أنجزت الجزائر أول انتخابات برلمانية لها بعد الإطاحة بنظام بوتفليقة، ويعدّ الأداء مقبولًا بالمقاييس العربية، وكما هو متوقع، فقد عاد حزب “جبهة التحرير” إلى المقدّمة، بإرثه النضالي ودوره في تحرير الجزائر، ولا نستبعد بالطبع الأساليب المخابراتية في الدولة العميقة، وحلّ ثانيًا حركة (حمس) التي تختار توجهًا إسلاميًا، وقد حصلت على 67 مقعدًا في برلمان الجزائر.
فهل سيعود الإسلاميون والعلمانيون للصراع على المجتمع؟! وهل سيكرر الجزائريون غدًا المشهد التونسي القائم اليوم؟ وهل ستكون هذه هي صورة الشهور القادمة بين الإسلاميين والعلمانيين في برلمان الجزائر؟ وهل الصراع بين الإسلامي والعلماني قدرٌ محتومٌ، والانقسام وتبادل الريب هو قدرُ هذه الأمة المسكونة بالتربّص إلى الأبد؟
في الشهور الأخيرة، قدّمت تونس حراكًا مقلقًا للصراع بين الإسلامي والعلماني، عبر النائبة التونسية عبير موسى، وحزبها العلماني المتطرف الذي رأى أن معركته، في مستقبل تونس وقيامها ونهضتها وسعادة أهلها ووحدة أراضيها، تُختصر في قتال التيّار الإسلامي وإهانته واجتثاثه حتى النهاية.
وفي الواقع، نجد أن متابعة النزاع الإسلامي العلماني في دول الديمقراطيات العربية باتت صورة لصراع الأعداء لا لصراع المتنافسين، وأنّ الحرب التي يفترضها التياران باتت حرب وجود لا حرب حدود، وبات تهشيم الخصوم غايةً تعلو على كل غاية، وعليها وحدها تُبنى الأوطان وتُنجز الدساتير.
وقد يكون من المرعب أن نعترف بأن تطور هذا الصراع الحاد قد يأخذ إلى الحالة المصرية التي تطوّرت إلى كسر عظم شامل بين التيارين، انتهى بانتصار الدكتاتورية على الحريّات، وتسخيف مبادئ الثورات والحرية، وتم تعميد هذا الانتصار بشيطنة التيار الإسلامي ونصب المشانق والمقاصل، واختتام الصراع بحمامات دم ظالمة، يراها الاستبداد حلًا وحيدًا لإنهاء الصراع!
وفي الواقع، إنّ غياب دور الدين في الحياة أمرٌ غيرُ ممكن، وسيبقى الخطاب الديني مؤثرًا ومباشرًا على المجتمع، على الأقل لمدة قرن قادم، كما تؤكد مراكز الإحصاء الديني في العالم كافة، ومن المؤسف أن نشير إلى الدور المباشر للخطاب الديني في الحروب القائمة في اليمن والعراق وسورية وليبيا، وفي مثال أكثر واقعية، فقد تمّ تغيير شكل الحياة في لبنان والعراق، بسبب الخطاب الديني، ونتيجة فتوى من المرجعية الدينية؛ وُلد “الحشد الشعبي” الذي ابتلع الدولة في العراق، ووُلد “حزب الله” في لبنان، بكل ما يعنيه هذا الحزب من تغوّل على المجتمع.
قناعتي أن أي تفكير بالاستئصال للإسلام السياسي أو للمنطق العلماني سيكون مغامرة خارج الحياة، وسيطرح بدائل من الفوضى والحرب شديدة الاحتمال، ولن تنهض لهذه البلاد بعدها قائمة.
تريد هذه المقالة تأكيد حقيقة أخرى، وهي أن الخلاف بين الإسلامي والعلماني يمكن أن يكون هو الخلاف السياسي المعتاد في الدول المتحضرة، ولا يوجد أيّ سبب لرسم الحدود الدموية وافتراض الصراع المصيري بين الإسلام والعلمانية.
لقد شهدت الجزائر العشرية السوداء، وهي أيام مريرة قاسية دامية، وقد استخدمها العلمانيون عنوانًا لما يمكن أن يفعله الإسلام بالمجتمع، وتحركت ماكينة إعلامية احترافية لربط المشهد كلّه بالإسلام السياسي، وتحميل الفقه الإسلامي أوزار ما حصل في العشرية السوداء، وأظهر الحراك الثوري حساسية شديدة ضدّ كل ما هو إسلامي، وباتت العبارات مكهربة ومتوترة، يعرفها الجميع ويتجنبها الجميع.
