منذ حوالي عقدين من الزمان، بدأت قضية (النسوية) بالانتشار بصورة ظاهرة في أوساطنا الثقافية والنقدية العربية. وإذا كانت القضية قد ترسّخت في الثقافة الأوروبية أكثر، وأخذت لها أبعادًا مؤثرة ومقنعة، فإنها في الوسط العربي – الإسلامي اصطدمت بمعوقات لا حصر لها، وسوف نتبيّن هذه المعوقات بشكلٍ جليّ، حين نعرف أن النسوية في الثقافة الأوروبية هي أيضًا لاقت معوقات ودخلت في صراعات وسجالات حادة، فإذا كانت الحال في أوروبا كذلك، فكيف ستكون في مجتمعات لم تنجز أيًّا من حداثاتها ولا علمانياتها ولا مدنيتها؟ مجتمعات ترى النساءَ أصلًا بشكل تجاوزته أوروبا بما لا يقاس، وعيًا وممارسة وأخلاقًا.

ثم كيف ستكون حال قضية النسوية في ظل بلد مثل سورية خلال العقد الأخير؟ لا شك في أن الأمر على جانب كبير من التعقيد والخطورة والأهمية. ولهذا خصصت مجلة (قلمون) الصادرة عن (مركز حرمون للدراسات المعاصرة)، في عددها السادس عشر (تموز/ يوليو 2021) ملفّها الأساسيّ حول (النسوية السورية) وذلك بتعاون كامل مع منظمة (مساواة) ومع (الجمعية السورية للعلوم الاجتماعية).

وفي جولة متأنية على بحوث ودراسات العدد، يخلص القارئ بنتيجة مفادها أن هذا العدد سوف يكون واحدًا من أهمّ المراجع عن النسوية السورية، خلال أكثر العقود دموية وإشكالية في سورية. نظرًا للجوانب المختلفة والقطاعات المهمة التي اشتغلت عليها البحوث، ونظرًا لحساسية بعض المشكلات العميقة التي ربما تطرح لأول مرة على بساط البحث والتساؤل أو التوثيق.

من بين القضايا المثارة في الملفّ، مثلًا (صورة النساء السوريات في وسائل التواصل الاجتماعي، الفيس بوك أنموذجًا)، للباحثة أمل حميدوش؛ إذ قدمت الباحثة رؤية فكرية وميدانية استقصائية حول موضوعها المهمّ. وتوصلت من خلال رصد 14 صفحة (فيسبوك) خاصة بالنساء، إلى عدد نتائج ذات طلالة قيّمة، منها مثلًا أن المحتوى المسيء إلى المرأة، قياسًا إلى المحتوى غير المسيء، كان بنسبة 46.76%. أي أن هناك مشكلة خطيرة ينبغي مراقبتها وطرح أسبابها الصريحة على المستوى القانوني والاجتماعي والأخلاقي. فهناك قبولٌ -كما أشارت الباحثة- لفكرة السخرية من المرأة وعالمها وقضاياها، بحجة أن السخرية من وسائل ترويج الصفحات الافتراضية، وأن هناك جمهورًا يُقبل عليها ويشجعها. وهنا تكمن خطورة المشكلة في وجود حاضنة شعبوية لها. خاصة إذا أخذنا أيضًا بالحسبان الأرقامَ التي توصلت إليها الباحثة، فهناك 60% من محتوى المنشورات فيه إساءة صريحة إلى المرأة مقابل 40% فيه إساءة غير مباشرة! وتتلخص هذه الإساءات في نظرة تمييزية فاقعة للمرأة على أساس الجنس، أو يتمّ تقييمها والحكم عليها من خلال شكلها وملابسها، وتحميلها مسؤولية الفلتان الأخلاقي، مثلًا، لأنها غواية ومصدر الشرّ وما إلى هنالك من مرجعية مستقرة في ذاكرة المجتمع، تربويًا وثقافيًا، حول كيفية النظرة إلى المرأة، وهي كيفيةٌ ليست مبشّرة بالخير أبدًا، بالرغم من أن هناك نسبة ضئيلة جدًا من التحريض على العنف ضد المرأة، بسبب ما يراه البحث جهودًا حثيثة قامت بها مجموعات نسوية على مدار سنوات، للحدّ من تعنيف المرأة وتعميم ثقافة العنف. لكن ذلك العنف نراه نحن -القرّاء- عنفًا رمزيًا ولغويًا، لا ينتهي على مدار الساعة على وسائل التواصل. بل ثمة دعوات مباشرة تبتهج بقتل نساء (زانيات) من خلال موضوع “جرائم الشرف”.

