مقدمة

شهدت الأيام الأخيرة توترًا في شرق سورية، أعقبه حدوث مواجهات مسلّحة بين قوات (قسد)[1]، وهي سلطة الأمر الواقع في المنطقة، وبين بعض عشائر دير الزور، وقد بدأت المواجهات بتصعيد من جانب (قسد) باعتقالها قائد المجلس العسكري التابع لها، أحمد الخبيل[2]، في كمين نصبته له في الحسكة ولبعض قيادات مجلس دير الزور العسكري.

ويؤكد بعض الناشطين من أبناء المنطقة أن بعض قيادات المجلس العسكري الذين اعتقلتهم (قسد) مع الخبيل كانوا متعاونين معها في نصب الكمين للخبيل، ويؤكد هذا أن اثنين من هؤلاء قد أطلقت (قسد) سراحهم، كما يؤكده ظهور فيديو لأحدهم بثّته (قسد)، وهو يقاتل في صفوفها[3].

كان اعتقال الخبيل الشرارة التي فجّرت غضب العشائر المتراكم في شرق الفرات، وأدّت إلى خروج بعض عشائر دير الزور عن صمتها الطويل، وبدء تمردها على سلطة (قسد)، وقد أكّد شيوخ القبائل الكبرى في المنطقة أن انتفاضتهم لا صلة لها باعتقال أحمد الخبيل، وأنها تهدف إلى الوصول إلى الحقوق التي سلبتها (قسد)، وأهمها حقهم في حكم مناطقهم، واستثمار ثرواتها بما يعود على النفع على مناطقهم.

تعقيدات المشهد شرق الفرات

تمثل منطقة شرق الفرات جزءًا من تعقيدات المشهد السوري، وهي تضمّ مساحات واسعة من أراضي الدولة السورية، وتعدّ المنطقة الزراعية الأولى في سورية، والمنطقة الرئيسة لإنتاج النفط في محافظتي الحسكة ودير الزور.

سيطر حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، من خلال واجهته “قوات سوريا الديمقراطية – (قسد)”، على كامل منطقة شرق الفرات، إضافة إلى منطقة منبج غرب الفرات، بعد ما سُمّي بـ “هزيمة داعش”، بدعم قوات التحالف بقيادة أميركية، وتضمّ منطقة سيطرة (قسد) كامل محافظة الحسكة، وكامل الجزء الواقع شرق الفرات من محافظتي دير الزور والرقة، (عدا منطقة “نبع السلام” التي تسيطر عليها القوات التركية)، كما تسيطر على منطقة منبج غرب الفرات في محافظة حلب، وهي مناطق يشكّل العرب فيها معظم السكان، والكُرد فيها أقليّة.

تحظى (قسد) بدعم وحماية القوات الأميركية الموجودة في شرق الفرات، على الرغم من أنها مظلة عسكرية لحزب الاتحاد الديمقراطي، وهو الفرع السوري لحزب PKK الكردي التركي المصنف إرهابيًا من طرف الولايات المتحدة الأميركية، ولهذا الحزب علاقات وطيدة مع إيران، وهو العدو الرئيس لتركيا.

وله علاقات قديمة مستمرة مع النظام، وكان الأسد قد أعاد حزب الاتحاد الديمقراطي إلى سورية سنة 2012، لضبط الشارع الكردي في شمال سورية، ومنع مشاركته في الانتفاضة السورية التي انطلقت في آذار 2011 مطالبة بالتغيير السياسي. ولكن مع تعقيدات الصراع وضعف النظام، رفع الحزب مطالبه إلى إقامة حكم ذاتي شمال سورية، شبيه بإقليم كردستان العراق، وهو الأمر الذي يرفضه النظام.

خلقت سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي على منطقة واسعة شمال شرق سورية، من خلال مظلته التي يتحكم فيها “قوات سوريا الديمقراطية – (قسد)”، وضعًا شاذًا، يولّد كثيرًا من التناقضات، فهي قوات كردية تتبع حزبًا أيديولوجيًا تركيًا، سيطرت على منطقة واسعة شمال شرق سورية، يشكّل العرب معظم سكانها، وقد استأثرت منفردة بالسلطة والثروة والسلاح.

