تجرّأ الشعب السوري في آذار/ مارس 2011 على تحطيم جدران الخوف، لكي يحقق حلمه في نيل حرّيته وكرامته المفقودة، وانتفض في وجه نظام الأسد الإجرامي، وقدّم في سبيل ذلك أثمانًا باهظة في الأرواح والممتلكات: مئات الآلاف من القتلى ومثلهم من المعاقين، مئات الآلاف من المعتقلين في السجون، ملايين المهجرين والنازحين عن بيوتهم وممتلكاتهم التي نُهبت ودُمرت، وتحمّل الشعب فوق كل ذلك، وما يزال، آلامًا هائلة لا تتحمّلها حتى الجبال.
ولأن الشعب السوري ثار وتجرأ على قول (لا) و(كفى)، ولأنه أراد أن يعيش مثلما تعيش معظم شعوب هذه الأرض؛ أعلن بشار الأسد الحرب على المنتفضين ضد نظامه، بطريقة وحشية مستخدمًا ما راكمه من قوة وسلاح وحقد ضد هذا الشعب. ومنذ سقوط بن علي ومبارك، بدأ يُعدّ جيشًا من الشبيحة تحسّبًا لانتقال العدوى إلى سورية، مع أنه كان يظن أن رضوخ السوريين له صار أبديًا، ولسان حاله يقول من المستحيل أن يقول له أحدٌ في سورية كلمة “لا”.
ما إن انطلقت التظاهرات وعمّت الاحتجاجات كامل الأراضي السورية، حتى أطلق الأسد العنان لشبيحته وأجهزته الأمنية، لاعتقال كلّ من يُشك في عدم ولائه للنظام، واستخدم العاملين في الدولة، ممن ينتمون إلى حزب البعث والأحزاب التابعة له، في عملية قمع المتظاهرين والاعتداء عليهم بالعصي، وعندما لم تفلح حملة الاعتقالات والقتل والضرب بوقف الاحتجاجات والتظاهرات؛ لجأ الأسد إلى استخدام مختلف أنواع الأسلحة التي يمتلكها، بدءًا من إطلاق النار على المنتفضين، إلى قصف المدن والمناطق التي خرجت عن سيطرته بالصواريخ والبراميل المتفجرة، حتى الأسلحة الكيمياوية المحرمة دوليًا، إذ قصف بها النساء والأطفال، وسحب قواته من المناطق الحدودية وتركها مفتوحة، تسهيلًا لدخول كلّ من هبّ ودبّ من الجهاديين وغيرهم، وأطلق من سجونه آلاف الإسلاميين المتشددين، وهو يدرك أنهم سوف يشكلون إمارات وكتائب تحت مسمى إسلامي، حتى يظهر للعالم أن ما يجري في سورية ليس ثورةً بل “إرهاب إسلامي”، وتحديدًا “سُني”، ولم يكتفِ باستدعاء قوًى خارجية وميليشيات أجنبية لتشاركه في قتل السوريين، بل باعها أراضي ومؤسسات ومرافق سورية، ولا همّ له سوى أن يبقى على كرسي الحكم.
اليوم، بعد انقضاء عشر سنوات على هذه الانتفاضة، كأعظم انتفاضة في ماضي البشرية وحاضرها، تبدو الصورة أكثر مأساوية وأكثر إيلامًا، ليس بفعل الثورة، بل بفعل أسباب أخرى، يأتي في مقدمها سلوك الأسد الإجرامي بشكل أساسي الذي ما زال يصرُّ على التشبث بكرسي الحكم، ولو فنيت سورية، أرضًا وشعبًا، وكذلك ارتهان المعارضات السورية السياسية منها والعسكرية لأجندات خارجية، ووجود احتلالات متعددة، وتخلّي المجتمع الدولي عن الشعب السوري.. إلخ.
