كما لو أن مقتل قاسم سليماني، على يد الولايات المتحدة الأميركية، جاء في موعده الدقيق والمنتظر. فالحراك الثوري في كل من لبنان والعراق الذي كان -شئنا أم أبينا- يستعيد الربيع العربي، الذي أعلن ممثلو الثورة المضادة موته بوصفه مؤامرة دمّرت عددًا من البلدان العربية وكادت تدمر عددًا آخر، كان يوضح -بما لا يقبل الشك- محاولة شعبين عربيين استعادة زمام المبادرة التاريخية التي كانت تتطلع -من بين ما تتطلع إليه- إلى إخراج إيران من مراكز القرار في كلٍّ من البلدَين. وكانت إيران، وقد هب حراكٌ مماثل في عدد كبير من مدنها قمعته بكل العنف الذي تتقنه القوى الأمنية لطغمتها الحاكمة، تحاول بشتى الوسائل، وبحسب ظروف كلٍّ من البلديْن، أن تواجه هذا الحراك، بالالتفاف على مطالبه في لبنان، أو بضروب مختلفة من القمع وصولًا إلى القتل في العراق، تحت قيادة رجلها المكلف بقمع الثورات العربية، قاسم سليماني، الذي كان ينتقل بين البلدان الثلاث، ينسق وينظم ويشرف على طرق مواجهة الحراك الشعبي في البلدان الثلاث. وقد جاء مقتله، الذي كان -بلا شك- كارثة لها، في أوج الحراكات الشعبية التي كانت تواجهها، وكان يعمل ببراعة على إدارتها واستعادة زمام المبادرة فيها، كما لو أنه هدية على غير انتظار، تلقفتها القيادة الإيرانية بمستوياتها المختلفة، وبدأت، آملة في القضاء نهائيًا على الحراكات الشعبية المشار إليها، في استثمارها بحنكةٍ، فيها من الخبث قدر ما فيها من الخبرة التي حملت قاتِلَ سليماني بعد أن نفّذ فعلته، على القول: “إن إيران لم تربح حربًا لكنها لم تخسر تفاوضًا”، داعيًا إياها بوضوح إلى استثمار معاني الهدية.
هكذا، وهي تهدِّد وتندِّد وترغِد وتزبِد، تقدّم الطغمة الحاكمة في إيران، عبر مسرحيتها الهزلية التي بدأت بتقديمها بعد مقتل كبير إرهابييها، طرقَ استخدام مختلف فنون الاستغباء التي اعتادت طول السنوات الماضية اللجوء إليها في سلوكها، وفي وسائل إعلامها الموجهة إلى جمهورها في الداخل وإلى الجماهير العربية عمومًا وفي المشرق العربي خصوصًا. فقاسم سليماني، الرامبو الإيراني، كما أطلق عليه ذات يوم تشبيهًا له ببطل مسلسل الأفلام الأميركية، رامبو (سلفستر ستالون)، القادر على تحقيق الانتصارات الخارقة في كل معركة يخوضها، بحيث صار أيقونة اليمين الأميركي خلال العقود الثلاثة الأخيرة، بدا بالفعل في إهاب رجل ينتقل بسرعة وبحرية بين مختلف مدن العراق وسورية ولبنان، يخوض حروبًا قذرة ينتصر فيها على الدوام، جاعلًا منها في عيون جمهوره، وكما يريد رؤساؤه، حروب نضال مقدس، بما أنه كان على رأس (فيلق القدس) الذي حارب في كل مكان تحت رايته باستثناء المدينة التي يحمل اسمها.
كان لا بد بالطبع من التهويل بهذه “الجريمة”، ومن أن ترفع إيران عقيرة إعلامها وإعلام ذيولها في البلدان العربية المجاورة، بالدعوات إلى الانتقام الرهيب. فبين الدعوات من “حكماء العالم” على اختلافهم، إلى “ضبط النفس” و”عدم التصعيد”، والحديث في الوقت نفسه عن حرب لا تبقي ولا تذر، إذا ما انتقمت إيران وردَّت الولايات المتحدة على انتقامها، وبين صراخ خامئني ووكلائه في بيروت وفي بغداد وفي غزة بإنزال أشد العقاب بالولايات المتحدة ووضع نهاية لوجودها في المنطقة، أو صراخ ترامب بردٍّ يدمِّر فيه 52 موقعًا في إيران ذاتها، بدا العالم على القنوات الفضائية وكأنه على أبواب حرب عالمية ثالثة فعلًا. سوى أن وكلاء إيران في المشرق العربي بادروا على الفور إلى القيام بواجباتهم على أفضل وجه، حين اجتمع مجلس النواب في العراق، متجاوزًا صلاحياته شكلًا حين لم يحترم ضرورة الأغلبية المطلوبة بحسب قانونه الداخلي، وموضوعًا حين لم يحترم صلاحياته في إصدار القوانين حصرًا، وقرر إصدار قرار تنفيذي، هو من اختصاص السلطة التنفيذية وحدها، ينصُّ في جوهره على “مُطالبة الحكومة العراقية بالعمل على إنهاء تواجد أي قوات أجنبية على الأراضي العراقية، ومنعها من استخدام الأراضي والمياه والأجواء العراقية لأي سبب كان”، وهو ما كان يعنيه الناطقون باسم القيادة الإيرانية وذيولها في المشرق العربي، وما كانوا يهددون به بقولهم: “بدء إنهاء الوجود الأميركي في المنطقة العربية”.