جذور غضب أهالي دير الزور

تضمّ المنطقة التي تسيطر عليها (قسد) في محافظة دير الزور عشرات القرى والنواحي والمدن، وتمثل القبيلتان الكبيرتان في محافظة دير الزور، وهما قبيلة العقيدات وقبيلة البكارة، معظم سكانها. غير أن هناك بضع قرى في خط الجزيرة، هي حطلة ومراط والحسينية وخشام، تمكّنَ النظام من السيطرة عليها، قبل أن تسيطر عليها (قسد)[4]. وليس في محافظة دير الزور وجود كردي ما خلا بضع عائلات.

شكلت (قسد)، بعد سيطرتها على شرق الفرات، هياكلها الإدارية والعسكرية، وسيطر حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي على القرار في كافة المجالات العسكرية، والأمنية، والإدارية، والاقتصادية، والتجارية في كامل المنطقة.

ومن ضمن المجالس التي شكلتها (قسد) المجلس العسكري في دير الزور، وهو المجلس الذي سيطر على الساحات، بحسب التصنيف الإداري لـ (قسد): (الساحة الشمالية، ومركزها الصور، والساحة الوسطى، ومركزها البصيرة والشحيل، والساحة الغربية، ومركزها الكسرة، والساحة الشرقية، ومركزها هجين)[5].

واختارت أحمد الخبيل، من عشيرة البكير، من قبيلة العقيدات، رئيسًا للمجلس العسكري في دير الزور. وقد بدا واضحًا إقصاء العرب عن مراكز صنع القرار، ووضعهم في مواقع هامشية في الإدارات المدنية التي تسيطر عليها كوادر كردية تأتمر بأمر قيادات قنديل (معقل حزب العمال الكردستاني)[6].

سيطرت (قسد) على كافة موارد شرق الفرات، وخاصة النفط الذي ينتج منه ما يقدر بـ 150 ألف برميل نفط يوميًا[7]. وهي تستغل حقول نفط دير الزور استغلالًا لا يصبّ في تلبية حاجات المنطقة، وقد استخدمت حرّاقات بدائية تلحق ضررًا كبيرًا بالبيئة، والأمر الأكثر استفزازًا لنقمة الناس أن موالين لـ (قسد) هم من يستأثرون بالحراقات، وهم من يشاركونها في الاستفادة منه، بل إن عددًا كبيرًا من الناس لا يحصلون على مخصصاتهم من الوقود؛ بسبب استيلاء عناصر من (قسد) ومن مواليها، عليها[8].

تدخلت (قسد) أيضًا في أنماط عيش السكان، عبر سعيها لفرض أيديولوجيتها “الأبوجية”، كما فرضت التجنيد الإجباري على شباب المنطقة، إضافة إلى عوامل أخرى سنذكرها أدناه، مما أدى إلى غضب الأهالي، وتراكم ذلك الغضب على مدار السنوات السابقة، وقد أظهر بحث ميداني صادر عن مركز حرمون للدراسات، بوضوح، أن إدارة (قسد) للمنطقة ليست إدارة كفيلة بتنميتها، ولا بتلبية حاجياتها الأساسية؛ ففي قطاع التعليم، لم تولِ (قسد) الاهتمام الكافي بهذا القطاع، حيث كان جلّ تركيزها على نشر مناهجها التي لاقت معارضة شديدة من الأهالي، لما تنطوي عليه من مخالفات لمعتقدات وقيم راسخة في المجتمع، ولما نشأ عليه الناس من مفاهيم أخرى ذات صلة بوطنهم وعروبتهم[9].

وقد تجلّى الإهمال في عدم وجود مدارس إعدادية وثانوية في أغلب القرى، وافتقار كثير من المدارس الابتدائية إلى منهاج تعليمي محدد، كما تجلى في الافتقار إلى الكادر التدريسي المختص، بسبب ضعف رواتب المعلمين، وكلفة النقل الباهظة التي تجعل كثيرًا منهم يستنكفون عن مزاولة المهنة[10].

