حاول النظام السوري الاستفادة من نتائج الحرب التي جرت عام 2006، بين إسرائيل و”حزب الله”، والتي لم تُشكّل نتائجها بالتأكيد نصرًا عسكريًا لـ “حزب الله”، ولا لإسرائيل أيضًا، كما هي العادة في حروبها مع العرب، بل تخللتها نكسات عسكرية إسرائيلية وإخفاق في تحقيق أهداف إسرائيل بالوسائل العسكرية، وعلى كل حال، اعتبرت الشعوب العربية والدول العربية نتائج الحرب نصرًا لـ ”حزب الله” والمقاومة، لأن إسرائيل لم تنتصر ولم تقضم أرضًا عربية أخرى، ولأن الدعاية العربية الرسمية طغت على كثير من الحقائق، واستغل النظام السوري هذا النصر الوهمي، واعتبر نفسه شريكًا في النصر، لما له من علاقات تعاون سياسية وعسكرية مع “حزب الله” في ذلك الوقت، واعتقد الرئيس السوري آنذاك أن صمود “حزب الله” العسكري سيقوّي موقفه داخل لبنان، ويضعف الفئات السياسية الأخرى المعادية لسورية، فهاجم من سماهم بجماعة 17 أيار/ مايو، بتهم عديدة، منها أنهم متواطئون مع إسرائيل، كما وجه نقدًا مبطنًا لبعض الحكام العرب، بأنهم مترددون و”أنصاف رجال”، مفترضًا أيضًا أن حرب المقاومة ستضعف الأنظمة العربية، خاصة الخليجية منها، ومن نقص في الوعي السياسي وقصر نظر، اعتبر نفسه أنه ينطق باسم الشعوب العربية والشارع العربي. وعلى أي حال، رأى النظام السوري أن نتائج هذه الحرب ستسجل نقاطًا لصالحه داخل لبنان وفي البلدان العربية الأخرى.

اعتقد النظام السوري منذ اشتعال حرب 2006 أنها ستكون ذات نتائج إيجابية، لبنانيًا وسوريًا وإقليميًا وحتى دوليًا، نتائج تصبّ معظمها في صالحه، وأنها ستغير اللعبة السياسية القائمة في لبنان، من خلال دور كبير سيلعبه “حزب الله” في السياسة الداخلية اللبنانية، بالتعاون مع أنصار سورية من تيارات سياسة وأحزاب، وستضعف التكتل الحكومي، وهو ما يسمى بتكتل الأكثرية، أو تكتل 14 آذار/ مارس، وهذا من شأنه أن يُعيد الحياة إلى الدور السوري في لبنان من جديد، ويعطيه القدرة والقوة والتأثير على الحياة السياسية اللبنانية، أو على الأقل سيخفف الهجوم على سورية الذي بدأ بعد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، خاصة أن تكتل 14 آذار/ مارس اتّهم سورية بتهم عديدة، منها اغتيال الحريري ونهب لبنان خلال تسعة وعشرين عامًا من وجودها فيه، فضلًا عن اتهامه للنظام السوري بالنظام المستبد والشمولي والطائفي، وانتصاره للمعارضة السورية وخاصة للسجناء السياسيين في ذلك الوقت، وبالإجمال مهاجمة هذا النظام، كلما سنحت له الفرصة، حيث كانت أحزاب الأكثرية اللبنانية تناصب سورية العداء، وتُقلق نظامها السياسي، وتُشكّل حليفًا للقوى الأوروبية (فرنسا) وللولايات المتحدة المعادية للنظام السوري وتحرضها عليه.

في المجال الإقليمي، راهن النظام السوري ذلك الوقت على أن صمود المقاومة سيقوّي موقف سورية تجاه العرب الآخرين، خاصة تجاه مصر والسعودية والأردن، تلك الدول التي اعتبرت حرب “حزب الله” مع إسرائيل “مغامرة”، واستنكرت أن يُعطي “حزب الله” لنفسه حق إعلان الحرب دون معرفة الدولة اللبنانية، واعتقد رأس النظام السوري بشار الأسد أن هذه الدول العربية ستعود بعد حرب 2006 مرغمة، لتتعامل مع سورية كطرف أساسي في معادلة الشرق الأوسط وفي النظام العربي القائم، فضلًا عن افتراضه أن الحرب ستُجبر الولايات المتحدة وأوروبا على الاعتراف بسورية شريكًا في المنطقة، مما يُشكّل بداية لفك الحصار عنها، اقتصاديًا وسياسيًا ودبلوماسيًا، ولهذه الأسباب مجتمعة، نظر الرسميون السوريون إلى نتائج الحرب نظرة متفائلة، وتوقعوا أن يحصدوا بعض إيجابياتها، وكانوا مقتنعين بأن أي قرار سيتخذه مجلس الأمن سيأخذ دور سورية بعين الاعتبار، ويعيدها إلى ملعب الشرق الأوسط من جديد، كدولة ذات شأن وأهمية يُحسب حسابها، لكنّ النظام السوري، كما في كثير من القضايا السياسية الاستراتيجية، لم ير أبعد من أنفه، وسار وفق رغباته لا وفق الواقع، وراح بعيدًا في وهمه من جرّاء قلّة الخبرة السياسية لرأس النظام ومن حوله.

