اسم الكتاب: بلاد الشام في مطلع القرن العشرين
اسم المؤلّف: وجيه كوثراني
مراجعة: فادي كحلوس
دار النشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
مكان النشر: بيروت/ لبنان
تاريخ النشر: 2013
المحتويات
القسم الأول: معطيات ديموغرافية واجتماعية واقتصادية
توزع السكان بين الأرياف والمدن
التوزع السكاني في الولايات التي أنشاها الانتداب الفرنسي
نموذج عن توزع السلطة والثروة في دمشق على العائلات والطوائف
العلاقة بين المدينة والأرياف، تمركز السلطة في المدن
البحث عن “الدولة البديلة” بين الاجتماعي والسياسي
الطوائف في الأرياف الجبلية، العلويون والدروز
القسم الثاني: فرنسا والاقتصاد السوري
القسم الثالث: مشروعات فرنسا في السيطرة والتجزئة/ طوائف وإثنيات ومشروعات
1- الصراع الإنكليزي الفرنسي 1912-1013 وكيفية انعكاسه على التعامل الأوروبي مع المسيحيين والمسلمين
أ- اتحاد مصر وسورية: مشروع “الخلافة” في السياسة الإنكليزية “الإسلامية” والرد الفرنسي
ب- فرنسا بين حماية الأقليات والسياسة الإسلامية والعربية
2- مشروع “سورية الطبيعية” في البرامج الفرنسية 1913-1918
أ- مصير سورية في التصور الفرنسي
ب- وحدة سورية الطبيعية في منظور رجال الأعمال الفرنسيين والاعتراض على سايكس – بيكو
د- المشروعات الإدارية – السياسية لتنظيم الانتداب في سورية (1919-1920)
خلاصة وتعليق حول التجزئة والعمل السياسي القومي في الأعوام الأولى من الاحتلال الفرنسي
مقدمة
يتجلى السؤال المركزي للكتاب الذي بين أيدينا في: كيف تعامل الاستعمار الفرنسي مع أحوال بلاد الشام (انتماءات السكان الدينية والمذهبية والإثنية، وتوزعهم في بيئاتهم المدينية والريفية والجبلية)؟
الإصدار الأول لهذا الكتاب كان عام 1980 ثم صدرت الطبعة الثانية عام 1984، لتمر السنوات محملةً بحروب طائفية من جهة، وبجاذبية المقاومة الوطنية والإسلامية ضد الاحتلال الإسرائيلي من جهة ثانية، وبأسئلة تتعلق بخيارات تلك المقاومة ومفهوماتها واستراتيجياتها؛ ما الوطني وما الإسلامي؟ وأي ثقافة للمقاومة تكونت في خضم الممارسة النضالية الثورية؟ وأسباب تراجع “الوطني” أمام نمط من التدين المذهبي السياسي.
في خضم هذا كله؛ تجاذبت المؤلف فكرة إصدار الطبعة الثالثة من كتاب “بلاد الشام”، ولكنها أُجلت لمصلحة كتب أخرى ألّفها، وازاها انكباب دائم على البحث التاريخي، ووفق منهج المؤرخ الفرنسي “مارك بلوخ” الذي يقول: “الوثائق لا تعبر بحد ذاتها عن حقائق أو وقائع، وإنما هي منبئة بمعطيات عبر القراءة، والقراءة تصدر عن خيارات وفرضيات، وهذه الأخيرة تطرح أسئلة الحاضر على الماضي”. وهكذا أتم الكاتب قراءته وثائق الدبلوماسية الفرنسية وتقارير خبرائها من اقتصاديين وعسكريين ومهندسين ومخبرين، فضلًا عن مذكرات غرف التجارة.
إن المهم في هذه الوثائق هو ما تُنبئ به في تسويغ عملية “تنظيم سورية” بعد الاحتلال، وهي مشروعات تراوح بين المحافظة على وحدة سورية بكاملها من زاوية جيو-اقتصادية، أي وحدتها على امتداد المصالح الفرنسية من كيليكية حتى مرافئ فلسطين، ووالمحافظة على قدرة فرنسا على التحكم والضبط والسيطرة على المجتمع من زاوية سياسية وثقافية أمنية. كانت مسألة ضبط المجتمع عبر التجزئة الجيو-سياسية القائمة على خصوصيات الطوائف، هي الغالبة في الوثائق الدبلوماسية التي اختزلت وشوهت مفهوم “الأمة” ليعني كيانات إثنية وطائفية مرشحة لإقامة دويلات أو كانتونات عليها، وهذا ما يتضح في مراسلات غورو-ميلران السرية عام 1920، والأهم هو ما تُنبئ به بعض الوثائق من صفة “الفوضى” في توصيف واقع بلاد الشام وتاريخها، حيث لا “أمة” ولا “دولة” عاشتها شعوب المنطقة. فالمستقبل مفتوح على تشكيل “أمم” وفقًا للإدارة الفرنسية. ولا يختلف حديث “الفوضى” في الخطاب الفرنسي الكولونيالي إبان عشرينيات القرن العشرين عن حديث “الفوضى” و”الحرب الأهلية” في سورية في خطاب دول العولمة الجديدة لدى المتدخلين الدوليين في الشأن السوري اليوم جميعهم، وفي طليعتهم روسيا والولايات المتحدة. فتوصيف واقع ما على أنه “فوضى” أو “حرب أهلية” له وظيفة في السياسات والاستراتيجيات الدولية.
إن توصيف الصراع بين الأطراف المحليين على أنه “صراع أهلي” هو المفصل الذي تلتقي عنده القوى الدولية، متنافسة أو متصارعة أو متواطئة. والطبعة الثالثة من هذا الكتاب ستسهم في فهم زاوية من زوايا تاريخ بلاد الشام، تاريخ تشكل حاضرها، واستشراف احتمالات مستقبلها.
لم يجرِ -في هذه المراجعة- التطرق إلى فقرات الكتاب جميعها، لما لها من طبيعة إحصائية تخصصية زراعية وتجارية في الأغلب، كـ”إنتاج سورية من الحرير، إحصاءات سكنية لمناطق خلال مرحلة تاريخية ما …إلخ”. وهذا ما لم يتعارض مع المحافظة على سياق أفكار هذا الكتاب المهم.
كثير من الاستنتاجات الخطرة والعميقة التي خرج بها الكاتب في هذا الكتاب التي تصب في معرفة بنى المجتمع العربي عمومًا ومجتمع بلاد الشام على وجه الخصوص، وكيفية تعامل الاستعمار معها لتحقيق أهدافه ومشروعاته؛ نلاحظه خلال سرد الكاتب، كيف أن المستعمر “فرنسا” على سبيل المثال، لم يكن يضع في حسبانه أي قيمة للمجتمع أو أي احتمال وازن له آنذاك، ولم يأتِ هذا عن عبث، فالفرنسيون بعد إرساليات ودراسات وإحصاءات ومراسلات دبلوماسية، كانوا على علم ومعرفة عميقين، بما يحويه مجتمع “بلاد الشام” آنذاك من اصطفافات ومرجعيات وطموح وإمكانات وبنيات ومواقف. ونلاحظ أيضًا -وللمفارقة- أننا في محطات توصيف هذا المجتمع جميعها قادرين على إضافة كلمة “وما زالت” بعد كل كلمة “كانت” التي استخدمها الكاتب. كأن نقول: كانت الولاءات الإقليمية والمحلية أقوى كثيرًا من الولاءات للعروبة الشاملة “وما زالت”. ونقول مفارقة، لا سيما أننا نقارن المجتمع ذاته بعد قرن كامل منصرم.
أخيرًا؛ إن العينة التي اختارها كوثراني، وهي بلاد الشام في مطلع القرن العشرين، لهي سمة قابلة للتعميم على البلدان العربية جميعها، مع اختلاف القوة المستعمِرة، وهي قابلة للتعميم في امتداداتها البنيوية والزمنية أيضًا. من حيث الطائفية والعشائرية …إلخ. ومن حيث غياب مفهومات كثيرة كالوطنية والهوية، والحتمي هنا كنتيجة هو غياب مشروع دولة/ أمة. والمقصود في الامتداد الزمني هو أن حال تلك “الدول” بقي بنسب عالية كما كان عليه قبيل قرن كامل. لنخلص إلى نتيجة هي أن المجتمع العربي الآن هو مجتمع “خارج التاريخ، داخل المتحف” وغالبًا ما يجري تناول إشكالاته ومآزقه في بعدها الموضوعي فقط، من دون المساس بالبعد الذاتي إذ يخلص الكاتب “كوثراني” إلى ان هذا “الذاتي” هو شريك “الموضوعي” في ما نحن عليه اليوم. فالاستعمار بشكليه القديم والحديث، هو جزء من مأزقنا وليس المأزق كله، لتأتي انتماءاتنا وولاءاتنا ومفعولات البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الخاصة بنا جزءًا أساسيًا ومفصليًا في مأزقنا التاريخي، وهذا “الذاتي” قادر على إفشال أي طموح نهضوي مهما بلغت تضحياته، والمثال الحاضر لهذا هو مسارات الربيع العربي ومآلاته.