وبخلاف ما نقرؤه من شعارات وما نسمعه من خطابات، على وسائل التواصل الاجتماعي، لسوريّات وسوريين (يعيش معظمهم خارج سورية) يصرّون فيها على متابعة الطريق لتحقيق حلمهم في الحرية والكرامة الذي انتفضوا من أجله في آذار/ مارس 2011؛ نجد الصورة مختلفة تمامًا في داخل سورية، سواء في المناطق التي تقع تحت سيطرة قوات الأسد، أو تلك التي تسيطر عليها “قوات سوريا الديمقراطية”، أو فصائل “الجيش الوطني” الموالية لتركيا، وكذلك في مناطق سيطرة تنظيم القاعدة المتمثل بـ “هيئة تحرير الشام” المصنفة منظمة إرهابية، حيث تتشابه أوضاع السكان فيها، من حيث الاعتقال والخطف والانفلات الأمني والجوع والغلاء الفاحش في أسعار جميع المواد، وفي مقدمها المواد الغذائية والأدوية.
جدران الخوف التي حطّمها الشعب السوري قبل عشر سنوات عادت لترتفع مجددًا، في كل مكان في سورية، وهي الشيء الوحيد الذي نجحت في تشييده القوى المسيطرة في سورية وسط الدمار والخراب، ففي مناطق سيطرة الأسد، الخوف من الاعتقال هو سيّد الموقف، ومخابرات الأسد تراقب كلّ من ينبس ببنت شفة، وبات السكان لا يجرؤون على قول ما يجول في خاطرهم حتى داخل بيوتهم، فالحيطان عادت لها آذانها، وكل كلمة يقولونها أو يكتبونها قد تجرجرهم إلى فروع الأمن بتهمة (وهن شعور الأمة وإضعاف شعورها القومي)، وليس هذا مبعث خوفهم وحسب، بل لأن الناس أصابها الإنهاك من هول ما جرى، وأصبحت اهتماماتهم محصورة بكيفية تأمين لقمة العيش للبقاء على قيد الحياة. حتى من سبق له أن شارك في التظاهرات ضد نظام الأسد، لم يعد يشغله اليوم بقاء الأسد أو رحليه، بقدر انشغاله في تأمين لقمة العيش أو إخراج قريبه من السجن. ولا يختلف الوضع كثيرًا في المناطق التي يسيطر عليها تنظيم القاعدة، وفصائل “الجيش الوطني” المعارض، وكذلك في مناطق سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية”.
جميع القوى المسيطرة على سورية لا تسمح بأي حركة احتجاجية، من أي نوع كان، في مناطق سيطرتها، باستثناء التحركات التي تدعم سياسية تلك القوى، فعلى سبيل المثال، في مناطق سيطرة ما يسمّى “جبهة فتح الشام” الإرهابية، أو مناطق سيطرة ما يسمى “الجيش الوطني”، يُسهل على الناس التظاهر لإسقاط نظام الأسد وإسقاط قيادة الائتلاف، بينما لا يجرؤ أحد على المطالبة بإسقاط الجولاني أو “أبو عمشة” أو أي من قادة الفصائل المعارضة، والأمر لا يختلف كثيرًا في مناطق سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية”، من هذه الناحية، وأمّا في مناطق سيطرة الأسد، فالأمور معروفة، ويكفي تصفح صفحة الكاتبة “سلوى زكرك” المقيمة في دمشق ليعرف المرء كيف هي أحوال الناس هناك.
فهل سيكون للوضع الاقتصادي المتردي والخانق دورٌ في تفجّر الغضب الشعبي، ونشهد من جديد عودة التظاهرات والاحتجاجات الشعبية، ضد كل قوى الأمر الواقع، وفي مقدمها نظام الأسد؟ أم أن حدوث ذلك ما زال أمرًا مستبعدًا، في ظل سطوة الأمن والسلاح التي ما زالت تتحكم في رقاب السوريين في كل الأراضي السورية؟
كلّ الاحتمالات ورادة، وربما نشهد ردّات فعل احتجاجية هنا وهناك غير منظمة، وربما لا، لكن في النهاية لن يتمكن الناس من الاحتمال أكثر مما تحمّلوا. ولنتذكر أنه لم يكن هناك أحدٌ يتوقع أن ينتفض الشعب السوري في وجه الأسد قبل عشر سنوات.