في استنتاجات الباحثة، ترى أن هناك ظاهرة استباحة النساء المشهورات كشخصيات عامة، مثل الفنانات، على اعتبار أنهنّ مادة عمومية يحقّ للجمهور السخرية منهنّ ومن تفاصيلهنّ. على أن الشخصيات العامة يتحمّلن مسؤولية من جانب أنهنّ في صفحاتهنّ العامة لا يكترثن كثيرًا بقضايا ومشكلات بني جنسهنّ من النساء.

تخلص الباحثة إلى عدد من التوصيات الضرورية لضبط واقع تعامل وسائل التواصل مع المرأة، فهي توصي -على سبيل المثال- بأهمية تغيير البيئة القانونية والتشريعية الخاصة بالمرأة، فهي الكفيلة بتغيير البيئة الاجتماعية والافتراضية وتحسين نظرتها وتثويرها. كما تدعو إلى الاهتمام بثقافة مسؤولي الصفحات الافتراضية الخاصة بالنساء، وضرورة حصولهم على دورات تدريبية أو حضور مؤتمرات خاصة بالنسوية، لتعريفهم بأساليب الحوار مع الطرف الآخر أكثر. ثم ينبغي أن يتم العمل على وضع ميثاق شرف يضبط العمل العشوائي في (فيسبوك) ويضع المنهجية اللازمة للتعاطي مع قضايا خطيرة مثل النسوية. ويبقى هذا البحث طريفًا في أدائه وخطيرًا في دلالاته التي لا يجوز تجاهلها في استقراء واقع المرأة على الفضاء الأزرق.

أما البحث الثاني الذي يستوقفنا نظرًا للحساسية الخاصة التي ينطوي عليها الموضوع برمّته، فهو بحث صبيحة خليل المعنون بـ (واقع المرأة الكردية السورية وبدعة النسوية الآبوجية). يطرح هذا البحث ولأول مرة -كما نعتقد- موضوعًا خطيرًا وملتبسًا علينا -المراقبين والمشاهدين- عن صورة المرأة الكردية المقاتلة، التي تنتشر صورها في الفضاء الافتراضي جنبًا إلى جنب مع الرجال المقاتلين، وكنا نظن أن ذلك شكل من أشكال حرية المرأة ومشاركتها مع الرجل في عمليات قتالية للدفاع عن حقّ وحلمٍ ومشروع. لكن ما يفصح عنه بحث صبيحة خليل يقلب الطاولة علينا جميعًا، ليضع الأمر في سياقه الإشكالي الذي كان قسم كبير منا وربما جميعنا غافلين عنه. لا سيما أن الباحثة اعتمدت، إضافة إلى شجاعتها الفكرية وجرأتها، على أدوات بحثٍ جمعت بين العمليّ والثقافي، بين الميداني الاستقصائي والفكريّ. فلم تكتفِ بالجانب النظريّ، لأن المشكلة المطروحة أصلًا ليست مشكلة نظرية، بل هي في صميم المجتمع الكرديّ في أكثر شرائحه حساسيةً وهي المرأة. لم تكترث الباحثة بالتابو الفكريّ والاجتماعي المضروب حول مسائل تتعلق بطبيعة الحياة الاجتماعية والاقتصادية الكردية، وهي تدرك أن ما تفعله سوف يكون مثار تساؤل، ولكنه سيكون أيضًا مرجعًا مهمًّا وجديدًا.

يكشف البحث معلومات لم يكن يعرفها القارئ من قبل، منها أن المرأة الكردية ما تزال تتعرض للخِتان، في كردستان العراق، وتذكر الباحثة نسبة خطيرة، حيث تبلغ النساء المختونات بين 37.5% – 58.5%، ولأول مرة نعرف أن ذلك يعتبر أحد أسباب الانتحار بين نساء كرديات! أما تلك الصورة النضالية للكردية، فقد مرت بمراحل مختلفة، لكنها بدأت وكأنها حالات نادرة جدًا خاصة بطبقة من نساء القادة الأكراد اللواتي تركن أمثولاتٍ للحياة، بسبب تعرضهن لظروف خاصة لم تكن متاحة للنسوة جميعهنّ. أي أنها صورة لا يمكن تعميمها، بالرغم من أن ذلك كان.

