رغم رفض المعارضة لها، وإعلان العديد من الدول الغربية رفضها المسبق لنتائجها، وتأكيد الولايات المتحدة أنها لن تعترف بها ولا تُعتبر بالنسبة لها مدخلًا إلى الحل السياسي للقضية السورية، إلا أن النظام السوري أصرّ على إجراء الانتخابات الرئاسية السورية، ونتائجها معروفة قبل أن تبدأ، لأنها تُعقد في ظل نفس الشروط والظروف التي جرت فيها كل الانتخابات السورية خلال خمسة عقود، وكانت نتائجها محسومة لصالح أسرة الأسد، أبا ثم ابنًا.

طوال خمسة عقود، تجري الانتخابات الرئاسية السورية وفق نفس النموذج، ونفس الظروف، باحتلاف طفيف شكلي بين انتخابات وأخرى، فجميعها تجري في ظل هيمنة وتحكّم كامل من قبل الأجهزة الأمنية السورية، وبدستور مُفصّل لا يخدم إلا الأسد، أبًا أو ابنًا، وبمرشح وحيد، وأحيانًا في الدورات الانتخابية الأخيرة، تطعيم المرشح بمرشحين اثنين شكليين، لا وزن لهما إطلاقًا في الشارع السوري، وغالبًا غير معروفين أيضًا على أي مستوى، وفي غياب أي نوع من أنواع الرقابة والإشراف المحلي أو العربي أو الدولي أو الأممي، وغياب كامل للشفافية، وعدم احترام لقواعد التزاهة الانتخابية.

طوال خمسة عقود، كان يُساق موظفوا الدولة إلى صناديق الانتخاب رغمًا عن أنفهم، وكذلك الأمر بالنسبة للطلاب والعسكريين، ويُسلّمون ورقة محدد عليها اسم مُرشح عائلة الأسد، وتحت رقابة أعين الاستخبارات التي تُسجّل اسم كل من لا ينتخب الأسد أو يمتنع عن التصويت أو يتجرأ ليشطب صورته من الورقة الانتخابية.

كذلك، طوال خمسة عقود، كانت نتائج الانتخابات معروفة مسبقًا، وكاسحة، وبنسبة تصل إلى 99 بالمئة للمرشح الرئاسي، وهو حافظ الأسد، ومن بعد وفاته “عقلن” ابنه بشار الأسد النسبة قليلًا ذرًا للرماد في العيون، لتبقى بين 88 و98 بالمئة.

بشار الأسد، المرشح الأساس في هذه الانتخابات، وتدعمه جحافل الأجهزة الأمنية، وهو الذي ورث الحكم عن أبيه بعد تغيير طارئ وسريع للدستور عام 2000، تلاه استفتاء شكلي في نفس العام، فاز بموجبه بنسبة 99.7 بالمئة من الأصوات، وأعيد انتخابه عام 2007، وحصد 97.6 في المئة من الأصوات، وأعيد انتخابه خلال الحرب للمرة الثالثة عام 2014، ونال 88.7 في المئة من الأصوات، ومن المتوقع في هذه الانتخابات أن تبقى النسبة متأرجحة في هذا الإطار.

طوال خمسة عقود، كانت ترفض المعارضة السورية هذه الانتخابات أو تُمنع من المشاركة فيها لأنها مُلاحقة، أو كانت ترفض أن تُشارك لأنها تأبى الاعتراف بشرعيتها، وهي التي تعرف أن صناديق الاقتراع لن تُفتح، ولن تجري عملية إحصاء، فلماذا المشاركة إذًا في مثل هذه الانتخابات معروفة النتيجة مسبقًا.

أكثر من نصف الشعب السوري بين نازح ولاجئ، والوضع الاقتصادي شبه منهار، ونحو نصف النبى التحتية لعموم سورية مدمّرة، والفقر والخوف متفشي لأعلى الدرجات، وأوضاع معيشية متردية لأغلب السوريين، ويعيش كثير من السوريين في مخيمات على حدود دول الجوار، بعضها لا يملك الحد الأدنى من مقومات الحياة الإنسانية، والأجهزة الأمنية تُسيطر على سورية أمنيًا وسياسيًا واجتماعيًا، ودولة شبه منكوبة، فيها جيوش 5 دول على الأقل، وتعيش الحرب ولم تخرج منها.

