جاء تفشي وباء كورونا في وقت سيئ جدًا للمواسم الزراعية والسياحية، التي تعدّ العماد الاقتصادي الأول ومصدر الدخل الأساسي للسكان السوريين في الجولان المحتل، حيث بدأت تداعيات فيروس كورونا تقضي على ما تبقى من آمال يعلقها المزارعون السوريون على إنتاجهم الزراعي، لهذا العام، الذي يعاني بالأصل مشاكل خطيرة تهدد استمراره في ظل السياسية الإسرائيلية، التي تستهدف المزارعين السوريين في الجولان المحتل، نتيجة منافسة منتوجات المستوطنات الإسرائيلية، وتحكمها في السوق.

تُعدّ فواكه الصيف، وبخاصة الكرز، من الركائز الاقتصادية الأساسية، ومن المعالم السياحية الممتعة بحد ذاتها في الجولان المحتل، حيث تبدأ الاستعدادات لموسم الكرز مباشرة بعد انتهاء موسم الثلج في نيسان/ أبريل من كل عام، عندما تُزين أزهار الكرز الجميل المشهد الطبيعي الأبيض، وتستمر طوال شهري أيار/ مايو، وحزيران/ يونيو، مع نضج الثمار وبدء موسم القطاف.

وتغطي زراعة الكرز في مناطق الجولان المحتل نحو 3500 دونم من أراضيه الزراعية التي تبلغ 50 ألف دونم (هي فعليا 6 %) من الأراضي الأصلية الواقعة تحت الاحتلال فقط، والخاضعة لسيطرة المواطنين السوريين. ويبلغ الإنتاج السنوي للكرز في الجولان المحتل نحو 2000-2500 طن سنويًا، في حين تقدّر الدورة الاقتصادية لموسم الكرز نحو 200 مليون شيكل. والأرقام تتزايد كل عام، وفقًا لاتساع هذا المرفق الاقتصادي، فيما تحتل زراعة التفاحيات نحو 20 ألف دونم من أصل 50 ألف دونم من مجمل مساحة الأراضي المزروعة. أما المستوطنات الإسرائيلية فإنها تسيطر على 750 ألف دونم، تشمل مجموعة متنوعة من الفواكه، من ضمنها الكرز والفراولة والتوت والتفاح والخوخ والنكتارين.

ومع احتلال الجولان في العام 1967، وقدوم المهاجرين اليهود للاستيطان فيه، بدأت زراعة الكرز بكميات كبيرة، خاصة في الأماكن المرتفعة والباردة، حيث تدعم الحكومة الإسرائيلية المزارعين اليهود في مستوطنات شاعال (المقامة على أنقاض قرحتا) ومستوطنة عين زيفان (المقامة على أنقاض عين الزيوان)، ومستوطنة ونفي أتيب (المقامة على أنقاض جباثا الزيت)، ومستوطنة مروم غولان (المقامة على أنقاض قرية المويسة) في المناطق الشمالية من الجولان، حيث يبلغ إنتاج الكرز فيها نحو 7500 طن سنويًا.

وقد لاقت هذه الزراعة رواجًا واسعًا في السوق الإسرائيلية، خاصة ما بعد سنوات التسعينيات، من قبل المهاجرين الروس الذين اعتادوا أكلها وزراعتها في بلادهم، بعكس الإسرائيليين الذين تعرفوا على ثمرة الكرز بعد احتلالهم للجولان، وبقي استهلاكهم لها محدودًا، طوال ما يزيد عن عقدين من الزمن.

يبدو أن تداعيات أزمة كورونا، بالنسبة إلى السكان السوريين في الجولان المحتل، ستبدو ملحوظة ابتداءً من أيار/ مايو الجاري، مع بدء قطاف أشجار الكرز وجني المحصول.

الكرز جزء من الصراع على الهوية

في قرية “باب الهوى” السورية المدمرة، التي صادرت أراضيها مستوطنة مروم غولان الإسرائيلية، زعم علماء آثار إسرائيليون أنهم اكتشفوا بقايا شجرة كرز بري قديمة، تعود إلى فترة الاحتلال العثماني إبان حكم السلطان عبد الحميد الثاني، الذي سمح بقدوم اللاجئين الشركس والشيشان الهاربين من المجازر في روسيا إلى الجولان، وأقام لهم قرًى مبنية من الحجارة البازلتية مسقوفة بالقرميد، ومنحهم أراضي شاسعة وشجعهم على زراعتها بأشجار الفاكهة، والأشجار المثمرة، للمساهمة في تعزيز حكم الإمبراطورية العثمانية في الجولان، وجبل الشيخ “الحرمون” الذي شهد العديد من الانتفاضات والثورات لضعضعة أركان الحكم العثماني، ووقف المظالم التي عاناها السكان آنذاك..