وتشير الباحثة إلى أن الوضع تعقد وتمايز، بعد اندلاع الربيع العربي، ووجد الأكراد أنفسهم أمام تحالفات مفروضة عليهم من دول كبرى، تنشغل أساسًا بموضوع المساواة بين المرأة والرجل، وقد تم تقديم الكردية كمساوية للرجل في قطاع عسكريّ قتاليّ، خاصة لدى أحزاب يسارية ذات مرجعية شيوعية تنادي أيضًا بأطروحة تحرر المرأة. لقد التقى هدفان خارجي وداخليّ لتصنيع صورة المرأة المقاتلة، هدف أميركيّ وهدف أيديولوجي عقائدي داخليّ. فالأميركان -بلسان هيلاري كلينتون- مشغولون بصورة المرأة، من خلال عسكرتها وتحويلها إلى رمزٍ للحرية والمساواة. وبالرغم من الأثر الإيجابي الشكلي لصورة المرأة الكردية المقاتلة، فالباحثة تحسم الأمر في أن هذه الصورة ما هي إلا (نسوية عسكرية قسريّة) منطلقها حمل السلاح. وتقول: “هذا الأمر لا يمكن تفسيره إلا في سياق أنظمة الحوكمة البطريركية الذكورية التي كانت تعترف فقط بالقوة، وتنبذ الأطراف المهمّشة، وتتجاهلها”، وتذهب في رؤيتها الواضحة إلى حدّ القول: “المرأة المسلّحة في حزب العمال الكردستانيّ التركيّ وجناحه السوريّ حزب الاتحاد الديمقراطيّ تجد في شخص عبد الله أوجلان الأب الروحيّ لنسويّتها، هذه (النسوية الآبوجية) تعد حرية المرأة جزءًا من حرية القائد آبو”.

وبالرغم من أن واقع المرأة الكردية له بعض الفضائل اجتماعيًا، مثلًا هناك تساهل في اشتراطات الزواج، وتحقيق مستوى تعليميّ ملموس، فإن الباحثة تنظر أيضًا إلى قضية الكردية من خلال سياق كليّ يتخطّى الكرد لتقارن بين الكردية والعربية السورية، في بعض قضايا الأسرة والميراث والتقاليد… فترى أن الأمر متشابه إلى حدّ بعيد. ففي الحالتين، نرى أن نسبة ما يُعرف بـ “جرائم الشرف” مستمرة في الارتفاع، خاصة في السنوات الأخيرة. وما تزال هناك نظرة ذكورية متأصلة لدى الجانبين، وهذا يفسر مثلًا ظاهرة غياب مشاركة المرأة الكردية في الفضاء السياسي العام إلا لدى فصائل محدودة، وتقول الباحثة: “لكن في العقود الأخيرة، نتيجة تقدم المرأة الكردية في التعليم ودخول الجامعات، والاحتكاك والتفاعل مع بيئات سورية سياسية، ودخول شريحة لا بأس بها إلى سوق العمل والتوظيف، تساهلت بعض الأحزاب السياسية والعائلات مع نشاط المرأة السياسيّ، إلا أنه ظلّ محدودًا ومقتصرًا على القواعد الحزبية”.

أما عن المرأة (الآبوجية) المقاتلة فتحفر الباحثة في الأسباب العقائدية لذلك؛ فأوجلان المرجعية المحورية في هذه الحالة، هو المنظّر الأوحد الذي ينبغي اتباع تعاليمه في كل مناحي الحياة، فهو الذي يقول (علينا النظر إلى التنوع والتوافر باعتباره لغة النباتات وحياتها. فهي أيضًا لها عوائلها وأقاربها، بل وحتى أعداؤها. ولكن آلية الدفاع الخاصة بكل نوع أو جنس تعدّ مبدأ راسخًا لدرجة أنه يكاد لا يوجد كائن بلا دفاع). ويرى أوجلان أن تحقيق ذلك لا يتمّ إلا عبر تسليح المرأة وقتالها العسكريّ، ولو كان ذلك على حساب وضعها العاطفي الوجداني، فالباحثة ترى أن علاقات الحبّ محرمة كليًّا في معسكرات التدريب التابعة لكوادر حزب أوجلان الذي يعتقد أن الاحتفاظ بالسلاح لدى الرجال والنساء هو السبيل والضامن الوحيد لبلوغ العدالة.

أوجلان يمنهجُ قضية التسلّح والقتال بصورة مدروسة، فهو في دراساته عن المرأة وقضاياها كان يتعمّد إغفال ذكر أي مرجعيات نسوية لا تؤمن بالسلاح والقتالّ، ويتجاهل فكر النسوية البيئية والسلمية.

في ختام مطالعة هذا العدد من مجلة قلمون، الذي يحتاج إلى استفاضة في العرض والنقاش، رأينا التركيز على محورين اثنين، لإيماننا بأن البحثين المعروضين هنا يُعدّان جديدين في مجالهما البحثيّ وطرافة المشكلة التي تناولاها. مع الثقة بأن العدد كاملًا سيكون ضروريًّا لأيّ باحث أو مطّلع مهجوسٍ بمشكلات المرأة السورية في العقد الأخير.