ورغم تحذير الدول الأوربية، والولايات المتحدة، بأنها لن تعترف بهذه الانتخابات ولا بنتائجها، ومحاولة روسيا إقناع النظام السوري تأجيل هذه الانتخابات ولو لفترة أخرى أكثر مناسبة، تسمح لروسيا حتى وقتها بتهيئة الأجواء الدولية والأوربية للاعتراف ولو نسبيًا بهذه الانتخابات، إلا أن النظام السوري أصرّ على أن تجري.

وقبل الانتخابات بيوم، أصدر وزراء خارجية فرنسا وألمانيا وإيطاليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة بيانًا أوضحوا فيه أن الانتخابات الرئاسية السورية السورية لن تكون حرة ولا نزيهة، واستنكروا قرار نظام الأسد بإجراء انتخابات خارج الإطار الموصوف في قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، ودعموا أصوات جميع السوريين، بمن فيهم منظمات المجتمع المدني والمعارضة السورية، الذين أدانوا العملية الانتخابية ووصفوها بأنها غير شرعية، وشددوا على ضرورة أن تجري انتخابات حرة ونزيهة تحت إشراف الأمم المتحدة وفقًا لأعلى المعايير الدولية للشفافية والمساءلة، لكي تكون الانتخابات ذات مصداقية، ويجب السماح لجميع السوريين بالمشاركة، بما في ذلك النازحين السوريين واللاجئين وأفراد الشتات، في بيئة آمنة ومحايدة، وأكّدوا أنه بدون هذه العناصر، لا تمثل هذه الانتخابات المزورة أي تقدم نحو تسوية سياسية، وحثّوا المجتمع الدولي على الرفض القاطع لهذه المحاولة من قبل نظام الأسد لاستعادة الشرعية دون إنهاء انتهاكاته الجسيمة لحقوق الإنسان والمشاركة بشكل هادف في العملية السياسية التي تيسرها الأمم المتحدة لإنهاء الصراع.

على العكس، وكما هي العادة، روّج الإعلام الرسمي، المُستلب، لـ “الشعبية منقطعة النظير” التي يتمتع بها الأسد، و”الحب” الجارف الذي يُكنّه له السوريون، وأنه المنتصر على “المؤامرة الكونية”، و”حامي الحمى” و”مُحارب الإرهاب” و”حبيب الملايين” و”أمل سورية”، التي للأسف لم يعد هناك أي بصيص أمل في أن تكون دولة حضارية إنسانية لا همجية.

الأسد الذي بدأ المنافقون له من المسؤولين السوريين، بدءًا من رئيس لجنة الانتخابات، ووزير الداخلية، وأعضاء في البرلمان وغيرهم، يروّجون أنه سيحظى بشعبية وبنسبة تقارب نفس النسبة التي حصل عليها في الانتخابات السابقة، بل من المؤكد أكثر، وفق تعبيرهم، سيحصل بالفعل على أي نسبة يُقررها هو وزوجته وأخوه وبقية أعضاء العائلة وربما معهم الحلقة الصغيرة من قادة الأجهزة الأمنية الذين يجيكون به، لأن الأمر ليس صندوق انتخاب ونسب، بل ورقة تُرسل إلى من سيُعلن النتيجة، ليُعممها دون أن يرمش له جفن نتيجة تزويره الأبلق، وهو الحال الذي عاشته سورية خمسة عقود.

ستقول الأرقام أن هناك بين 5 و10 بالمئة من السوريين لا يريدون الأسد، لكن، بحسبة بسيطة، يمكن إيجاد الملايين الكثيرة ممن لا يريدونه، ولا تُحسب أصواتهم، وكأنهم غير موجودين في الخارطة الانتخابية السورية، فالملايين من أهالي ضحاياه لن ينتخبوه، وكذلك أهالي مئات الآلاف من المختفين في سجونه أو المُغيّبين في أقبيته، والمختفين قسرًا على أيدي أجهزته الأمنية، وأهالي مليوني معاق بسبب براميله وصواريخه العمياء، ويُضاف لهم “بيضة القبّان”، نحو عشرة ملايين من اللاجئين والنازحين والمشردين ممن هربوا من حربه أو بطشه أو دُمّرت بيوتهم، كما لن ينتخبه كل من فقد الحرية بسبب تسلط الأجهزة الأمنية وغياب القانون وفساد القضاء، طوال خمسة عقود.