كان ذلك أول “انتصار” تعلنه إيران في مسرحيتها الهزلية التي تشاركت طغمتها الحاكمة مع ترامب في وضعها. أما “الانتصار” الثاني فتجلى في إعلان وكيل إيران الرسمي في لبنان، حسن نصر الله، (ولا أدري معنى استخدام صفة “السيد” أو صفة “سماحة” عند ذكر اسمه)، أن “قاسم سليماني ليس شأنًا إيرانيًا بحتًا، واصفًا إياه بأنه يعني كل محور المقاومة”، مشيرًا بذلك إلى الحلف الذي يضم مختلف الجماعات والأنظمة في المنطقة، ومن بينها بالطبع “حزب الله” اللبناني، والفصائل والأحزاب الشيعية في العراق واليمن التي تعلن تبعيتها علنًا لإيران، فضلًا على النظام السوري الذي أشاد رئيسه كذلك بدور سليماني في بقائه على قيد الحياة.
على أن “الانتصار” الرمزي الأكبر الذي حققته إيران بهذه المناسبة كان بفضل وجود مسؤول فلسطيني قدِم من غزة، ونعني به إسماعيل هنية، للمشاركة في جنازة قاسم سليماني قائد فيلق “القدس”، وإلقائه خطابًا بهذه المناسبة واصفًا القتيل بـ “شهيد القدس”، فضلًا على الصورة التي تناقلتها الشبكات العنكبوتية له راكعًا يقبّل يد خامئني.
أما ختام المسرحية الهزلية فقد تجلى في الفصل الذي كانت إيران هي من أدى الدور الوحيد فيه، حين أعلنت قصف قاعدتيْن توجد فيهما القوات الأميركية، بأربيل شمالًا، وعين الأسد في الأنبار، بعدد من الصواريخ التي لم تقتل أحدًا ولم تسبب أكثر من أضرار مادية طفيفة، انتقامًا لمقتل قاسم سليماني.
يقوم الطرفان الإيراني والأميركي، في اليوم التالي، بإسدال ستار نهاية المسرحية، بعد أن احترم اللاعبان فيها قواعد اللعبة حرفيًّا، كي يبدأ فعلًا ما أطلقت عليه إيران: “ما بعد مقتل سليماني”.. أي بعبارة أدق: العودة إلى السياسة، وإلى التفاوض، اليوم أو غدًا.
هل كان من الممكن أداء هذه المسرحية الهزلية وإخراجها بهذه الطريقة الغبية، على أنها تمثل “الانتصار” الإيراني، لولا الأدوار القذرة التي قام بها عرب قبلوا المهانة والذل والتبعية في العراق وفي لبنان وفي غزة؟
كان يمكن للدور الذي يلعبه حسن نصر الله منذ زمن طويل لمصلحة إيران في لبنان وبإمرة الولي الفقيه فيها، أن يقوده إلى المشنقة في بلد يحرص المسؤولون فيه على استقلاله وسيادته الحقيقييْن. كما كان من الممكن للنواب العراقيين الذين صوتوا لطرد الولايات المتحدة، وهم الذي صاروا نوابًا بفضلها، من العراق، تنفيذًا لأوامر إيران، أن يقادوا هم أيضًا إلى المشنقة في دولة سليمة كاملة السيادة والاستقلال. سوى أن الحراك الشعبي في كلا البلدين قد برهن على غياب الدولة وعطب الاستقلال وفساد المسؤولين فيهما. ولن نذكر النظام الأسدي الذي باع نفسه منذ عقد من الزمان إلى إيران، والذي ما كان ليبقى لولاها. ذلك أن الأخطر من كل ذلك، كان تدنيس قداسة القضية الفلسطينية على أيدي إسماعيل هنية، حين اعترف بقاتل السوريين والعراقيين والإيرانيين التواقين إلى الحرية “مناضلًا” من أجل القدس ومن أجل فلسطين، مع صورته راكعًا أمام الحالم بإمبراطورية تستعيد أمجاد فارس. تلك صورة ستبقى تجسيدًا لعار كلِّ من خان قضيته من الفلسطينيين، أيًا كانت مواقعهم ومزاعمهم وخطاباتهم.
هل كان يمكن لإيران أن “تنتصر” إلى حين في مشرق العالم العربي؛ لولا خونة الأمانة من العرب هؤلاء؟!