علماء الآثار الإسرائيليون يعودون مرة أخرى إلى لعبة الاكتشافات الأثرية، والادعاءات التوراتية حول “الجذور العميقة لشعب إسرائيل التاريخية”، في هذه المنطقة المقدسّة، كجزء من السياسة الاسرائيلية، وتحاول جاهدة أن تختلق اكتشافات مزعومة، لتثبت عبرانية ويهودية المنطقة، لتبرير الاستيطان والاحتلال في الجولان السوري المحتل، عبر خلق روايات مزعومة تفتقر إلى الإثبات العلمي، حول اكتشافاتهم لأماكن وبقايا تاريخية في الجولان المحتل، حيث يحوّرون مجرى أي حدث بما يخدم أهدافهم الاستيطانية، لانتزاع شرعية مفقودة لاحتلالهم، وإن كان ذلك بالتزييف وتغيير الوقائع والشواهد التاريخية، تجاوبًا مع الفكر الصهيوني للدولة الإسرائيلية التي تزعم هذه الادعاءات.

الكرز كلؤلؤة على صدر الجولان

يبدو أن تداعيات أزمة كورونا، بالنسبة إلى السكان السوريين في الجولان المحتل، ستبدو ملحوظة ابتداءً من أيار/ مايو الجاري، مع بدء قطاف أشجار الكرز وجني المحصول، الذي كان يشهد خلال السنوات السابقة وقبل بدايته حركة سياحية نشطة، من السائحين والزوار للتمتع بزهور الكرز الأبيض، والأجواء الساحرة للطبيعة الجولانية في هذا الوقت من السنة، وزيارات تفقدية للتجار العرب واليهود، لمعاينة الأشجار وتشكل الثمار ووفرتها. إلا أن السيناريو الأسوأ، وهو الأكثر احتمالًا، أن الجولانيين سيكونون هذا العام مع موسم وفير جدًا من الثمار، بينما الحركة السياحية شبه معدومة، الأمر الذي يهدد بكساد المنتوج العام من الثمار لهذا الموسم، وبخسائر اقتصادية هائلة، إذ لا يبدو أنه سيتم إيجاد لقاح وعلاج لهذا الفيروس خلال الأسابيع القليلة، كي يتمكن السيّاح والتجار من القدوم بحرية إلى الجولان.

إن أكثر ما ُيقلق المزارعين في الجولان، بعد شهرين من أزمة كورونا، هو استعادة انتعاشهم الاقتصادي، وحركة التجارة بين بساتينهم ومروجهم التي تبدو اليوم شبه مهجورة، يهددها الكساد، وهبوط الأسعار الحاد، فهم اليوم أمام أحداث دراماتيكية وغير مسبوقة، وكثير من الناس يشعرون بالمرارة والقلق والخوف، ليس بسبب أزمة الفيروس المتفشي، إنما بسبب الأزمة الاقتصادية التي من الممكن أن تؤدي إلى آثار نفسية ومادية لكثير من المزارعين، الذين تشكل الزراعة مصدر دخلهم الوحيد، فإن لم يتوفر المال، بسبب الجمود والكساد وسداد فواتير المياه والدواء وأجور العمال، وبسبب الهزات الارتدادية التي سيخلفها الفيروس في المستقبل القريب من تأثيرات اقتصادية ومالية واجتماعية، فلن تكون هناك حياة صحية للناس، خاصة أن الوضع سيزداد سوءًا، بسبب الإجراءات الوقائية التي تفرضها الحكومة الاسرائيلية على الناس، الأمر الذي سيثقل كواهلهم، بسبب عدم إيجاد عمال لجني المحصول من مناطق خارج الجولان، خاصة مع اشتراط توفر مستلزمات الوقاية التي تقتضيها القوانين الجديدة من إجراءات التعقيم ولبس الكمامات الواقية، وتعليمات التباعد الاجتماعي.

أمام هذه الارتدادات الاقتصادية التي تقلق مواطني الجولان السوري المحتل؛ من الضروري البحث عن بدائل، وإن كانت مؤقتة، بابتكار تقاليد جديدة تحاكي الواقع المزري الذي يتحكم في لقمة عيشهم، والتوجه إلى الزراعات المنزلية، لإنتاج استهلاكهم الزراعي، تحسبًا لأي طارئ في المستقبل القريب، خاصة في ظل انعدام أي دعم اقتصادي لهم، في الوقت الذي يحظى سكان المستوطنات الإسرائيلية بدعم الحكومة الإسرائيلية، وتعويضهم عن كامل الخسائر الاقتصادية المتوقعة خلال هذا الموسم، حيث تمنح الحكومة الإسرائيلية تعويضات موازية لمساحة الأرض المزروعة التي منحتهم إياها الدولة، وللمردود الاقتصادي المتوقع للإنتاج السنوي، بخلاف الواقع لدى المزارعين السوريين الذين يتجنبون تسجيل أراضيهم وأملاكهم في الدوائر الرسمية الإسرائيلية، تجنبًا لدفع الضرائب الباهظة والعديدة التي تجنيها الدولة من المزارعين المقيمين في الجولان، دون اعتبار أن ما يملكونه ليس منحة أو منّةً، إنما هو إرثٌ متوارث أبًا عن جد.