وفي قطاع الصحة، اعتمدت (قسد) على المنظمات الدولية لدعم هذا القطاع، وعلى جهود التحالف الدولي، وعلى الرغم من إنشاء لجنة للصحة ضمن الهيكلية الإدارية لـ (قسد)، فإن ما يُقدّم لهذا القطاع، عبر الإجراءات المعقدة التي تفرضها (قسد) لوصول الطلبات الخاصة بالمشافي والمستوصفات، يجعل ما يتحقق وصوله من احتياجات المشافي أقلّ بكثير من المطلوب. هذا فضلًا عن الفساد المستشري في هذا القطاع، وهو فساد يتجلى في انتشار الرشوة فيه، وفي منح (قسد) المناقصات لموالين لها[11].

والأمر نفسه ينسحب على قطاع الزراعة الذي يشكل شريان الحياة في ريف دير الزور، فصحيح أن تدهوره ليس نتيجة لسياسات (قسد) فقط، وإنما ساهمت فيه ظروف الحرب، وانخفاض منسوب نهر الفرات، والقصف الذي تعرضت له الأراضي الزراعية، لكن (قسد) مسؤولة عن عدم اتخاذ الإجراءات الكفيلة بإنقاذ هذا القطاع وإعادة حيويته.

وعلى الرغم من أن ما تقدمه (قسد) للفلاحين من مخصصات بذار ووقود أرخص مما يُباع في السوق السوداء، فإن الأهالي يؤكدون أنه ذو نوعية رديئة، وأنهم يضطرون -بسبب رداءتها- إلى التوجه إلى أسواق سوداء، مما يجعل زراعتهم لا تقيم أودهم، ولا يساوي المتحصل منها تكلفتها. وتقصير (قسد) الآخر في هذا القطاع يمكن رؤيته في إهمالها تحليل التربة، وهو ما ينذر بأخطار كبيرة تهدد الزراعة على المدى الطويل[12].

تفرض (قسد) ما يسمى بـ “بطاقة الوافد”، التي تعيق انتقال أهالي المنطقة، وتغلق منطقة سيطرتها في وجه غير المقيمين فيها، وتطلب كفالة من أي زائر سوري جاء من منطقة أخرى للدخول إلى شرق الفرات، وهو ما يكون أحيانًا أمرًا شبه مستحيل[13].

لا تظهر (قسد) اكتراثًا يذكر بظاهرة انتشار المخدرات بين شباب المنطقة، وقد أصبحت نسبتهم لا يستهان بها. فـ (قسد) لا تقيم أي مركز معالجة من الإدمان، ويرى الناس هناك مروجي المخدرات يروجونها في وضح النهار، من دون تدخل من السلطات[14].

يضاف إلى كل ما سبق تعامُلُ (قسد) تعاملًا ينطوي على عدم إدراك لرمزية بيوت المشيخة، ومحاولتها تصدير شخصيات لا وزن قبليًا لها، من أجل إحداث صدوع في الكيان القبلي، ومحاولة تهميش شيوخ القبائل؛ الأمر الذي أفقدهم قدرًا كبيرًا من هيبتهم المستمدة من رمزيتهم[15].

مطالب أهل دير الزور

أمام هذا الواقع، كانت ردة فعل العشائر قويّة عبر احتجاجات لم تقتصر على التظاهرات والاحتجاجات الخطابية، وإنما تعدّتها إلى المواجهة المسلحة لقوات (قسد)، وكان تصرف الأخيرة باعتقال الخبيل تعبيرًا صريحًا -في نظر أبناء العشائر- على تصميم (قسد) على عدم مشاركة أهالي دير الزور في صنع القرار في المنطقة.

وأكدت البيانات التي أصدرتها شخصيات قبلية معروفة، كالشيخ مصعب الهفل، شيخ العكيدات، المقيم في الدوحة[16]، وبيان شقيقه إبراهيم، شيخ العكيدات في المنطقة بالوكالة عنه[17]، والشيخ عبد العزيز الحمادة، شيخ البكير، على مطالب العشائر الحقّة، وعلى ضرورة حكم أبناء العشائر لمناطقهم[18]. كما أكدت كل تصريحات مقاتلي العشائر أن الانتفاضة العشائرية لا صلة لها باعتقال أحمد الخبيل، ومن معه.