بعد اتخاذ قرار مجلس الأمن رقم 1701، أخذ النظام السياسي السوري ينظر بريبة وشك إلى إمكانية تحقيق الأهداف السابقة أو الوصول إلى النتائج السابقة، فالقرار هدف إلى حلّ النزاع الإسرائيلي – اللبناني، ووقف إطلاق النار، ووقف “حزب الله” هجماته الصاروخية نهائيًا على إسرائيل، وطالب حكومة لبنان وقوة الأمم المتحدة بنشر قواتهما معًا في جميع أنحاء الجنوب، وبسط الدولة اللبنانية سيطرتها على كل لبنان، ومنع أي مظاهر مسلحة في منطقة الخط الأزرق ونهر الليطاني، بخلاف ما يخص حكومة لبنان وقوة الأمم المتحدة، ونزع سلاح كل الجماعات المسلحة في لبنان، ومنع وجود قوات أجنبية في لبنان دون موافقة حكومته، وكذلك منع مبيعات أو إمدادات الأسلحة إلى لبنان، عدا ما تأذن به حكومته.

الخلاصة أن القرار رقم 1701 حقّق لإسرائيل ما لم تستطع تحقيقه من خلال الحرب، ولم يُضعِف جماعة 14 آذار/ مارس اللبنانية، بل ربما زادها قوة، لأنها وقفت خلال الحرب موقفًا متضامنًا، وبدأت بعد انتهائها تطرح موضوع “حزب الله” ودوره في لبنان وسحب سلاحه، بحريّة وجرأة أكثر من السابق، ولم يستطع أنصار سورية في لبنان حتى “حزب الله” تحقيق مكاسب داخلية واضحة، كما لم يُشرك المجتمع الدولي سورية جديًا في المحادثات، لا قبل اتخاذ القرار ولا بعده، وازدادت الخلافات بين سورية والبلدان العربية الأخرى، وبدأ بعض الحكام العرب يتهمون النظام السوري بإقامة محور مع إيران مُعادٍ للبلدان العربية، وأصبحت سورية في النهاية خارج اللعبة، بفضل قصر نظر قيادتها وسوء تقديرهم وطفولتهم السياسية، وربما بسبب هيمنة رغباتهم على العقل.

لم يعد بإمكان “حزب الله”، بعد قرار مجلس الأمن، القيام بعمليات عسكرية في لبنان، وهذه خسارة لسورية التي كانت تستفيد من هذه العمليات لتبقى لاعبًا أساسيًا في المنطقة، ولتبقى تتسلح بمحور المقاومة والممانعة، الذي ابتزّت به الدول العربية لأربعة عقود، وحصلت على أموال مساعدات عربية لا محدودة من وراء هذا المحور، كما انتشر آلاف من أفراد الجيش اللبناني على الحدود اللبنانية – السورية لمنع مرور أسلحة أو مساعدات إلى “حزب الله” أو المنظمات الفلسطينية الموجودة في لبنان والموالية لسورية أو المتعاونة مع “حزب الله” أو المقرّبة من إيران، وأدى القرار المشار إليه أيضًا إلى تقوية الدولة اللبنانية والحكومة اللبنانية التي تقودها الأكثرية المناهضة لسورية، ولذلك بدأ أنصار سورية يُطالبون بتشكيل حكومة لبنانية جديدة، وهذا ما لم تكن تريده سورية ولم يكن ليتوافق مع رغباتها، وعلى كل حال، من الخطأ الاعتقاد بأن المسألة اللبنانية في علاقتها مع سورية قد وصلت إلى نهايتها بعد ذلك القرار، إذ ظلّت القوى الصديقة لسورية قوية، شعبيًا وعسكريًا، ولم يتم نزع سلاح “حزب الله”، كما لم يمتثل الحزب لمضمون القرار 1701 فيما يتعلق بشراء السلاح، إذا استمرّ، من خلال سيطرته على الحدود اللبنانية – السورية بالقوة،  في تهريب السلاح بكميات غير محدودة، حتى السلاح الصاروخي القادم من إيران بكثافة وبعدد كبير، كما لم تستطع الدولة اللبنانية فرض سيطرتها على كل الأراضي اللبنانية، بسبب ضعفها سياسيًا وعسكريًا.

بقيت سورية في ذلك الوقت تُراهن على تغير الحكومة اللبنانية، أو على حل البرلمان لصالح أكثرية جديدة كانت تتوقع سورية أن يكون عمادها “حزب الله”، لتقوم تلك الحكومة التي عمادها “حزب الله” والموالية لسورية بالوقوف في وجه بعض القرارات الدولية، أو الانسحاب من بعض الالتزامات مع المجتمع الدولي، وعلى رأسها المحكمة الدولية في قضية الحريري، التي كانت سورية تسعى بكل ثقلها لإلغائها أو التهرب منها أو وقف عملها، حتى لا تصل الاتهامات إلى مسؤولين أمنيين سوريين، ولم تقطع سورية أملها في قدراتها في لبنان وفي دور ما تلعبه يومًا.