القسم الأول: معطيات ديموغرافية واجتماعية واقتصادية
تعددت المدلولات لتعبيري “بلاد الشام” و”سورية الطبيعية”، فكان لها استخدامات قديمة وحديثة، تحمل مضامين جغرافية إدارية تختلف باختلاف المراحل التاريخية، وحتى في المرحلة التاريخية الواحدة. في عام 1893م كانت سورية “بوصفها ولاية عثمانية” تضم الألوية الآتية: لواء الشام الشريف، ولواء حماة ولواء حوران ولواء معان. أما ولاية بيروت فضمت: ألوية بيروت وعكا وطرابلس الشام واللاذقية والبلقاء. وضمت ولاية حلب ألوية: حلب وأورفة ومرعش. ونلاحظ أن ولاية حلب شملت مناطق تبعت في أغلبها لتركيا، إذ إن لواءين وأحد عشر قضاءً من مجموع الألوية الثلاثة والأقضية الواحد والعشرين التي تألفت منها الولاية تخضع الآن للحكم التركي. فيبقى من سورية عشرة أقضية فقط، هي: إعزار وحارم والباب وجسر الشغور وإدلب ومنبج وجبل سمعان والمعرة. وتكون سورية قد خسرت: لواء عينتاب وأقضيته الأربعة: أورفة وسروج وروم القلعة وبيرة جك، وخسرت: لواء مرعش وأقضيته الأربعة: الزيتون ويارزجق واندرين ومرعش، وخسرت ثلاثة أقضية من لواء حلب نفسه وهي أقضية بيلان، واسكندرون وانطاكيا. ووفق اتفاقات سان ريمون ومعاهدة سيفر؛ خسرت سورية لواء معان الذي ضم أقضية: الكرك والسلط والطفيلة، وخسرت ولاية بيروت لواءي عكا ونابلس. فالوثائق المدروسة استخدمت تعبير “سورية” استخدامات شتى، فهي تعني امتدادًا جغرافيًا يضيق أو يتسع، وذلك في مرحلة كانت تتطارح فيها مشروعات تقسيم الإمبراطورية العثمانية، ويُدرس فيها مصير “سورية” انطلاقًا من مصالح الدول الغربية، واتجاهات القوى السياسية المحلية. وتداركًا لتعدد المدلولات هذه؛ ارتأى الكاتب استخدام صيغة تاريخية تجنب الإشكالات التي قد يثيرها الاختلاف في استخدامات تعبير “سورية”. هذه الصيغة هي “بلاد الشام” وفق ما عرّفه محمد كرد علي، “حد بلاد الشام تنتهي بسفوح جبال طوروس، آخذًا إلى ما وراء خليج الإسكندرونة لجهة أرض الروم، وما على ضفة نهر الفرات من جهة الشام فهو شام، كصفين وقلعة جعبر ودير الزور والرقة، والجوف في الجنوب. وأيلة هي آخر الحجاز وأول الشام، والعريش أو رفح هي حد الشام الجنوبي الغربي، ومعان نصفها للشام ونصفها للحجاز”.
السكان وتوزعهم بحسب الطوائف
أما (السكان وتوزعهم بحسب الطوائف) في الولايات وفي دول الانتداب الفرنسي وفي المدن والأرياف، فكان كالآتي:
بحسب الولايات والسناجق: في مطلع القرن العشرين، قدّر “شكري غانم” عدد سكان سورية (ماعدا كيليكيا) بـ 3300000 نسمة في مساحة تشمل 324000 كم2، بينما يقدرها “ادمون لوي” بـ3500000 نسمة. ويقدر “جورج سمنة” مساحتها بـ395787 كم2 وعدد السكان 4370573 نسمة. أما التقديرات الألمانية لمساحة وسكان الولايات العثمانية التي تتقاسم سورية عام 1915 فبلغت 338600 كم2 و عدد السكان 4008000 نسمة.
توزع السكان بين الأرياف والمدن
في حدود مناطق الانتداب الفرنسي؛ لاحظ الخبراء الفرنسيون وجود 17مدينة يزيد عدد سكان الواحدة منها على 10 آلاف نسمة ويبلغ عدد سكانها كلها حوالى 1200000، وأكثر من 15 قصبة، يراوح عدد سكان الواحدة منها بين 3000 و 10000 شخص، ليصبح عدد السكان المدنيين في مطلع القرن العشرين حوالى 1500000 والريفيين 2380000 من بينهم 700000 من البدو الرحل. أما أهم المدن السورية التي ضُمت إلى الانتداب الفرنسي وتخطى عدد سكان الواحدة منها 10 آلاف شخص فهي: دمشق 300000، حلب: 250000، حماة: 70000، حمص: 80000، عينتاب: 70000، طرابلس: 50000، أنطاكية: 30000، النبك: 15000، زحلة: 15000، كلّس: 15000، داريا: 12000، صور: 10000. وتعدد مذكرة غرفة تجارة مارسيليا 30 مدينة وقصبة في سورية عدد سكانها كلها حوالى 1401000 شخص.
التوزع السكاني بحسب الطوائف
يورد جورج سمنة في كتابه “سورية” جدولًا بعدد الطوائف التي يتشكل منها سكان سورية الطبيعية، مع تقديرات إحصائية عن عدد أفراد كل طائفة، ولا يتوافق الكاتب معها من حيث الدقة، ويصفها بأنها ذات وظيفة دعائية تبغي إبراز أهمية سورية للمصالح الفرنسية:
المسلمون: عددهم 3016000 بين سنة وشيعة، إضافة إلى أربع مجموعات أقوامية تنتمي إلى الإسلام “جراكسة، تركمان، أكراد، فرس”
المسيحيون: يقدر عددهم بـ 1400000 نسمة:
الكاثوليك: 820000 نسمة “موارنة، روم كاثوليك، أرمن كاثوليك، سريان كاثوليك، كلدان كاثوليك، لاتين”.
المسيحيون غير الكاثوليك: روم أرثوذوكس، أرمن أرثذوكس، سريان أرثوذوكس او يعاقبة، كلدان أرثوذوكس او نساطرة، بروتستانت.
اليهود: 121000 بين إسرائيليون 120000 و سامريون 1000
فرق إسلامية باطنية: دروز، نصيرية، إسماعيلية، يزيدية، بهائية بمجموع 4370000نسمة.
التوزع السكاني في الولايات التي أنشاها الانتداب الفرنسي
تشكل الجداول الإحصائية التقريبية التي يوردها “أوزو” و”حوراني” وفق الانتماءات الطائفية والتمركز في المناطق؛ لوحات ذات دلالة كبيرة على التركيب الطائفي لكل منطقة، والملاحظ من هذه اللوحات الديموغرافية أن الدولة التي ارتأى الانتداب الفرنسي تشكيلها، لا تشمل طائفة واحدة، بل مجموعة من الطوائف تغلب فيها -عدديًا- طائفة بعينها. فدولة سورية التي أنشاها الاحتلال الفرنسي على أساس الغلبة العددية السنية فيها، كانت ذات تركيب تعددي واضح. وتبرز ظاهرة التعدد وغلبة الطائفة الواحدة في المناطق الأخرى، إذ يتحول المسلمون السنة -الأكثرية في سورية كلها- إلى أقليات كما في جبل الدروز حيث الأكثرية درزية، وفي قضاء اللاذقية حيث الأكثرية علوية. وهكذا يمكن أن نتحدث عن جزر أقليات في بحر إسلامي سني، وعن أقليات الأقليات، وعن أكثرية في مكان تصبح أقلية في مكان آخر. وأن آلية التوزع الطائفي أدت إلى تشكيلات معقدة في الساحة الاجتماعية- الديموغرافية في البلاد.
المدن والسكان
التوزع الديموغرافي والنشاط الاقتصادي بين المدن الساحلية والمدن الداخلية: بسبب تعاظم دور التجارة الأوروبية مع سواحل المتوسط الشرقية، ووجود معاهدات الامتيازات الأجنبية التي شجعت على الإتجار؛ ازدهرت المدن الساحلية ومدن المحطات الكبرى الواقعة على طرف الممرات والمواصلات البعيدة (مثل حلب)، وكان من نتائج ذلك أيضًا، أن السواحل المهجورة منذ إخراج الصليبيين عام 1291 قد دبت بها حركة العمران، ونظرًا إلى انقسام الكنيسة الأرثوذوكسية، أصبحت العناصر السكانية المسيحية تهاجر بالتدريج من الداخل إلى الساحل، فأصبح يكتسب سمة مسيحية بارزة، وبيروت هي النموذج الأبرز لهذه الظاهرة. ففي أواخر القرن التاسع عشر بلغ عدد سكان بيروت 120 ألفًا، ثلثهم من المسلمين والثلثان من المسيحيين وأغلبهم من الكاثوليك. والتقت الغلبة العددية مع غلبة اقتصادية، تمثلت بتسلم عائلات مسيحية زمام حركة الاستيراد والتصدير من أوروبا وإليها. أما المدن الداخلية الكبرى في بلاد الشام فإن الطابع الإسلامي السني هو الغالب فيها، إلى جانب أقليات من اليهود ومن مختلف الطوائف الإسلامية.
نموذج عن توزع السلطة والثروة في دمشق على العائلات والطوائف
يقول فيليب خوري: حتى مطلع القرن العشرين كانت السلطة المحلية في دمشق، قد تشكلت على القواعد الاجتماعية والاقتصادية والمؤسسية التي نشأت في إطار الدولة العثمانية بعد عام 1860م، وكانت عملية تتجير الحبوب، ولا سيما القمح تدفع بالأعيان من أغوات وعلماء وأشراف إلى مزيد من السيطرة على الأراضي، وتسجيلها بأسماء وعائلات الأعيان. وكان التنظيم الإداري العثماني للولايات والألوية، يفسح المجال أمام ترقٍ اجتماعي وسلطوي، وسيلته “المنصب الإداري” الرفيع الذي يسعى إليه في إسطنبول، إما عن طريق الشراء أو الرشوة، وإما عن طريق الخدمات المختلفة للسلطة المركزية. وكانت أيضًا إصلاحات “التحديث” العثمانية تقدم إلى واجهة السلطة المحلية عائلات مسيحية ويهودية كانت قد جنت ثروات نقدية كبيرة من خلال العمليات التجارية مع أوروبا. ونظرًا إلى ازدياد الأفق وحرية العمل استطاع زعماء الأقليات أن يستخدموا مراكزهم في الإدارة المحلية وصلاتهم مع أوروبا لإقامة قاعدة متينة للثروة والنفوذ. وقد تأكدت سلطتهم الفاعلة بعد أن أصبحوا الطبقة التجارية السائدة في دمشق. وقد أدّوا دورًا أساسيًا في امتصاص اقتصاد الولاية تدريجيًا إلى داخل اقتصاد أوروبا. وكانوا بوصفهم من المرابين والمصرفيين، يسيطرون على السيولة النقدية، فأقاموا صلات اقتصادية قوية مع البيرقراطيين وأصحاب الأراضي، وقدموا لهم رأس المال لتمويل مشترياتهم من الأراضي ومشروعات السكن.