وهو ما كان صريحًا في البيان الأخير الذي صدر عن أبناء العشائر في دير الزور، بعنوان: (مطالب الحراك الثوري في دير الزور)، وكان من أهم بنوده المطالبة بإنشاء إدارة مدنية مستقلة عن (قسد)، وتشكيل مجلس عسكري مستقل تحت إشراف التحالف الدولي يمثل المنطقة، بدلًا من تسييرها من طرف (قسد).

انفجار الصراع (تحول التمرّد إلى فعل)

كان خلف اعتقال الخبيل أسبابٌ عدة، أهمّها ازدياد عدد قواته، وتعاظم نفوذه مع الوقت، وخاصة بسبب منحه حصة من المنتج النفطي في دير الزور، وهو ما جعل (قسد) تستشعر بأنه بات يشكل خطرًا كبيرًا على احتكارها للسيطرة، وخاصة بعد مبايعته من طرف شيوخ ووجهاء في المنطقة كأمير لقبيلة البكير.

وقد زاد شعور الخطر لدى (قسد) عندما صار الخبيل، في الفترة الأخيرة، يطالب الشيوخ والوجهاء بمبايعته أميرًا لقبيلة الزبيد، التي تمثل القبيلة الأم لمعظم القبائل العربية في المنطقة وفي العراق، وهو ما استجاب له عددٌ من الوجهاء الذين نظروا إليه كرمز للمكوّن العربي شرق الفرات الذي لا بدّ من وجوده؛ لمواجهة نفوذ حزب الاتحاد الديمقراطي الذي همّش المكون العربي، وتعامل معه بتمييز، وحرمه من حقوقه ومقومات حياته الأساسية، وهي استجابة ساهمت أكثر في جعل أحمد الخبيل يتعامل مع (قسد) كندّ لها[19].

عندما شعرت (قسد) بأنّ نموّ دور أحمد الخبيل قد بدأ يهدّد سيطرتها المطلقة المنفردة على شؤون شرق الفرات، وهو في الأصل صنيعتها بعدما سمّته هي رئيسًا للمجلس العسكري؛ أخذت تخطط لتحرك يضع حدًا له، ولإعادة سيطرتها على المنطقة من دون منافس.

انفجر الصراع في 25 تموز/ يوليو 2023، عندما حدثت اشتباكات، بين المجلس العسكري وقوات لـ (قسد)، عقب محاولة (قسد) إزالة الحواجز العسكرية التابعة لقوات المجلس العسكري، وإعطاء (قسد) أوامر لعناصرها بإطلاق النار على كل من يقاوم ذلك، وقد تزامن ذلك مع رفض (قسد) طلبات الخبيل بزيادة حصة دير الزور من النفط، التي -بحسب ناشطين في المنطقة- تحصل على حصة أقل بكثير مما تصدّره (قسد) إلى مناطق الحسكة، والقامشلي، وكردستان العراق[20].

تعاملت (قسد) مع الخبيل كموظف تابع لها في رئاسة مجلس دير الزور العسكري، فعمدت، بدلًا من التواصل والتفاوض معه، إلى حياكة خدعة لاعتقاله، حيث دعاه مظلوم عبدي، المسؤول في قوات سوريا الديمقراطية/ قسد، إلى اجتماع في الحسكة، هو وبعض أعضاء المجلس العسكري، بحجة مناقشة الأوضاع، ثم عمدت إلى اعتقاله مع عدد من قيادات مجلس دير الزور العسكري، منهم محمد جبر الشعيطي، وأبو حارث الشعيطي، وفي دير الزور اعتقلت قوات (قسد) قياديًا آخر من قيادات المجلس العسكري، هو خليل الوحش الذي جرى نقله إلى حقل العمر النفطي الذي يسيطر عليه كادر كردي بقيادة المسؤول الكردي لقمان. وقد تمكّنت “وحدات حماية الشعب” المسيطرة في الحسكة من ذلك، بالتعاون مع عناصر قادمة من جبل قنديل، كانت قد تسربت خلال الأسبوع الماضي عبر المعابر الحدودية إلى الحسكة، ثم أرسلت (قسد) تعزيزات عسكرية إلى المنطقة، ضمن عملية أطلقت عليها اسم عملية “تعزيز الأمن”.