لن ينتخبه كذلك كل من عانى من طائفيته وتمييزه، وكل من عاني من فساده وفساد منظومته الإدارية والأمنية كلها، ولن ينتخبه معظم السوريين من الأقليات، الدينية والقومية، لأنه تاجر بأقليتهم لتمكين ركائز حكمه، ولن ينتخبه أبناء درعا والزبداني وداريا ودوما وحمص وتلبيسة وبصرى وكفرنبل والحولة وجبلة واللطامنة وبصر الحرير وعدد لا يُحصى من القرى والبلدات التي شهدت مجازر لا إنسانية، وكذلك لن يحصل على صوت واحد من أهالي الرقة وتدمر ودير الزور التي سلّمها لتنظيم الدولة الإسلامية تسليمًا. وفي الغالب، لن ينتخبه جزء كبير من أبناء طائفته الذين شاركوه حربه لأنهم خسروا عشرات الآلاف من أبنائهم في حرب عبثية، ولوّثوا أيديهم بالدماء مقابل بقاء أسرة في الحكم ليس إلا.

في الواقع، تُدرك روسيا، أهم داعم للنظام السوري، أن شرعيته تراجعت حتى في أوساط الموالين له، الذين يُحمّلونه مسؤولية تدهور مستوى المعيشة، ونتيجة اقتناعهم بأنه لا خيار آخر له إلا استمرار دمار سورية، لكن سلبية وضعف المجتمع الدولي، وعدم اتخاذه لأي إجراء رادع للنظام السوري خلال عشر سنوات من الحرب المدمّرة، التي استخدم فيها كل أنواع الأسلحة المحرمة دوليًا، وتفارق مواقف القوى الإقليمية والدولية نظريًا تجاه الحل في سورية، وعدم اتخاذ أي تدابير سياسية مؤثرة لوقف الحرب، يدفع روسيا لتأييد الأسد في انتخاباته حتى لو كانت تُفضّل تأجيلها، فهي تعرف أن هذه الانتخابات لن تجد من يمنعها، وهي على الأقل بالنسبة لروسيا تثبيت للأمر الواقع مدة سبع سنوات أخرى، وهو الأمر الذي يصب في صالح روسيا وليس ضدها في أسوأ الأحوال.

تريد الأمم المتحدة، والولايات المتحدة، والدول الأوربية، ومعهم المعارضة السورية والكثير من الدول المتدخلة بالشأن السوري، أن تجري الانتخابات السورية بشكل حرّ ونزيه، بناء على دستور جديد وفقًا لقرار مجلس الأمن 2254، وتحت إشراف الأمم المتحدة، وبمشاركة مضمونة لملايين اللاجئين والنازحين السوريين، الداخليين أو المنتشرين في أنحاء الأرض، وفي بيئة آمنة ومحايدة، وضمن مرحلة انتقالية واضحة المعالم تنقل سورية إلى نظام حكم ديمقراطي تعددي تداولي للسلطة، لكن كل هذا لن يحصل في الانتخابات الرئاسية السورية الحالية، وليس الفرق طفيفًا بين ما يريده النظام السوري وروسيا، وبين ما يريده المجتمع الدولي والغرب والمعارضة السورية، بل هو فرق شاسع فلكي، ومهما بحثنا، لا يمكن أن نجد قواسمًا مشتركًا بين ما تريده هاتين الكتلتين المتناقضتين من القوى.

بعد عشر سنوات من الحرب التي دمّرت سورية، وتهجير نحو نصف الشعب السوري، وخلخلة المجتمع، وانهيار الاقتصاد، تأتي الانتخابات لتضيف إلى تعقيد الأزمة السورية، ولتُبعد الحل السياسي المُرتجى، لكن في المقابل، لن تمنح الشرعية للنظام السوري، وعليه، فإن إجرائها أو تأجيلها أو إلغائها، أمر واحد بالنسبة للسوريين، فالنتائج معروفة مسبقًا، ولن تُضيف إلى سجل النظام إلا المزيد من الصفات الشمولية.