ويعدد “خوري” أقوى العائلات الدمشقية المسلمة، مالكة الأراضي آنذاك، ويستعرض أشكال صعودها السياسي والاقتصادي عن طريق خدمة السلطة المركزية، وعن طريق إقامة أشكال من التحالفات مع العائلات وتكوين شبكة من الأتباع في الأحياء والقرى، بحيث تستطيع أن تشكل قوة اجتماعية محلية، ومن ثم قوة سلطوية في خدمة السلطة المركزية في إطار الجهاز الإداري للولاية، ومن هذه العائلات: العظم، العابد، مردم بك، القوتلي، البارودي، سكر، المهايني، اليوسف، اغريبوز، بوظو. ويقدر أن هذه العائلات بلغت في أوائل القرن العشرين اثنتي عشرة عائلة، شكلت “نخبة الصفوة السياسية في دمشق” التي كانت تتألف من حوالى خمسين عائلة مسلمة أخرى، إضافة إلى خمسة عشرة عائلة مسيحية وأربع عائلات يهودية. والملاحظ أن هذه العائلات هي التي احتلت مواقع السلطة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وحتى عام 1908، وهي التي ستحتل في ما بعد واجهة العمل السياسي في مرحلة بروز الحركة المطلبية العربية في مدن المشرق العربي التي تولى قيادتها بشكل أساس آنذاك التجار المسيحيون المشرقيون في المدن، كذلك في مرحلة الحركة الفيصلية وتكوّن حزب الشعب في سورية في ما بعد. وأدت هذه العائلات بشكل أساس دور وسيط السلطة المركزية في المجتمع الدمشقي. ولم تشكل “طبقة” بالمفهوم الغربي للتعبير.
العلاقة بين المدينة والأرياف، تمركز السلطة في المدن
سادت العلاقات الاجتماعية – السياسية الرعوية في “السلوك السياسي” في مدن بلاد الشام على وجه الإجمال، ومدت هذه العلاقات بنفسها على الأرياف القريبة من المدن، فالقرى أصبحت في ذلك الوقت أملاكًا لبعض العائلات المدينية. وهذا الأمر لا يقتصر على دمشق فقط.
البحث عن “الدولة البديلة” بين الاجتماعي والسياسي
تكوّن الملكيات -انطلاقًا من موقع سلطة الأعيان والتجار في المدينة- تبيانًا لطبيعة الفئات الاجتماعية والقوى السياسية المدينية التي سيطرت على الريف، هذه القوى بسبب موقعها السياسي والإداري في النظام العثماني، هي المؤهلة للعمل السياسي في مرحلة انهيار الدولة العثمانية، والبحث عن بديل في إطار الصراعات الدولية بين الإمبرياليات، وتصطدم أهليتها في أن تشكل السلطة البديلة بعد زوال “إسطنبول” في عدم تمثيلها مصالح جمهور واسع، فهي تشكل مجموعة عائلات ولكل عائلة جمهورها، وهذا الجمهور شبكة من الأتباع في الأحياء والقرى، والعائلة ذاتها تدخل في صراعات مع عائلات أخرى حول توسيع شبكة الإتباع وتوسيع الملكيات في الريف وحجم المناصب السياسية والإدارية والعسكرية في الدولة. تلك هي طبيعة هذه القوى التي أفرزت في سياق تأزم العلاقة بين العرب والأتراك في العهد الدستوري، أشكال العمل السياسي وأيديولوجياته المختلفة، وهي التي برزت في مواجهة العمل السياسي في العهد الفيصلي في سورية (1918-1920)، وضمن أشكال واتجاهات متضاربة، بعضها يراهن على الإنكليز وبعضها يراهن على الفرنسيين وبعض آخر على الأميركيين، وكذلك بعضها ذو أيديولوجية عروبية وحدوية، وبعضها الآخر يحمل اتجاهات إقليمية، وهذا بدوره يتقاطع مع الانتماءات إلى الطوائف ومراكز المدن وما يحيطها من مصالح (ملكيات وأسواق). هذه القوى لم تنخرط في طبقة واحدة ولم تنتج أيديولوجية قومية واحدة، والأيديولوجيات الأقوامية – الإقليمية والطوائفية الدينية كانت تعكس اتجاهات فئوية في رؤية “الدولة البديلة” وتصورها. لذلك اختلفت مشروعات الدولة البديلة تبعًا لعوامل مختلفة: الطائفة، العائلة، الثقافة المحصلة، الموقع الاقتصادي للقوى الاجتماعية. وعندما كانت هذه القوى كلها تشترك في كونها من التجار والملاكين، فإن نوع التجارة وأشكالها وحجمها ومصادرها، كذلك حجم الملكيات الزراعية وحدودها الجغرافية في الريف؛ جاءت لتحدد حيّز “مشروع الدولة” جغرافيًا وبشريًا، وحتى لتحدد اسم الدولة الأجنبية “المنتدِبة” في حال “الاستقلال”. إن طبيعة السلطة وتوزعها على أعيان المدن وعلى “عائلات” متنافسة على “المناصب” وعلى أعيان “طوائف” دينية متفاوتي الثروة؛ هي التي شكلت الطرف الذي تعاملت معه، منذ طرحت “مشروعات تقسيم السلطة العثمانية” السياسات الأوروبية المختلفة، وكان تعامل هذه السياسات ولا سيما السياسة الفرنسية، ينبع من رصد خصوصيات هذا الواقع “عبر تقارير رجالها وخبرائها وقناصلها آنذاك” وتجسيمها بمنظار أوروبي. رأي خبراء الاقتصاد الفرنسي آنذاك، هو حل “المسألة الزراعية” عن طريق الحد من الملكيات الكبيرة، ورأي الباحثين الأكاديميين الفرنسيين أمثال “ووليرس وهوفلان ولاترون” هو أن تكون سياسة الانتداب إلى جانب الفلاح، اعتمدت السياسة الفرنسية الفعلية بشكل أساس على صراعات الأعيان في ما بينهم، ومنافسات المدن في ما بينها (حلب-دمشق) وتضارب اتجاهات زعماء الطوائف و”مثقفيها” من المسائل السياسية المطروحة، بدءّا من الموقف من الدولة العثمانية إلى الموقف من مشروع الخلافة العربية إلى مشروع الشريف حسين إلى مشروع فيصل. ما عُرض سابقًا؛ يظهر لنا المأزق الذي واجه الحركة العربية في المرحلة الأولى من تكونها، وهو مأزق تشكل أيديولوجيا قومية تعبئ الجماهير التي دخلت في إطار مشروع الدولة المقترح (المملكة العربية السورية آنذاك). إضافة إلى أن “خصوصيات” بعض الطوائف الدينية في الأرياف الجبلية التي اتخذت منها السياسة الفرنسية مبررًا لمشروعاتها التجزيئية في سورية (الموارنة، العلويون، الدروز) تشكل جانبًا آخرًا إلى جانب طبيعة القوى والفئات المدينية: تجار وأعيان، من جوانب المأزق الذي مرت به الحركة العربية في “مشروعها التوحيدي القومي” الأول.
يقول “ووليرس”: إن ظاهرة “الأمة – الدولة” هي ظاهرة أوروبية، والشرق لم يعرفها. تنطلق وجهة نظره من مفهوم أوروبي لظاهرة “الدولة – الأمة” وهي إذ تقارن تكوّن هذه الظاهرة بواقع الشرق العربي والإسلامي، تكشف أن آلية هذا التكون التاريخي خاصة بالغرب، وأن طبيعة السلطة والدولة في الشرق العربي والإسلامي لا يمكن أن تنتج هذه الظاهرة. إن الوصف المقارن لمفهوم “الدولة” الذي يقدمه “ووليرس” يستحق وقفة نقدية وجدية. فهو من جهة يمثل وجهة نظر أكاديمية فرنسية في تسويغ مشروعات التجزئة التي لجأت إليها فرنسا، وهو من جهة ثانية يقدم ملاحظات دقيقة عيانية: “لم يحصل في الشرق هذا التدامج والتماثل التدريجي بين العناصر الثلاثة المكوّنة: الأرض، الأمة، الهيئة السياسية، الذين أدوا إلى تكون بلدان أوروبا الغربية، التي تعد فرنسا أكثرها نضجًا واكتمالًا. ففي الشرق بقيت الدول ترتبط بالأمير، والدولة – الأرض هي محض تجاور، مقاطعات تعود إلى الأمير نفسه، وهذا التعريف يبقى هو ذاته إن كانت الدولة إمبراطورية امتدت إلى القارات الثلاث (عباسيين وأمويين) أو كانت تكوينًا أصغر كما هو الحال مع المماليك، أو إن اقتصرت على مدينة واحدة وضواحيها، خليفة كان أم سلطانًا، باشا أم أميرًا، يبقى المبدأ واحدًا: الأمير وحده من يمثل حقيقة الدولة، والتبعية للأمير وقومه تشكل المنطلق. والدولة في الشرق في رأيه هي لحمة اصطناعية لم تنبثق من السكان والأرض، هي ركام غير متجانس من الطوائف المتفرقة غير قادرة على إفراز مواطنية محلية. وإطاراتها السياسية لا تترجم الحياة الحقيقية للسكان، ولا سيما للفلاحين منهم، هذه هي الحقيقة التي يجب البحث عنها خارج هذه الأطر، في الطوائف المختلفة: القبائل، الطوائف الدينية، الطوائف المدينية أو المهنية، فداخل هذه الطوائف تجري حركة الأملاك والناس والأفكار، من دون حسبان للحدود الإدارية والسياسية.
ويطرح “ووليرس” مشكلة الانتماء الوطني في مرحلة ما بعد التقسيم الإمبريالي للمشرق العربي بهذه الصيغة: إذا ما سألت فلاحًا من الجزيرة أو من المناطق الشرقية في لبنان، أو من عجلون، من يكون؟ يجيبك أنه من هذه القبيلة أو تلك، أو من تلك القرية، يجيبك أنه مسلم، أرثوذكسي، أو دزي، لكن أبدًا لا يجيبك بعفوية أنه عراقي، أو سوري أو أردني. ويضيف: قد يقال إن هذه الدول حديثة وكيانات اصطناعية، هذا لا شك فيه، لكن أليس من المؤكد أننا نحصل على النتيجة نفسها في حال ملاحظتنا للفلاح المصري؟ هو أيضًا يجهل وطنه على الرغم من أن مصر هي أكثر بلاد العالم تهيؤًا لإنتاج هوية وطنية.
واضح أن مفهوم الوطن والوطنية والقومية والأمة الذي يتحكم بهذا التفكير، هو المفهوم الذي يتمحور حول التجربة الأوروبية. “فالأمة” وفق هذا المفهوم كانت نتاج تطور المجتمعات الرأسمالية، وعناصر تكوينها كما تلخصها بعض الأدبيات الماركسية هي عناصر أُنتجت في سياق الصراعات الاجتماعية والسياسية التي انتهت بانتصار البورجوازية وتوحيدها للسوق والثقافة ومركزتها الأجهزة والمؤسسات.