أدى ذلك إلى حدوث اشتباكات في مناطق البصيرة، والعزبة، والصور، وهي مناطق تقطنها أغلبية من قبيلة البكير التي ينتمي إليها الخبيل، وتطورت المعارك، بين مد وجزر، بين قوات بعض العشائر وقوات سوريا الديمقراطية[21].

تطور الاشتباكات العسكرية

 تطورت الاشتباكات العسكرية واتسعت رقعتها، وتعددت الأطراف المشاركة فيها، وبدت المعارك معتمدة على المصابرة، حيث إنه لا مجال لمقارنة تسليح (قسد)، الذي يشمل أسلحة ثقيلة حديثة زوّدتها بها الولايات المتحدة الأميركية، وطائرات مسيرة بدعم من التحالف، وما تتميز به من تنظيم، وبين تسليح وتنظيم مقاتلي العشائر الذين لا يملكون سوى الأسلحة الخفيفة، ويفتقرون إلى التنظيم القتالي، وقد جمعتهم “الفزعة العشائرية”.

وهو ما يجعل طرف العشائر الطرف الأضعف بموازين القوة المادية. وقد وقع معظم الثقل في المواجهة مع (قسد) على عاتق عشيرة البكير من قبيلة العكيدات، ثم إلى حد ما عشيرة البوكامل من القبيلة ذاتها، وكان الدعم الميداني من طرف باقي فروع العكيدات، والعشائر الأخرى الموجودة في خط الجزيرة شكليًّا[22]، فثمة عشائر أخرى من العكيدات -مثل الدميم والحسون- لم يشاركوا، بل إن أغلب عناصر الشعيطات المتطوعين في (قسد) قاتلوا معها، وقد بقيت مناطق عديدة بعيدة عن أي اشتباكات، مثل هجين والباغوز. وكانت مجموعات من قبيلة البكارة قد شاركت في مواجهة (قسد) بطرد حواجز لها من قرى مختلفة من قرى البكارة. كما كان للبكارة دعم معنوي لمقاتلي العشائر من العكيدات، حيث أصدر حاجم البشير، الشخصية القبلية الأبرز في القبيلة اليوم، بيانًا أيّد فيه انتفاضة العكيدات، وأعلن أن قبيلته تقف مع العكيدات يدًا بيد[23].

وليس من العسير تفسير هذا، فمجتمع العشائر مجتمع متنوع جدًا في مواقفه، فثمة من يجد مصلحة في استمرار (قسد)، إما اقتناعًا بأنها أفضل الحلول، وإما بسبب استفادته من وجودها، وهو ليس مجتمعًا مثاليًا يتحرك كل أفراده بوحي قِيم عليا، وليس جديدًا القول إن بعض أبناء العشائر قد استفادوا من قنوات الفساد التي أتاحتها إدارة (قسد) للمنطقة. وفي قرى معينة، لم يكن موقف الرضوخ للأمر الواقع مقترنًا بعهد (قسد)، وإنما كان موقفًا قديمًا ظهر مع انطلاقة الثورة السورية، فبعض هذه القرى لم تنخرط في الثورة عن قناعة لدى أهلها بأفضلية النظام.

ومن صور عدم وحدة الصف القبلي كذلك اشتراك قسم من أبناء قبيلة الشعيطات التي تتحدر من قبيلة العكيدات في القتال في صفوف قوات (قسد)، والتزام آخرين منهم الحياد[24]. ولا يقتصر الانقسام على فروع العكيدات، وعلى الانقسام في المواقف بين القبائل الأخرى، بل إنه يتعداه إلى انقسام داخل العائلة الواحدة أحيانًا، فجميل الهفل، عمّ الشيخ مصعب الهفل، معروفٌ بعلاقاته الجيدة مع (قسد)[25].

ومن المهمّ الإشارة إلى أن المواجهة مع (قسد) لم تقتصر على منطقة دير الزور، بل تعدّتها إلى مواجهات معها بادر إليها أبناء عشائر دير الزور الموجودون في تركيا، ومقاتلون في الجيش الوطني من أبناء عشائر دير الزور، الذين هاجموا مواقع لـ (قسد) في محيط منبج، ورأس العين، وتل تمر؛ من أجل تخفيف العبء عن مقاتلي العشائر في المنطقة، ولكنها لم تكن هجمات مؤثرة، فقد كان ضجيجها الإعلامي أقوى من حقيقتها.