ولكن ذلك كله لم يُقنع الشعب الجزائري بالفكرة الشقيّة التي تربط الإسلام السياسي بالإرهاب، واختار من جديد أن يمنح التيار الإسلامي مكان القوة الثانية في البلاد، بينما لا يزال الإسلام السياسي هو القوة الأولى في المغرب وموريتانيا وتونس، ويتوقع أن يكون له نصيب الأسد في ليبيا أيضًا، وهو في حالة أوضح مشهد تركيا العلمانية نفسها، في حين اختارت مصر الراهنة غلق الباب بقسوة، وإنهاء أي شراكة بين الإسلام السياسي والأحزاب الوطنية، وهو موقفٌ لا يمكن على الإطلاق استمراره إلى ما لا نهاية، ومن المؤلم أن عودته كتيار لن تكون أقلّ حدة وعنفوانًا.
وربما كان سبب حدة العلمانيين، في رفض أي إسلام سياسي، تصريحاتٌ كثيرة من جانب الحركات الإسلامية، ترى أن الديمقراطية عدوانٌ على الشريعة، وأن النظام الإسلامي يتناقض مع الديمقراطية، وفي هذا السياق، انتشرت بشكل كبير شعارات معادية للديمقراطية تعتبرها على نقيض مباشر مع القيم الإسلامية.
في الواقع، لا ينبغي النظر إلى هذه المواقف المتشنجة على أنها بالفعل كفرٌ بالديمقراطيات، أو أنها بالفعل موقف الإسلام السياسي من الديمقراطية، فالإسلاميون يشاركون في كل بلاد البرلمان العربي والإسلامي بقوة وثقة في صناديق الاقتراع، ويحتكمون إلى الصناديق، ولكن هذه المشاعر الغاضبة كانت نتيجة التجارب الفاشلة للأنظمة التي رفعت الشعار الديمقراطي والعلماني، ومارست الاستبداد خلال عقود طويلة، ولو كانت النتائج الديمقراطية ناجحة ومثمرة، لاختلف الموقف كليًا.
إن الشارع المتديّن يحتاج إلى تطمينات أكيدة بأن التحول الديمقراطي لن يؤدي إلى إنتاج قوانين معادية للإسلام، وتنحصر المخاوف عادة في عدد من النقاط، منها زواج المثليين، وإباحة الدعارة، والخمر ولحم الخنزير، ومن المؤكد أنه يمكن تقريب هذه المسافات بتنازلات من الجانب العلماني الذي لا يعدّ هذه المطالب جزءًا أساسيًا في حركات الحرية والبناء.
إن التيارات الإسلامية قابلة للوعي، من خلال طرح الاتساع في الفقه الإسلامي والانتخاب منه على قاعدة الإجماع ومصادر الشريعة الأخرى، وهذا ما مارسته الحركة الإسلامية في تركيا وماليزيا والمغرب، ونجحت في بناء مصالحات متينة بين الحركة الإسلامية والتوجه العلماني والديمقراطي للبلاد.
ولعل هذا التحليل أكثر أهمية وجدية في المشهد السوري، فالصراع اليوم على أشدّه بين العلماني والإسلامي، والمعارضة التائهة تعيش في صراع أيديولوجي غير مفهوم بين الأصالة والمعاصرة، وبين الإسلامي والعلماني، ويشتد تبادل الريب والظنون إلى حد التخوين والارتباط، ويعوق ذلك أي تعاون حقيقي بناء، ويجعل الاصطفاف والتآمر الكيدي طبيعة لازبة لنشاط المعارضة السياسية.
الخلاصة أن التيار الإسلامي والتيار العلماني ليسا إلا خصمَين سياسيين، يمكن أن يجدا ألف مشترك، وعليهما أن يناضلا معًا ضد الاستبداد والظلم، ولو بقيت مرجعية كلّ منهما في أفق مختلف، ولا يوجد أي معنى للانقسام الأيديولوجي في سياق الصراع مع الظلم والاستبداد، وفي النهاية، فعندما يحين الوقت لاعتماد سياسات بناء الدولة، فإننا لن نعيد اختراع العجلة، بل سنقدّم مشاريعنا مؤيدة بالحجج والأدلة، وسيتم التصويت عليها تحت قبة البرلمان، فأما الزّبدُ فيذهبُ جُفاءً وأما ما ينفعُ الناسَ فيمكُثُ في الأرض.