الصحيح؛ أن مثل هذه العناصر لم تنتج في الشرق العربي والإسلامي، لكن هذا لا يعني -كما يستنتج ووليرس- أن مشروع أمة – دولة لا يمكن أن يتحقق في هذه الشرق، فالعلاقات التي يشير إليها: الدين، والروابط الاجتماعية الأخرى ليست معوقات، بل كانت قد حصلت في سياق تشكل مشروع “الأمة” داخل الحضارة العربية الإسلامية، المتنوعة ذات الطابع التوليفي الشمولي، ويبقى استيعاب هذه الروابط داخل مشروع أمة من جديد احتمالًا تاريخيًا مرتبطًا بمدى قدرة القوى الاجتماعية التي تحمل المشروع في مرحلة تاريخية معينة على التوحيد وبناء الدولة المركزية الواسعة، فإذا كانت الحركة العربية ” التوحيدية” في بلاد الشام بقيادة فيصل قد فشلت لأسباب ذاتية “طبيعة القوى الاجتماعية” ولأسباب خارجية ” هجمة الإمبرياليات ومشروعات التقسيم” فإن فشلها يؤكد أهمية دراسة المعوقات في مرحلة تاريخية نعدّها من أهم المراحل في تاريخ العرب الحديث والمعاصر، لأنها شكلت المرحلة الانتقالية بين عهدين ونموذجين ونمطين من الحياة السياسية؛ فهي المرحلة التي سقطت فيها الدولة التي مثلت تاريخية نمط إنتاج قديم ومؤسسات تقليدية وأعراف وطوائف وملل، واستقبلت تراكيب أوروبية جديدة (دول وإدارات وبرلمانات ودساتير وقوانين وأيديولوجيات قوموية بتأثير الأفكار الغربية).وإن أشكال التقاطع في المرحلة هذه، أشكال الاستقبال والرفض، أشكال الاستيعاب وأشكال المقاومة، تقدم مدخلًا منهجيًا لا بد منه لفهم طبيعة المعوقات التي تقف في وجه مشروعات “التوحيد القومي”.
الطوائف في الأرياف الجبلية، العلويون والدروز
دروز الجبل في حوران بسبب تمركزهم في منطقة جغرافية واحدة، شأنهم في ذلك شأن العلويين، شغلوا في السياسة الفرنسية حيزًا كبيرًا، إن من ناحية دخول الفرنسي إلى الجبل، أو من ناحية مراهنة فرنسا على “خصوصيتهم” المذهبية والاجتماعية، ومحاولتها جعل هذه “الخصوصية” ركيزة إنشاء دولة أو “حكومة مستقلة” في إطار تجزئة سورية.
القسم الثاني: فرنسا والاقتصاد السوري
في سنوات ما قبل الحرب العالمية الأولى وما بعدها؛ تكثّف اهتمام فرنسا بأوضاع سورية الاقتصادية، وعبّر عنه في جهد حثيث وأفكار ومشروعات يُجند لها الجهاز الدبلوماسي والقنصلي إضافة إلى خبراء وعلماء وأساتذة جامعات وغرف تجارة ورجال أعمال، وستعطي الحرب العالمية الأولى وما رافقها من محادثات لتقسيم مناطق النفوذ في الولايات العربية التابعة للسلطنة العثمانية، الفرصة الملائمة للتعبير عن هذه الأفكار والمشروعات، ولأخذ المبادرات وترتيب الاستعدادات، وصولًا إلى التدخل العسكري الفرنسي عام 1919 الذي أساسه أشكال التلاقي بين معطيات اقتصادية محلية “مواد أولية للزراعة” وشبكة من المصالح الفرنسية التي تمثلت في تملك عدد من المشروعات التي تلبي حركة التصدير والاستيراد واستثمارها وانتقال وتسويق السلع بين محطات الأسواق التاريخية في المشرق: حلب، دمشق، بغداد، مكة، القدس، من جهة، وبين مرافئ الساحل من الاسكندرون حتى حيفا ويافا من جهة ثانية.
الاهتمام الفرنسي المكثف بإمكانات سورية الاقتصادية كان يترافق مع صعود خطين مترابطين: خط نمو المصالح الفرنسية من سورية نموًا مطردًا، وخط تأزم العلاقات بين الإمبرياليات الأوروبية، ولا سيما حول نقطة متفجرة، هي نقطة تقاطع المواقف الأوروبية من مصير الدولة العثمانية، “المسألة الشرقية أو تقاسم الإمبراطورية العثمانية”، وما يطرحه هذا التقسيم من “مسائل” أخرى تدرجت مستويات طرحها من مستوى “مسألة الخلافة” إلى “المسألة العربية” إلى “السورية” إلى “اللبنانية” واستطرادًا إلى مسألة كل من “الأرمن” و”الموارنة” ولاحقًا “الدروز” و”النصيريين”..إلخ.
باختصار؛ كان الصراع بين الإمبرياليات يتمثل في خط انتصار الرأسماليات الأوروبية التوسعية في العالم وتقهقر ما تمثله الدولة العثمانية من بنيات ومؤسسات وأنماط إنتاج قديمة.
يقول “هوفلان” رئيس البعثة الفرنسية التي أوفدت إلى سورية من غرفتي تجارة ليون ومرسيليا: عن الإنتاج الزراعي السوري “يقدم آفاق مستقبل جميل، فلنا أن نأمل في أن تصبح سورية أغنى البلدان الزراعية وأخصب أراضي المعمورة”. ويعرض “هوفلان” في مؤتمر رجال الأعمال الفرنسيين المعقود في مرسيليا دراسة أوضاع سورية، الأراضي السورية الخصبة التي يجب على مشروعات الاقتصاد الفرنسي أن تركز عليها: سهل كيليكية، سهل حلب، ممر أنطاكية، وادي العاصي وامتدادها عبر الليطاني والبقاع، واحة دمشق، حوران، السهول الساحلية من اللاذقية وصور، هذه المناطق على حد تعبير “هوفلان” تشمل “الأجزاء الدسمة من سورية”، وما يلاحظه “هوفلان” ويؤكده؛ هو نسبة الأراضي الصالحة للزراعة في الولايات التي يجب أن يمتد عليها الانتداب الفرنسي. وبعد استعراضه لأسباب التأخر والنقص في الإنتاجية القائمة؛ يطرح “هوفلان” الحل كما يراه: تنظيم زراعي “رأسمالي” على غرار ما حدث في أوروبا، وبالتحديد في فرنسا في سياق التطور الرأسمالي، والثورة البورجوازية التي أطلقت الإنتاج بتحريرها للقوى المنتجة من قيود النظام الإقطاعي. وإن أولى خطوات التقدم التي نأملها؛ هي تلك التي تنتج من إصلاح النظام السياسي، وإقامة تشريعات عقارية تنقذ الحقوق الأساسية للدولة والأفراد ويشجع على تقدم الاقتصاد الزراعي، وأوصى “هوفلان” بتجزئة الأملاك الواسعة وبالإلغاء التدريجي للملكية الجماعية “إن الانعتاق السياسي للبلاد يؤدي إلى انعتاقها الاقتصادي”، ولننتظر الشيء الكثير من أرض معطاء حين ستُمارس فيها المبادرة الفردية من دون عوائق.
وفي تقرير آخر لأحد المهندسين الزراعيين الفرنسيين، أشار Ed.Achard بوضوح إلى اسقاط التجربة التاريخية للثورة البورجوازية الأوروبية على الوضع السوري: لا يمكن للملكية الصغيرة أن تتكون في سورية ما دام النظام الإقطاعي قائمًا، وإذا ما تدخلت الدولة بحزم لإعادة النظر في تنظيم عقاري يسمح لها بمصادرة أراض واسعة لمصلحتها، فهذا ما سيشكل طبقة من صغار الملاكين وستجني البلاد فوائد أكيدة.
“المشروع الرأسمالي” هذا؛ كان يتطلب قرارات تنخرط في “مشروع سياسي” هو إنشاء “دولة حديثة” على النمط الأوروبي، وهذا بدوره يتطلب قوى منتجة قادرة على التصدي للقوى الاجتماعية المعوقة للمشروع الزراعي الذي يقترحه خبراء الرأسمالية الفرنسية: فكيف يمكن تنفيذ ها المشروع؟ ما هي أداة الانتداب الفرنسي لتنفيذه؟ الإدارة الفرنسية؟ لكن لهذه الأخيرة “مشروعها السياسي” الخاص، الذي يتطلب قبل كل شيء “ضبط” الأوضاع في سورية، وقمع القوى المعارضة والرافضة للدخول “الأجنبي” واستيعابها. وهذا يعني أن ثمة تناقضًا لا بد من أن يقوم بين متطلبات الهيمنة لـ”المشروع السياسي” ومتطلبات “التحديث” البورجوازي لـ”المشروع الاقتصادي. وهذا ما سنراه بوضوح في أشكال تعامل الإدارة الفرنسية مع معطيات التركيب الاجتماعي لسورية، وفي المشروعات السياسية التي اقترحتها الدبلوماسية الفرنسية لتنظيم البلاد. فهذه المشروعات كانت تعطي الأولوية لمهمة استيعاب الفئات الاجتماعية (طوائف، أعيان المدن، القبائل) وتأطيرها في أشكال من الإدارات والاستقلاليات المحلية، ما يعني أن التحول في العلاقات الاجتماعية والتحول في أشكال الملكية الزراعية اصطدمتا بحاجة الإدارة الفرنسية إلى التحالف مع القوى التي يمكن أن تمسها قرارات “التحديث” الاقتصادي، وكانت هذه الحاجة هي العامل الغالب في السياسة الفرنسية.
القسم الثالث: مشروعات فرنسا في السيطرة والتجزئة/ طوائف وإثنيات ومشروعات
إن تركيب سورية الاجتماعي والسكاني، يقدم في أوائل القرن العشرين معطيات واحتمالات من الواقع، تتقاطع مع مشروعات السيطرة “الإمبريالية”، وفق صيغ الالحاق المؤسسة على نموذج “الدولة القطرية”، ووفق شكل جديد من الاستعمار يهيئ لنفسه مرتكزات اجتماعية وسياسية وإدارية محلية، عبر صيغ الانتداب على “دول محدثة”. في “المشروع الغربي” ثمة مشروعات شكلت بدورها احتمالات تاريخية عدة، والواقع المحلي كان يحمل بدوره احتمالات ومشروعات أخرى، وكان هذا التقاطع يحمل تقاطعًا وتعارضًا في الوقت نفسه، أي إن الواقع كان يقدم أشكالًا من المقاومة “للمشروع الغربي” من جهة، وأشكالًا من الاستلحاق به من الجهة الأخرى، بيد أن الوجه الغالب للتقاطع هو مزيج من التوافق والاستلحاق، هذا يعني أن معطيات الواقع كما عبرت عن نفسها في أوائل القرن العشرين، كانت سائرة نحو البحث عن الدولة – البديل: الدولة المركزية العثمانية بصيغة التتريك، أو الدولة اللامركزية العثمانية بصيغة التعددية، أو الدول المحدثة المتقاطعة مع مناطق النفوذ، أو حدود القوميات والإثنيات وفقًا لمبادئ ويلسون الفضفاضة: حق تقرير المصير.