عيون شاخصة ترقب الصراع

لقيت هبّة العشائر ضد سيطرة (قسد) اهتمامًا سوريًا ودوليًا واضحًا، ولا سيما أنها تترافق مع انتفاضة السويداء المطالبة بالتغيير السياسي، كما تترافق مع تدهور الأوضاع المعيشية في مناطق سيطرة النظام إلى حدود يستحيل تحمّلها، مما أحدث تغيرًا كبيرًا في موقف السوريين في مناطق سيطرة النظام، بما في ذلك مناطق الساحل، وهو تغيير تمثل في رفض النظام رفضًا صامتًا بسبب القمع، وهو ما يساهم في إفقاد النظام شرعيته كليًا، ويهدد بانفجاره كل لحظة.

أول المهتمين بالصراع في شرق الفرات هي القوات الأميركية الموجودة في شرق الفرات، وعلى الرغم من دعم الأميركان لـ (قسد)، فقد دعوا للتهدئة، وحرصوا على عدم اتخاذ موقف معلن مع أي من طرفي الصراع، فالعشائر هم معظم سكان شرق الفرات، وهم قوة رئيسة في مواجهة الميليشيات الإيرانية في المنطقة، ويرى بعض المتابعين أن انتفاضة العشائر هي أداة ضغط على (قسد)، للتخفيف من بعض ممارساتها غير المقبولة في إدارة المنطقة، ولتحقيق هدف أهم، وهو إبعاد “القنديليين” من قياداتها.

لا يختلف كلٌّ من النظام وإيران وروسيا في موقفهم من هبّة العشائر في مواجهة (قسد)؛ فـ (قسد)، حليفتهم، ورغم أنها حليف غير مطيع أحيانًا، ومستقوٍ بالأمريكان، فإنهم يقفون إلى جانبها في صراعها مع أي قوى أخرى، وقد ظهر ذلك في قصف الطيران الروسي قوات العشائر التي تقدّمت في مواقع سيطرة (قسد) في غرب منبج، كما ظهر في سعي النظام إلى التدخّل في الصراع، خاصة أن بعض شيوخ العشائر متحالفون معه، من أجل استغلال هذا الصراع للضغط على (قسد).

رحّبت تركيا بهبّة عشائر دير الزور ضدّ سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي على شرق الفرات، وهو الحزب الذي تعدّه تركيا تهديدًا للأمن القومي التركي، لأنه فرع لحزب PKK التركي، وقد قال الرئيس أردوغان في إحدى كلماته: “القبائل العربية تعمل من أجل استعادة أراضيها”. وقد باركت تركيا عمليات أبناء العشائر الموجودين في تركيا، أو المنخرطين في الجيش الوطني ضدّ مواقع قوات (قسد) في محيط منبج، ورأس العين، وتل تمر، وقطع طريق الـ M4، وقد مكّنت تركيا هؤلاء المناصرين من عبور الخط الفاصل بين مناطق سيطرة قوات سورية حليفة لتركيا، وبين أماكن سيطرة (قسد)، وكان لا بدّ للمساعدة التركية أن تكون مشروطة بتقدّم المقاتلين تحت راية العشائر، وليس تحت راية أي فصيل عسكري سوري معارض. ولا تستطيع تركيا الإقدام على ما هو أكثر؛ بسبب اتفاقيات بينها، وبين الأميركان، والروس، على الالتزام بالإبقاء على القوات السورية الحليفة ضمن حدود مرسومة[26].

استنتاجات:

بالرغم من أن هبّة أبناء العشائر جاءت مفاجئة وغير منظمة ولا منسّقة، فهي ردة فعل متوقعة ناتجة عن تسلّط (قسد) على المنطقة ومقدراتها، وهي بذلك فجّرت وضعًا بقي مسكوتًا عنه سنوات عدة، بما يعني أنه سيكون من الصعب إسكات اعتراضات الناس على ممارسات (قسد)، وهي في الحقيقة ممارسات حزب الاتحاد الديمقراطي، وممارسات القنديليين.

