكن غير الكافي، ولتأمين الشرط الضروري والكافي فلا بد من قيام المجتمع الدولي بواجباته وتحمل مسؤولياته من دون تهرب أو تقاعس أو تأجيل. فما واجبات المجتمع الدولي وما مسؤولياته؟

في اختصار مكثف، يحتاج الوضع الجديد إلى رعاية دولية وعربية واسعة وجدية، وبشكل خاص من أولئك الذين ادّعوا منذ البداية أنهم “أصدقاء الشعب السوري”. وتشتمل الرعاية على وفائهم بالتزاماتهم الأمنية والسياسية والاقتصادية. والقيام بـ”مشروع مارشال” حقيقي خاص بسورية. يقوم بإعادة الإعمار، بما في ذلك بناء بنية تحتية حديثة، وتدوير عجلة الاقتصاد. ويشرف المانحون على تنفيذ مشروعاتهم بأعلى معايير الشفافية العالمية، كي لا تتحول المشاريع إلى بقرة حلوب تدرّ كسبًا غير مشروع على نافذين محليين وشركاء لهم في الشركات المُنفِذة.