“المشروع الغربي” حمل أيضًا حاجات وطموحات رأسمالية توسعية، وحمل أداة هذا التوسع: الإرساليات والتعليم والثقافة والجيش والسلع المصنعة والرساميل. إنه المشروع “الكوزموبوليتي” للرأسمالية التوسعية. وهو ذو صفة هجومية غالبًا، بينما “المشروع العثماني” كان شكلًا من أشكال المقاومة السلبية لقوى اجتماعية وسياسية رأت في ” المشروع الغربي” تهديدًا لمصالحها ومواقعها وأشكال الإنتاج التي تنخرط فيها.
إن القوى التي حملت “المشروع العثماني” ودعت إليه، هي القوى المرتبطة بأشكال الإنتاج القديم، أصحاب الحِرف في المدن الإسلامية المشرقية، وبعض أعيان المدن والعلماء، والتجار الصغار وأصحاب الدكاكين، وجميعهم يندمج في تيار شعبي مديني طابعه إسلامي سني في الأغلب. أما القوى التي انخرطت في “المشروع الغربي” فهي الفئات التي نمت وتكونت في إطار النتائج التي أسفرت عنها علاقة الغرب الرأسمالي بالمنطقة. وهي قوى تنتمي في معظمها إلى شرائح من طوائف غير إسلامية، وهي قوى مدينية بشكل أساسي “ما عدا الموارنة”. بينما بقيت قوى هامشية واسعة في الريف معزولة في إطار اقتصاد مغلق، محافظة نسبيًا على استقلال بناها القبلية والعشائرية “الدروز، العلويون، الشعية..” يضاف إلى هذه الفئات الاجتماعية القبائل البدوية التي كانت تتعاطى تربية الماشية، وتغزو فلاحي السهول المجاورة في مواسم الحصاد. وبعض الأقليات الدينية والأقوامية الأخرى: الجركس، الأكراد، الأشوريون ..إلخ.
في عام 1909 بدأت بعد إعلان الدستور، أشكال تنظيمية تكوينية للعمل السياسي في المشرق العربي، بعضها يذهب باتجاه تجسيم الخصوصيات الأقوامية والمذهبية وإبرازها، وبعضها يذهب باتجاه صياغة برامج سياسية تراوح بين دعم الدولة العثمانية وإصلاحها، وإنشاء “دولة” أو “دول محلية” بالاعتماد على أحد الدول الأوروبية المتنافسة على السيطرة على المشرق العربي. وعبرت هذه الاتجاهات عن نفسها عبر مواقعها الاجتماعية وأقنيتها الطائفية المؤسسية والأيديولوجية المختلفة، وفي إطار الصراع الدائر بين الإمبريالات حول مشروعات تقسيم “أملاك” الدولة العثمانية وردات فعل هذه الأخيرة.
سيجري في السطور اللاحقة؛ التعرف إلى وظيفة هذه الاتجاهات الاجتماعية والمواقف السياسية و”الخصائص” المحلية في الصراع الدولي آنذاك. وكيف فهمتها فرنسا وتعاملت معها انطلاقًا من مجموعة مصالحها الاقتصادية ومن خططها الاستراتيجية ومن تصوراتها وبرامجها لصيغة إدارة البلاد من خلال وثائقها الدبلوماسية نفسها. هذه المسائل تكشفها وثائق وزارة الخارجية الفرنسية بشكل شفاف، وتبرز مختلف وجهات نظر القطاعات الفرنسية الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية، وتعرض أحيانًا وجهة نظر الدول الأوروبية الأخرى، وعلى وجه الخصوص ألمانيا وإنكلترا.
1- الصراع الإنكليزي الفرنسي 1912-1013 وكيفية انعكاسه على التعامل الأوروبي مع المسيحيين والمسلمين
أ- اتحاد مصر وسورية: مشروع “الخلافة” في السياسة الإنكليزية “الإسلامية” والرد الفرنسي
الهجوم الإيطالي على ليبيا كان بمنزلة مؤشر لحلقات ستتابع في الولايات العربية الأخرى، وكانت ردات الفعل على الحدث، كما نقلتها القنصليات الفرنسية في المدن السورية، تتجاذبها مواقع واتجاهات مختلفة لدى سكان البلاد، تتقاطع في مجال الانتماء الطائفي المحلي، وفي مجال الانتماء الثقافي الأجنبي، وفي المجال الاقتصادي.
كان القناصل الفرنسيون برصدهم لردات الفعل لهذه في المدن السورية، يصفون بشيء من الدقة التعبيرات السياسية في علاقتها بتوجه الطوائف في المدن بشكل عام، وبالقوى والشخصيات التي تعمل في الميدان السياسي أو الصحافي، وبالأوساط الاقتصادية المحلية. وملخص ما ورد في هذه الشأن:
في بيروت من عام 1912 “منذ ابتدأت الحرب التركية – الإيطالية، نلاحظ أن الأفكار اضطربت، وشائعات انتشرت حول مصير البلاد، وكثير من الناس من مسيحيي بيروت ومسلميها تمنوا أن تكون سورية من نصيب فرنسا، وأشيع آنذاك أن فرنسا ستتولى إدارة سورية، ولا سيما إدارة الجمارك، ضمانًا لقرض فرنسي كان قد قُدم لتركيا. وأشيع أن فرنسا لكثرة مشاغلها لن تبالي بهذه البلاد التي ستقع بيد بريطانيا، بل أيضًا جرى التخيل أنها ستُضم إلى مصر. وكان وراء إشاعات كهذه “بروباغندا” إنكليزية. ويحاول السفير الفرنسي آنذاك تفسير إعجاب السوريين للإنكليز، فيقول: السوري يكن إعجابًا كبيرًا للصفات التي تنقصه وهي العزم والمثابرة، والإنكليز في مصر يقدمون له الأمثولة. فرجال الأعمال السوريون يعودون من مصر مأخوذين بالطرائق الإنكليزية، ووضع المشروعات الفرنسية في سورية أقل ازدهارًا.
التقطت الدبلوماسية الفرنسية أصداء “مشروعات إنكليزية” في سورية ومصر، يعلق السفير الفرنسي على هذه “المشروع”: ينبغي ألا ننسى أنه في كل مرة قامت سلطة قوية في مصر، تلتفت حكومة هذه البلاد نحو سورية. تلك حالة علي بيك، في القرن الثامن عشر، وبونابرت ومحمد علي باشا في القرن التاسع عشر. فهل سيكون وضع بريطانيا كذلك؟ ويذكر السفير حوادث ومواقف تدل على وجود اتجاهات متوافقة حول اتحاد ما بين سورية ومصر، ويعلق قائلًا: إذًا في هذه الذبذبة الغامضة في طرح الاتحاد بين سورية ومصر، خطر على مصالحنا في هذا الجزء من الإمبراطورية، وتوالت التقارير من مراكز القنصليات الفرنسية حاملة آراء مختلفة حول حجم هذا الخطر الإنكليزي، ومنتقلة إلى اقتراح أشكال محلية للحد منه ومحاربته. فأحد الوجهاء السوريين المقيمين في القاهرة، نقل إلى المعتمد الفرنسي آراء الجالية السورية قوله: لا أسهل من أن نهيئ في الولايات الثلاث السورية حركة رأي عام تتظاهر من أجلنا في اول فرصة، وتضع الدول الأخرى في وضع أقل ما فيه أنه غير ملائم. ويعلق المعتمد الفرنسي أهمية على الوجود المسيحي السوري في تكوين هذا التيار المؤيد لفرنسا، في وجه السياسة الإنكليزية القائمة على التلميحات “الإسلامية”: في سورية 3 ملايين ونصف من السكان، بينهم 800 ألف مسيحي، يضاف لهم 500 ألف مسيحي منتشرين في الأميركيتين، وهؤلاء هم السوريون الأكثر نشاطًا وفاعلية، إذًا نصل إلى 1200000 مسيحي، بينما نلاحظ أن كتلة جماهير المسلمين غير متبلورة في شكل مستقل، ويمكن أن تنقاد طوعًا لزعامة موجهة. ويقترح “الدبلوماسي الفرنسي” وسيلتين لنشر “البروباغندا” الفرنسية في سورية: الصحافة، و “الإكليروس الكاثوليكي” فهذا الأخير “يشكل رافعة مهمة لعملنا، نظرًا إلى ما يملكه الرهبان من سلطة معنوية لا شك فيها، تقوم مقام السلطة الغائبة للدولة العثمانية”.
ويُلاحظ في هذه المدّة أن عددًا من التقارير الفرنسية الرسمية ومراسلات القناصل، أخذت تركز على التوجهات السياسية للمسيحيين والمسلمين في بلاد الشام: اختلاف التوجهات، تقاربها، المواقف المحلية من تركيا، ومن الدول الأوروبية ومشروعاتها. وتتأرجح هذه التقارير بين المراهنة على الوجود المسيحي بوصفه عنصر كسب لفرنسا في سورية، والمراهنة على عداء المسلمين العرب للأتراك، وضرورة عدم التخلي عنهم كي لا يتوجهوا نحو بريطانيا لطلب المساعدة.