حسمَت قوة (قسد) المنظّمة والمسلّحة جيدًا المعاركَ لصالحها، وأعادت سيطرتها على كافة المناطق التي انتفضت، وباشرت إجراء بعض الاعتقالات، ولم يكن متوقعًا أن تستطيع هبّة أبناء العشائر، التي جاءت دون تحضير ودون تنسيق ودون مشاركة واسعة من أبناء العشائر الأخرى، أن تنتصر على جيش منظّم ومدرّب ويمتلك أسلحة ثقيلة.

يُتوقع أن تحافظ (قسد) على المجلس العسكري ككيان، وأن تعمد إلى تعيين بدلاء لأحمد الخبيل، وبعض قيادات المجلس العسكري البارزين من أبناء المنطقة العرب، وأن تستجيب لبعض مطالب الحراك العشائري، من دون أن تغادر المنطقة. وما يُرجّح هذا السيناريو أن (قسد) تدرك أن شرائح كبيرة من أبناء القبائل في المنطقة ناقمة على سياساتها، وأنها تحتاج إلى محليين يساعدونها في ضبطها، خصوصًا في ظلّ الاستقطاب الكردي العربي الذي فاقمته الأحداث الأخيرة. ويبدو أن (قسد) مصرّة على البقاء في المنطقة إلى أجل غير معلوم، في ظلّ دعم قوات التحالف لها، وعدم تأكد نيّة أميركا محاربة إيران في المنطقة، وما قد يتطلبه ذلك من إقصاء (قسد) عن المشهد في المنطقة، والاعتماد الكلي على المكوّن العربي.

يُتوقّع أن تؤدي انتفاضة العشائر إلى إدراك قوات التحالف أن تحقيق الاستقرار في المنطقة لا يمكن أن يكون من دون تلبية مطالب القبائل، وتشكيل مكوّن عربي تربطه علاقة مباشرة مع قوات التحالف من دون وسيط. وما يُرجّح هذا الاحتمال ما ظهر من مؤشرات عن نيّة التحالف مواجهة إيران في المنطقة عسكريًا[27]، ولم تُبدِ (قسد) رغبتها في التعاون مع قوات التحالف في هذا الخصوص. وثمّة تسريبات تتحدث عن نيّة قوات التحالف تشكيل كيان عربي، بقيادة هفل الهفل (عمّ الشيخ مصعب الهفل)، وهو شخص مهاجر إلى أميركا منذ ثمانينيات القرن الماضي، وله صلات مع مسؤولين أميركيين، على أن تكون مهمته إدارة الملفّ مؤقتًا إلى حين تشكيل إدارة جديدة للمنطقة تدير بها العشائر مناطقها[28].

عدم تلبية المطالب المحقّة لأبناء العشائر شرق الفرات، وإصرار قوات التحالف على الإبقاء على (قسد) كحليف وحيد لها، سيدفع بالعشائر إلى استمرار مواجهة (قسد)، ولو بشكل “حرب عصابات”، بمجموعات صغيرة تختفي تحت الأرض، وتقوم بعمليات ليلية بين حين وآخر.

كما قد يدفع بعضهم للانخراط مع (داعش) أو التحالف معها، خاصة أن (داعش) تسعى لاستغلال غضب أبناء العشائر من ممارسات (قسد)، وقد أعلن تنظيم (داعش)، عن طريق بعض معرّفاته خلال المواجهات، استعداده لمعاودة عملياته ضدّ (قسد)[29]. وهو الأمر الذي يتعارض مع المشروع الرئيس لوجود (قسد) شرق الفرات، بأنه منع ظهور (داعش) ثانية.


[1] قوات سوريا الديمقراطية – قسد، هي القوات التي شكلتها “وحدات حماية الشعب” سنة 2015، وهي الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي، ويتشكل جسمها الرئيس من قوات عربية وكردية، ولكن بقيادة فعلية كردية.

[2] ) أحمد الخبيل من عشيرة البكيّر، أحد فروع قبيلة العكيدات في دير الزور، وهو شخص لا وزن عشائريًا له، وغير ممدوح السيرة في المنطقة، وكان قد فرّ من المنطقة إلى تركيا عند قدوم (داعش)، ثم عاد مع (قسد) لتولّيه الأخيرة منصب قائد المجلس العسكري في دير الزور التابع لها.