بريطانيا بدورها كانت تضخم أخبار المطالبين بضم سورية إلى مصر تحت الانتداب البريطاني، محاولة استمالة المسلمين إلى فكرة “الخلافة العربية”. وينتبه بعض الدبلوماسيين الفرنسيين إلى النتائج التي تترتب على سياسة فرنسا في حمايتها للمسيحيين. يقول قنصل فرنسا العام في بيروت “كوجيه”: إن المسلمين يخشون في حال سيطرت فرنسا على البلاد أن تؤدي تقاليد هذه الأخيرة في حمايتها للمسيحيين إلى إضعاف المسلمين، وإن عداوتهم للأتراك كعرب لا تقل عن كونهم مسلمين، فلذلك يطلبون من بريطانيا أن يكون على رأسهم “أمير” من دينهم، كما الحال في مصر، ويدعو القنصل الفرنسي إلى بلورة موقف فرنسي واضح من “المسألة السورية” وفي ضوء التوجهين السياسيين: المسيحي والإسلامي، فيقول: من الملح أن نحدد مدى حجم المسألة، وأن نرسم خطًا واضحًا لسياستنا، فإذا كنا نرغب فقط في الحدود الواقعة بين طرابلس وصيدا، يمكننا وبحق، أن نبادر بالمطالبة بذلك باسم حمايتنا للمسيحيين، أما إذا كان يجب أن تضم الحدود التي نرغب فيها مناطق أوسع، فكل شيء يتغير، ويجب أن نتقرب من الرأي العام المسلم الذي تشكل دمشق مركزًا له. وذلك من دون أن ننسى أنه في إطار هذه الفرضية، من يصل أولًا يُستقبل بصورة أفضل.
أما نائب قنصل فرنسا في طرابلس فيقترح على وزارة الخارجية أن تتبنى فرنسا سياسة إسلامية واضحة، إلى درجة مساعدة المسلمين في اختيار “خليفة” لهم، منطلقًا في ذلك من رؤيته أن “الانتماء الديني” يبقى غالبًا لدى العربي – المسلم. وإن “الروابط الدينية بين العرب والأتراك تضعف، والعربي يطالب اليوم بحقوقه في الخلافة، لكنه يعرف أنه عاجز عن التصرف وحيدًا، لهذا يوجه نظره نحو “النصراني” الغريب. ويستنتج نائب القنصل: فرنسا يمكن أن تكون أكيدة من حسن استقبال المسلمين لها إذا وعدت باحترام عقائدهم وبمساعدتهم، وفي الحالة التي ذكرناها في اختيار خليفة لهم.
ب- فرنسا بين حماية الأقليات والسياسة الإسلامية والعربية
هل ستنجح فرنسا في سياستها “الإسلامية” هذه؟ أو بالأحرى؛ هل ستستطيع أن تمارسها فعلًا وهي حبيسة واقعين؟ واقع أن بريطانيا هي التي مثّلت تاريخيًا ومنذ بدأت تطرح مشروعات التدخل في شؤون الإمبراطورية العثمانية ومشروعات تقسيمها، وواقع أن فرنسا قد مثّلت عبر التاريخ ومنذ الحرب الصليبية “سياسة حماية للكاثوليك” في الشرق، وأن تدخلها عام 1860 جرى على أساس هذه الحجة. فكيف لها أن تقنع “المسلمين” بالسياسة الإسلامية الفرنسية. هذا بالذات كان مأزق فرنسا في منافستها “المشروع الإنكليزي”.
بقيت السياسة الفرنسية على الرغم من تنبيه بعض الدبلوماسيين الفرنسيين إلى خطرها ونتائجها على تأزيم العلاقة بين المشروع الفرنسي في السيطرة على سورية من جهة والمسلمين من جهة ثانية، بقيت تسير في خطها العام بوجهة الحماية الطائفية. وحتى عند قامت حركة المعارضة العربية في بعض المدن المشرقية، ولا سيما بيروت، تطالب بإدخال إصلاحات إدارية ومالية إلى ولايتها على قاعدة اللامركزية (حركة بيروت الإصلاحية) وتضم في صفوفها مسلمين ومسيحيين، بقيت العلاقة بين فرنسا والأطراف المسيحية في المعارضة علاقة ذات طابع خاص، فمسيحيو الحركة، ولا سيما الكاثوليك والموارنة منهم، أصروا على التوجه نحو فرنسا بصورة منفردة بعد عقد “الجمعية الإصلاحية” في بيروت واتخاذها القرارات المشتركة التي تطالب بالإصلاح. ويقول الموقعون: “إن مسيحيي بيروت اشتركوا مع المسلمين في صوغ مشروع الإصلاحات لسببين: الأول؛ تعطيل لعبة الحكومة التركية بمنع صوغ المشروع في الوجهة التي تريدها. والثاني؛ إدخال مبدأ “الإشراف الأوروبي” على فروع الإدارة كلها، وحالما يرضي به مسلمو الجمعية، سيشكل بحد ذاته مطلبًا للمسلمين، بحيث يصبح إصلاح في تركيا من دون مساعدة أوروبا أمرًا مستحيلًا. ويكمل الموقعون كلامهم: ولنفترض أن إصلاحات ما يمكن إدخالها بمساعدة أوروبا أو من دون مساعدتها، فإن هذا الحل، لا يستجيب لتطلعات المسيحيين الحقيقية. فهؤلاء مشدودون بصورة لا تنحل على فرنسا والأمنية الكبرى لدى مسيحيي سورية هي “وصاية” فرنسا على سورية.”
في هذا الشأن يقول “أندريه ديبوسك” مستشار وزارة الخارجية الفرنسية آنذاك الذي جاء إلى سورية في مهمة استطلاعية، وكتب تقريرًا حول موضوع “الحركة العربية”: يجب أن نتجنب تعظيم الوقائع، لأننا نعرف ما تقتصر عليه، بالتأكيد لا شيء يسمح بإنكار إمكان حصول حركة عربية في المستقبل، واستبعد حصولها قريبًا، فاختلاف الطوائف ليس الأمر الوحيد الذي يشق صفوف العرب.
إن البلاد التي يسكنها العرب مثل الحجاز وسورية واليمن ونجد وبلاد ما بين النهرين تكشف عن مظاهر شديدة التباين، لا يمكن اجتيازها إلا بصعوبة، ولا يعيش فيها السكان إلا جماعات صغيرة منفصلة الواحدة عن الأخرى، ولا تشكل مجموعة وطنية، إن الأشخاص الذين اتحدوا لإنشاء هذه الحركة يشكلون في ما بينهم صورة مختصرة لهذه التجزئة. ويضيف: إن العرب لم يصلوا بعد إلى تلك الدرجة من الرقي، حيث العواطف والطموحات تذوب في طموح واحد مشترك هو خلاص البلد، إن ثمة كبرياء هائلًا جدًا هو الخط المميز للأخلاق العربية يدفع كل واحد منهم إلى عدّ نفسه متفوقًا على أقرانه، وتجعل كل تحرك مشترك أمرًا مستحيلًا. وإلى جانب الكبرياء الفردي هناك عند العرب كبرياء جماعي، كبرياء العائلة والقبيلة. وإذا ما نظرنا عن قرب إلى الحركات التي حصلت حتى الآن في البلاد العربية للاحظنا أنها لا تتطابق في أي نقطة، فالأسباب التي أدت إلى نشوئها متنوعة جدًا، ونجهد من دون جدوى لإعطائها طابعًا وحدويًا ليس فيها.
يدعو “أندريه ديبوسك” إلى توجيه جهد الدبلوماسية الفرنسية نحو المسلمين لكسبهم وتجنب توجههم نحو بريطانيا. ويقترح من أجل ذلك تقديم إعانة مالية لجريدة المقتبس الدمشقية. يقول: إن هذه الجريدة الإسلامية هي إحدى أشهر جرائد سورية في مدينة مثل دمشق، وستقدم لنا مساعدة فائقة، فبفضل هذه الجريدة وحدها سنخلق في صفوف العائلات الإسلامية الكبرى التي يتقولب رأي الآخرين في رأيها، شعورًا وديًا حيال فرنسا، ويقترح أيضًا أن تكون الإعانة الموجهة إلى جريدة المقتبس الإسلامية أكبر من تلك التي تقدم لجريدة ريفاي المسيحية.
تستقر دبلوماسية القنصلية الفرنسية في دمشق على هذا الخط في تعاملها مع مسلمي سورية: التقرب من العائلات الكبيرة، استمالة الصحف الإسلامية، تخصيص بعض المنح للطلاب المسلمين للدراسة في جامعات فرنسا. ويكتشف قنصل فرنسا في سورية من خلال الملاحظة والمراقبة للسلوك السياسي؛ أن طبيعة العمل السياسي الشرقي، مسلمًا كان أم مسيحيًا، أن الدين هو الأهم لا بوصفه عنصر إيمان، إنما عنصر انتماء اجتماعي – سياسي. ويقول: “يتزايد اعتقادي بأن الدين في الشرق هو حقًا أساس كل شيء. وبرأيي ينبغي ألا يغيب الدين عن بالنا أبدًا عندما نحكم على الحوادث والمشاعر والتيارات. طبعًا يجب أخذ المصالح المادية في الحسبان لكن الدين يتدخل دائمًا. ويبدو أن المحافظ الأكثر تخلفًا، والثوري الأكثر تقدمًا، والموظف المدني والموظف العسكري الذي درس في باريس، كما الذي تثقف في برلين، يتصرفون جميعهم، سواء كانوا مؤمنين أم أحرار التفكير، كما لم يعرفوا قط أي شيء آخر غير الكتب المنزلة.”
2- مشروع “سورية الطبيعية” في البرامج الفرنسية 1913-1918
أ- مصير سورية في التصور الفرنسي
طمأنت إنكلترا فرنسا في نهاية عام 1912 بعدم وجود مطامع سياسية لها في سورية، وتضمنت التطمينات تلك، توضيحًا بأن هذا لا يعني إطلاق يد فرنسا في سورية وترك فرنسا حرة تعمل ما يحلو لها. هذا التطمين قد هدأ نسبيًا من المخاوف الفرنسية، ودفع رجال الأعمال الفرنسيين إلى تكثيف نشاطهم في سورية سيما في توسيع النشاط التعليمي، وزيادة التوظيف المالي. وافتتحت كلية الحقوق في بيروت، والمدرسة المهنية.
شكل تحرك رجال الأعمال الفرنسيين، مدعومًا بغطاء “جامعي”، ركيزة المطالبة الفرنسية “الحكومية” بسورية. وفي موازاته؛ تشكلت لجنة رسمية، هي “لجنة الشؤون السورية”، مهمتها رسم حدود سورية. ووضعت هذه اللجنة تقريرًا في 9 آذار/ مارس 1913 يتضمن هذا التحديد: “إن الأراضي غير الواضحة لسورية يجب أن تُحدد، ومنطقة النفوذ الفرنسي التي نُطلق عليها اسم سورية يجب أن تشمل ولايات: بيروت ودمشق وقسمًا من ولاية حلب ومتصرفية فلسطين”. وتضع اللجنة الإسكندرون خارج هذه الحدود، وتكمل: “إن حدود هذه المنطقة يمكن أن تُرتسم بخط ينطلق من رأس الستخان جنوب خليج الإسكندرون ويصل إلى حلب، شاملًا هذه الأخيرة، ومن هذه المدينة يمتد على طول سكة حديد بغداد حتى الفرات. ثم يمتد هذا الخط على طول الضفة اليمنى من الفرات حتى النقطة التي ينعطف فيها هذا النهر فجأة نحو الجنوب، شاملًا بذلك الداخل الممتد حتى المنطقة الصحراوية التي تقطنها القبائل البدوية المتمردة على كل سلطة، ومن ناحية الجنوب، ترتسم الحدود بخط يذهب من معان إلى غزة. إذًا المرتكزات الرئيسة الأربعة للمنطقة المحددة على هذه الصورة، التي يشكل لبنان “الماروني” قلبها هي: حلب، بيروت، دمشق، القدس”.
في شأن السياسة التي يجب على الحكومة أن تسير عليها في سورية، يذكر التقرير: “إذا لم تكن لسياستنا السورية طموحات، فيجب أن تكون سياسة حذرة، لذلك يجب أن نبذل الجهد ليس فقط لضمان إنقاذ “تركتنا” المعنوية والمادية التي كسبناها في هذه المناطق عبر جهد طويل، لكن أيضًا لتمتين إنجازنا وإنمائه كي نكون في مستوى التحرك عند اللزوم”.
نقرأ كذلك تقريرًا لـ”لجنة الشرق” حول “مصير سورية” يطالب بالحصول على ضمانات من بريطانيا وروسيا وألمانيا بأن تكون سورية من “حصة فرنسا”: “يجب على الصعيد العملي أن نحصل على التخلي السياسي ليس فقط من جانب إنكلترة، بل من جانب روسيا وألمانيا أيضًا. ليصبح بمقدور فرنسا أن تمتن بشكل طبيعي وضعها التقليدي المعروف”.
ب- وحدة سورية الطبيعية في منظور رجال الأعمال الفرنسيين والاعتراض على سايكس – بيكو
في الوقت الذي كانت تجري فيه المحادثات بين روسيا وبريطانيا وفرنسا عام 1915 التي أسفرت في العام التالي عن اتفاق سايكس- بيكو، تسربت أخبار إلى الأوساط الاقتصادية الفرنسية مفادها أن فرنسا مستعدة للتنازل عن قسم من “حقها” في السيطرة على كامل سورية لمصلحة بريطانيا. وأثارت هذه الأخبار ضجة في الأوساط الاقتصادية الفرنسية، ولا سيما في غرفتي تجارة ليون ومرسيليا. وبادرت غرفة تجارة ليون في 7 حزيران/ يونيو 1915 إلى رفع مذكرة لوزير الخارجية الفرنسية تبدي فيها “قلقها” على مصير سورية، وتؤكد “أمانيها” في سلخ “سورية” موحدة عن الإمبراطورية العثمانية وإلحاقها كاملة بالنفوذ الفرنسي.
ما يقف وراء هذا الاعتراض هو مجموعة مصالح اقتصادية فرنسية “إنتاج سورية من الحرير”، لتتحرك أيضًا غرفة تجارة مرسيليا وتطلب من الحكومة الفرنسية المطالب ذاتها. وتعرض رسالة الاعتراض: القيمة الاقتصادية لسورية من أسواق وأراضي زراعية ومرافئ وتجارة. وكانت أماني الاقتصاديين الفرنسيين تصطدم بإمكانات فرنسا وحدود مشاركتها في الحرب، ثم إن غلبة الدور العسكري الإنكليزي كانت تفرض تقسيمًا لمناطق النفوذ في بلاد الشام، يأخذ في الحسبان حسابات بريطانيا الاقتصادية والاستراتيجية، وهذا ما عبرت عنه صيغة سايكس بيكو ووعود بريطانيا للشريف حسين، وبانتهاء الحرب عام 1918 تعود غرفة ليون إلى تذكير وزارة الخارجية الفرنسية برسالتها، وتعترض فيها على اتفاق 1916، “فقد حُذفت حلب والموصل ودمشق من “حصة” فرنسا، وهذا يعني تقلصًا كبيرًا في الاقتصاد. وطالبت غرفة تجارة ليون بإعادة النظر في بنود اتفاق 1916 بمسوغ زوال روسيا القيصرية، ودخول دولة عظمى هي الولايات المتحدة الأميركية الحرب.
بعد صراع دبلوماسي حاد بين فرنسا وإنكلترا؛ جرى التوصل إلى اتفاق 15 أيلول/ سبتمبر 1919 الذي شكل تمهيدًا لمقررات مؤتمر سان ريمو: مقابل جلاء الجيش البريطاني عن سورية وكيليكيا تحل القوى الفرنسية بديلًا منها، بالمقابل ينال الإنكليز عدم المطالبة بإدخال الموصل ضمن الحدود السورية، وعدم المنازعة في تقرير مصير فلسطين فهي لبريطانيا، عدم المنازعة في وضع العراق تحت الانتداب البريطاني، وبقاء مقاطعة شرق الأردن تحت الاحتلال البريطاني.
بهذا الاتفاق تحددت الخطوط العامية لـ”سورية الفرنسية”. ولكي تُرسخ هذه الهيمنة كان لا بد من أمرين: ضرب الحركة العربية في دمشق، وإزاحة فيصل وإثبات ألا جدوى من تطبيق اتفاق فيصل -كليمنصو. وتنظيم سورية تنظيمًا يضمن السيطرة عليها عبر مشروعات الكونفدرالية والتجزئة.
ج- الدبلوماسية الفرنسية والرؤية الإثنولوجية للجماعات في فهمها التركيب الطائفي والأقوامية وتعاملها مع خصوصياته.
كثيرة هي الوثائق والتقارير والكتب التي تحدثت عن العلاقة التاريخية بين فرنسا ومسيحيي الشرق من كاثوليك وموارنة، والعكس ينطبق على العلاقة بين فرنسا والطوائف الأخرى، كالدروز والعلويين والشيعة. بدأت فرنسا بالاهتمام بخصوصيات هذه الطوائف للبحث عن مرتكزات أخرى لها غير المسيحيين. وما خلصت إليه الدبلوماسية الفرنسية في هذا الشأن؛ الاستفادة من انعزال الطوائف والجماعات “الأقوامية” في مناطقها وتماسك علاقاتها الاجتماعية الداخلية من جهة، وتوظيف الصراعات “السلطوية” الداخلية بين العشائر والعائلات، وحتى “بيوتات” الزعامة العشائرية الواحدة من جهة ثانية، لتوظيفها في إقامة “سلطات محلية” ممثلة لـ “سلطة مركزية” أي لسلطة الانتداب.
د- المشروعات الإدارية – السياسية لتنظيم الانتداب في سورية (1919-1920)
– الاستغناء عن فيصل وتشجيع الانقسامات بوجه “وحدة السلطة القومية”: في 29 كانون الأول/ديسمبر 1919 أرسل الجنرال غورو برقية سرية إلى رئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية، يعرض فيها الموقف الذي يجب اتخاذه من حكومة فيصل، فيرى أن ثمة ضرورة لتصفيتها، كي تتأمن السيطرة الفرنسية على سورية، بعد الاتفاق الفرنسي – الإنكليزي، بصورة كاملة. وتدور برقيته حول عوامل الضعف الذاتية في حكومة فيصل وحركته، وحول مخاطرها الناتجة من منطلقاتها القومية التوحيدية على مصالح فرنسا، ويقول: لقد بلّغني الكولونيل “كوس” عن حديث جرى عند الأمير زيد أن فيصل قال إن مستشارين فرنسيين يتمتعون بسلطة تنفيذية سيعينون في دمشق، غير أن لبنان سيُفصل كليًا عن سورية. ويعبّر الأمير عن الأمل في أن يكون للمنطقة العربية منفذ على البحر، وأن يطلب لبنان إلحاقه بالدولة السورية، وأن تُلحق الموصل وفلسطين أيضًا بسورية.
ويعلق الجنرال غورو على هذه الأهداف مراهنًا على تناقضاتها مع سياسة بعض “وجهاء” المدن السورية: “إن أهداف الشريفيين هذه؛ هي في تناقض تام مع الاستعدادات التي أبدتها وفود قادمة من مختلف نواحي المنطقة الشرقية نفسها، إن بعض وجهاء حماة القادمين إلى بيروت تحت ستار الترحيب بالأمير فيصل، أعلنوا انهم لا يحتاجون إلى هذا الغريب للاتفاق مع فرنسا، التي أعربوا عن استعدادهم للتفاهم معها مباشرة، حتى أنهم طلبوا مني تعيين ضباط ارتباط. وأُعلنت لي تصريحات مماثلة من وجهاء دمشق الذين رغبوا في أن تحصل مدينتهم على مساعدة فرنسا وإشرافها من دون وساطة فيصل”.
يكمل غورو مركزًا على أهمية “الخصوصيات” الإقليمية والطائفية في ضرب “الوحدة القومية”: “أفيدكم بهذا الصدد أن النصيريين الذين يستيقظ حسهم “الإقليمي الذاتي” منذ أن لم يعد هناك الأتراك لتذويبهم مع المسلمين، ساعدوني كثيرًا في قمع “الفتنة” التي أثارها الشريف في منطقة تل كلخ. وإن 73 زعيمًا نصيريًا، يتحدثون باسم القبائل جميعها، يطالبون بإنشاء اتحاد نصيري مستقل تحت حمايتنا المطلقة. إن انقسامات سورية التي يجب أن تساعدنا في تنظيم البلاد بشكل عملي وملائم لسلطتنا، هي الآن ذات فائدة كبيرة لنا من أجل احتواء الحركة المنظمة ضدنا. وسيكون من المؤسف طمس هذه الانقسامات في وحدة السلطة الشريفية”.
إن وجهة الحوادث قد سارت بصورة مختلفة عن الاحتمالات التي تحملها البرقية، بسبب السيطرة القمعية المباشرة لسلطة الانتداب، وبسبب مقاومة قطاعات واسعة من المجتمع السوري لهذه السيطرة، وهي الوجهة التي نشأت ونمت فيها قوى حركة “الاستقلال الوطني” في سورية بين الحربين. ويبقى للبرقية أهميتها في أنها تمثل منهج تعامل الإمبريالية مع خصائص مجتمعية كمجتمع بلاد الشام (طوائف وأقوام وعلاقات عشائرية ومذهبية مللية).