[3] مقابلة مع أحد وجهاء قبيلة البكير، بتاريخ 6/09/ 2023. وفيديو يظهر فيه أبو الحارث قائد مجلس هدين العسكري الذي كان معتقلًا مع أحمد الخبيل، وهو يعلن اشتراكه في القتال مع قوات (قسد)، بعد إطلاق سراحه. https://web.whatsapp.com/

[4] مناف الحمد، القبيلة والسياسة في سورية، تحولات البنية وتنوع الدور، قبائل دير الزور أنموذجًا، تركيا، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، 1/11/2021، ص. 44، https://2u.pw/hFnHMP

[5] المرجع نفسه.

[6] مقابلة مع مدرّس من مدينة دير الزور نازح في مناطق سيطرة (قسد) بتاريخ: 9/ 06/ 2022.

[7] ) جريدة الشرق الأوسط https://2u.pw/cFdDxvg

[8] مناف الحمد، تأثيرات سلطة الإدارة الذاتية في المجتمع القبلي. ريف دير الزور أنموذجًا، مركز حرمون، 5/12/2022. https://2u.pw/oLxDzF

[9] مقابلة تلفزيون سوريا مع الأستاذ محمود ماضي، بتاريخ: 18/09/2022، https://www.youtube.com/watch?v=VKoqHScF7Qw&t=147s، تاريخ الدخول: 10/10/2022.

[10] مقابلة مع الصحفي الاستقصائي عمر خطاب من أبناء المنطقة بتاريخ: 11-10-2022.

[11] مناف الحمد، تأثيرات سلطة الإدارة الذاتية في المجتمع القبلي. ريف دير الزور أنموذجًا، مرجع سابق.

[12] المرجع السابق.

[13] مقابلة مع أحد أبناء العشائر المقيم في مناطق سيطرة (قسد) بتاريخ: 7/10/2022.

[14] مناف الحمد، تأثيرات سلطة الإدارة الذاتية في المجتمع القبلي، مرجع سابق.

[15] مقابلة مع الدكتور (ر.ح) من قبيلة البكارة، بتاريخ: 1-9-2022. ومقابلة مع المدرس: (د. ع) من أبناء المنطقة، بتاريخ: 26/05/2022.

[16] بيان الشيخ مصعب الهفل على الرابط: https://www.youtube.com/shorts/pJrQZEe60O4

[17] بيان الشيخ إبراهيم الهفل على الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=jaRqB88fwmM

[18] بيان الشيخ عبد العزيز الحمادة على الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=cP-GNhjBrII

[19] مقابلات متعددة مع خطاب العواد، وأحد وجهاء قبيلة البكير، وشيخ قبيلة البكير، والصحفي عمر خطاب، في الفترة بين 3-4/ 9/ 2023.

[20] المقابلة السابقة مع عمر خطاب.

[21] انظر صفحة دير الزور الحدث، على فيسبوك، https://www.facebook.com/DeirEzzorevent

[22] المقابلة السابقة مع شيخ البكير، والمقابلة السابقة مع الباحث خطاب العواد.

[23] بيان الشيخ حاجم البشير على الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=MSx0vUdP6wk

[24] مقابلات متعددة مع ناشطين من أبناء القبائل، بتاريخ: 5-6/ 09/ 2023..

[25] مقابلة سابقة مع أحد وجهاء قبيلة البكير.

[26] مقابلة سابقة مع أحد شيوخ قبيلة البكارة، والمسؤول في مجلس القبائل والعشائر السورية، بتاريخ: 3/09/ 2023.

[27] انظر محمد كركص، تدريبات للتحالف في دير الزور: هل تقترب عملية عسكرية ضد المليشيات الإيرانية؟ العربي الجديد، 4/08/2023، https://2u.pw/m0Ot1wv

[28] مقابلة سابقة مع أحد المسؤولين في مجلس القبائل والعشائر من وجوه قبيلة البكارة.

[29] مركز نور ايست للأبحاث، تقدير موقف، تحولات قسد في دير الزور وأفق المرحلة القادمة، https://2u.pw/NDc8Q99