حوار ميلران – غورو يخطط لتنظيم الانتداب الفرنسي في سورية: المناقشة الغنية في موضوع تجزئة سورية، تقدمها البرقيات السرية المتبادلة بين الرئيس ميلران والجنرال غورو بين 6 و23 آب/ أغسطس1920 وهي المدّة التي أعدت فيها مشروعات إعلان “الدول السورية”، هذا الحوار يقدم مادة غنية تساعد في فهم أشكال التعامل الاستعماري مع البنيات الاجتماعية والسكانية لسورية وكيفية استخدام خصوصيات هذه البنى في سياسة السيرة على البلاد.
يقترح ميلران صيغة بديلة عن “الملكية القومية” وهي سلسلة دول مستقلة جمهورية الشكل، تتلاءم مع تنوع الأعراف والديانات والحضارات، وتتحد في فدرالية تحت السلطة العليا للمفوض السامي. وبذلك لا تكون الوحدة وحدة إدارة مركزية، بل وحدة اقتصادية “جمركية ومالية”.
يرى غورو أن تكون بيروت عاصمة لدولة لبنان الكبير، وأن تقسيم سورية إلى 8 أو 9 مجموعات “كما يقترح ميلران” سيترتب عليه نتائج خطرة: ” فمن وجهة النظر السياسية، قد يخدم هذا التدبير فكرة الوحدة بدلًا من القضاء عليها، فإنشاء دويلات صغيرة عدة لا تستطيع تأمين وجودها بنفسها سيجعلها تتكاتف وتتقارب بدافع وحدة المصالح”. ويقترح أن تنحصر التجزئة في ثلاث أو أربع دول: “من السهل الإبقاء على التوازن بينها، ويساعدنا عند الحاجة في تأليب بعضها على البعض الآخر”.
– فرنسا وفلسطين والصهيونية: منذ تاريخ صوغ المطالب الصهيونية في فلسطين ابتداءً من مؤتمر بال عام 1897، وحتى تاريخ استقرار التقسيم السياسي لبلاد الشام، قامت السياسة الفرنسية تجاه الحركة الصهيونية على محددات صاغت مواقف فرنسا من نشاطها، المحددات هي:
– الموقف الكاثوليكي المعارض دينيًا لوقوع الأماكن المقدسة في فلسطين تحت سيطرة اليهود.
– مصالح فرنسا بالسيطرة على كامل بلاد الشام ومن ضمنها فلسطين.
– الصراع الفرنسي الإنكليزي.
لم تتخذ فرنسا أي موقف محدد من المشروع الصهيوني حتى عام 1917، إذ ينبّه جورج بيكو نظيره الإنكليزي مارك سايكس إلى المحاذير من وعد بلفور، ولكن هذه المحاذير لم توقف الدعم الإنكليزي الأميركي للصهيونية. ما دعا فرنسا في نهاية الحرب العالمية الأولى إلى التعامل مع الصهيونية بطريقة توافقية ما بين مصالحها ومحدداتها من جهة، والتعاطف مع الصهيونية من جهة أخرى. ما بعد الحرب العالمية الأولى كان موقف فرنسا الجديد ينطلق من الإقرار “بشرعية” المطالب الصهيونية في فلسطين.
خلاصة وتعليق حول التجزئة والعمل السياسي القومي في الأعوام الأولى من الاحتلال الفرنسي
صحيح أن الاستعمار لجأ إلى التجزئة ليمنع حركة التوحيد القومي من التبلور والامتداد، لكن هل كان بوسع “الاحتمال التوحيدي” أن ينتصر تاريخيًا؟ هل كانت النية الداخلية الاجتماعية لاتجاهات “العمل السياسي” مؤهلة لإنشاء دولة “قومية” كما طمحت إلى ذلك برامج نخب المدن التي قادت النضال ضد الفرنسيين؟
” المأزق التاريخي” الذي منع قيام دولة عربية واحدة، على الرغم من وجود عناصر وحدة مهمة في هذه البلدان العربية الواسعة؛ لغة مشتركة، تاريخ مشترك، دين مشترك..إلخ. فقد دأب السياسيون العرب على توجيه الاتهام بأن أوروبا قد جزأت العالم العربي إلى مجموعة من الدول المنفصلة، في حين كان هذا العالم يريد -وذلك من حقه- أن يقيم إمبراطورية واحدة تشمل أبناء العرب جميعهم. هذا الاتهام شمل كثيرًا من اللاواقعية العاطفية المفضلة لدى أغلب الدعاة العرب، ولا يمكن في الوقت ذاته نفي أن مصالح الدول الأوروبية الكبرى لم تؤدِّ دورًا في التجزئة، أو أن حق تقرير المصير الذاتي كان وراء هذه التقسيمات، أو أن هذه التجزئة تتوافق مع الوحدات المنطقية أو الطبيعية في تلك المنطقة. لذا؛ فعند مواجهة واقع 1919 بموضوعية، يجب القول إنه لم يكن منتظرًا قيام سلطة عربية قادرة على توحيد البلدان العربية ضمن دولة واحدة، ولم يتوافر حس التلاحم السياسي المختلف عن التلاحم العاطفي.
كانت الولاءات المحلية والإقليمية أقوى كثيرًا من الولاء للعروبة، وكان لا بد من أن يذهب حل “المأزق التاريخي” في وجه الإمبرياليات عبر مشروعاتها التقسيمية والإلحاقية، فالحركة العربية عبر قيادتها “الشريفية” غير مستقلة عن تلك المشروعات، وعاجزة عبر قواها الاجتماعية (قبائل وأعيان وملّاك كبار وتجار مدن) أن تحقق مشروعًا توحيديًا مستقلًا عن المشروعات الغربية. كان شرط نجاح “الدولة الواحدة” في مشروع مملكة فيصل تأمين “المساعدة الاقتصادية والتقنية” لهذه الدولة من طرف غربي، وهذا المطلب كان جزءًا من مقررات “المؤتمر السوري” الذي أعلن إنشاء “المملكة العربية السورية” وهذه الدعوة تتوافق مع صيغة “الكولونيالية الجديدة”، وبتعبير أكثر دقة: من نتاجها. وكانت تعكس بوضوح هذا العجز عن بناء “دولة مستقلة”.
فالانغلاق الاقتصادي بين الطوائف الذي تميز به المجتمع السوري، و”الاختصاصات الجماعية” في النشاط الاقتصادي؛ وقفا حائلًا دون وجود منافسة حرة، وتوزع العمل لا يجري على أساس فردي، بل على أساس طائفي “الزراعة تخص المسلمين” والتجارة بقسم كبير منها تخص المسيحيين”. وهناك مهن معينة لا يوجد فيها إلا مسلمون ومهن أخرى لا يوجد فيها إلا مسيحيون أو يهود، إضافة إلى تفاوت الثروة والغنى بين المناطق والمدن، فحلب “الغنية” كان مطلبها أن تكون مستقلة عن دمشق “شعار هؤلاء: ثروة حلب للحلبيين. فكأن دمشق وبقية أنحاء سورية هي بلاد غريبة، ووطنهم يقتصر على مدينة حلب، ومُثلهم القومية تقتصر على تبليط شوارع حلب وتنظيف أحيائها من الغبار.
إن معوقات”الوحدة السورية” يومذاك لم تكن وليدة الدبلوماسية الاستعمارية في سياستها “فرق تسد” فحسب، بل كانت نتاج معطيات التاريخ. فالشباب الوطني المتحمس آنذاك، وضع نصب عينيه نموذج التجربة الأوروبية ومثال الدولة “القومية” في حين معوقات الوحدة هي نتاج الانقطاع الحاصل بين عناصر الوضع المحلي وسماته واتجاهاته وتطلب تطبيق نموذج غربي ناجز لفمهومي الدولة والأمة.
يقول يوسف الحكيم، وهو نائب الرئيس في المؤتمر السوري: “تنبه الفرنسيون إلى وضع العلويين المضطهدين في متصرفية اللاذقية، فضموا إليها صافيتا والحصن وتلكلخ وطرطوس والعمرانية وجسر الشغور وهي مسكونة بأكثرية علوية، وأطلقوا عليها اسم “بلاد العلويين” وشملت حكومة اللاذقية برئاسة قائد فرنسي العلويين بالعناية والعدالة والمساواة بينهم وبين مواطنيهم المسلمين والمسيحيين في الحقوق والواجبات، فأخلص العلويون للانتداب الفرنسي، ولم يبعثوا بنائب عنهم إلى المؤتمر السوري.”
كذلك الدروز؛ فقد عبّر موقفهم المعادي للأتراك ثم للفرنسيين عن “تطلب ذاتي” يرفض الالتحاق بسلطة مركزية تتناقض امتداداتها وأجهزتها وممارساتها مع الأعراف والتقاليد وأشكال العلاقات الاجتماعية السائدة، والمؤتمر الدرزي المنعقد في السويداء عام 1920 أكد صيغة “استقلال حكومة جبل الدروز” وجعل من “الاستقلال” هذا شرطًا لقبول الانتداب الفرنسي:” الانتفاضة الدرزية ضد الانتداب الفرنسي ولا سيما انتفاضة 1925 نظن أن أسبابها الأساسية والمفجّرة تكمن في مخالفة السلطة الفرنسية لنص الاتفاق المعقود من حيث: التدخل الإداري والعسكري الفرنسي المباشر في الجبل، فرض الضرائب، الدخول في نزاعات السلطات المحلية بين العشائر و”البيتوتات” المتنافسة داخل العشيرة الواحدة.”
إن المعلومات التي جمعتها أجهزة الدبلوماسية الفرنسية عن الطوائف والقبائل والأقوام، وعن خصائص المناطق والمدن والمرافئ من الناحية الديموغرافية والاقتصادية، شكلت كلها مادة “الفهم السياسي” بالنسبة إلى مخططي السياسة الفرنسية، وعليها إن تشكل لنا مادة غنية حول تنوع أشكال هذا الفهم ورصد الاحتمالات التاريخية في مرحلة كانت تطرح فيها من الإمبريالية الفرنسية مهمة تنظيم سورية التي وضعت تحت انتدابها. وإن قراءتنا لتلك الاحتمالات التاريخية من خلال وثائقها الفرنسية، تقربنا أكثر فأكثر من قراءة الواقع من دون تحوير أيديولوجي. وإن دراسة الطرائق التي واجه بها الاستعمار هذه البرامج، تسهم في فهم أسلحته وتبين نقاط ضعفنا.