لم يكن دعم سورية لـ ”حزب الله” وليد ذلك الحدث، إذا بدأ دعم سورية له منذ تأسيسه عام 1982، من قبل نظام حافظ الأسد نزولًا عند تمنّيات إيران ورغباتها، وساعدته سورية منذ ذلك الوقت في تصفية المقاومة اللبنانية الأخرى، كمقاومي الحزب الشيوعي والحزب السوري القومي وغيرهما، ليستأثر الحزب بملف المقاومة وحده، وليتاجر بهذا الملف وحده دون شريك، وساعدت سورية في تمرير المساعدات الإيرانية إلى الحزب، ودعمت سورية “حزب الله” دعمًا كبيرًا خلال حرب 2006، وكانت تعتبر أن معركة الحزب معركتها ونصره نصرها، وظلت تعتقد أن نصر “حزب الله” لا يفيدها في لبنان فقط، وإنما أيضًا يُبقي مسألة احتلال الجولان مطروحة في التداول، ويبقي فوهة المال الوافد من الدول العربية بحجة مواجهة إسرائيل مفتوحة، ليستفيد منها رأس النظام السوري وزبانيته وعملائه، من دون أن يستفيد منها الشعب السوري إطلاقًا، وليستمر قمع السوريين في الداخل والضغط عليهم، سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا، بحجة المقاومة والصمود. وقد صرّح أكثر من مسؤول سوري بأن حلّ قضية مزارع شبعا، وهي أرض لبنانية محتلة منذ عام 1967 اعترفت سورية أنها لبنانية، يرتبط بحلّ مشكلة الجولان، وأرادت سورية ربط قضية مزارع شبعا بقضية الجولان، لئلا تبقى وحيدة في مواجهة إسرائيل من جهة، وهي أضعف منها بمئات المرات، ولئلا تبقى دون شمّاعة تُعلق عليها كل القمع والإفقار والنهب الداخلي، ولئلا تتوقف عن تضخيم المؤسسة الأمنية بحجة إسرائيل، فيما كانت تُضخّمها لمواجهة أي تمرد من الشعب السوري نفسه، وهو ما حصل فيما بعد عام 2011 وما زال مستمرًا حتى اليوم.

في تلك الفترة، كثر تأكيد المسؤولين السوريين، بدءًا من رأس النظام بشار الأسد، وصولًا إلى الصحف السورية الرسمية وشبه الرسمية، أن استراتيجية سورية تجاه إسرائيل هي الوصول إلى سلام عادل، بينما كان يُجمع مراقبون، وتعرف الدول المعنية عربية وغير عربية، أن سورية تقيم علاقات غير عدائية مع إسرائيل منذ حرب 1973، وأن حافظ الأسد سلّم الجولان تسليمًا لإسرائيل، ضمن صفقة غامضة وغير مُعلنة، وأن النظام السوري منع إطلاق النار والعمل المسلح مهما صغر شأنه انطلاقًا من جبهة الجولان أو انطلاقًا من الأراضي السوري، وأن إسرائيل ترى فيه جارًا غير مؤذٍ إن لم يكن بالفعل مفيدًا، وأنه خير حارس لحدودها، بالرغم من أنه ظلّ يجاهر بأنه لن يعقد صلحًا دون استرجاع الأرض، بمنطق الأرض مقابل السلام، بعد أن صالح معظم العرب إسرائيل، وأقاموا معها علاقات دبلوماسية أو فتحوا مكاتب لرعاية المصالح، وظلّ النظام السوري يردد هذا الكلام، ولم يحصل السوريون لا على السلام ولا على الأرض.

كانت السياسة السورية المُعلنة قبل عام 2011 تقول إن إسرائيل دولة معتدية ولا تريد السلام ولن تقبل إعادة الأرض المحتلة، وإن الشرعية الدولية غير قادرة على إلزامها بالامتثال لقراراتها، وتعتقد أن سياسة الإدارات الأميركية المتتابعة مؤيدة لإسرائيل بالمطلق، سواء منها الإدارات الديمقراطية أم الجمهورية، وتقول إن إيجاد تحالف إقليمي، يهدف للممانعة ورفض الإملاءات الإسرائيلية والأميركية، كفيلٌ بتعديل ميزان القوى الراجح لصالح إسرائيل، ولذلك، وبهذه “الحجّة” والذريعة بالذات، متّنت علاقاتها مع إيران، الدولة الغنية والقوية، ومع ما دُعي بالمقاومة اللبنانية ممثلة بـ ”حزب الله”، وبالمقاومة الفلسطينية، واستقبلت فصائل المقاومة الفلسطينية في دمشق وساعدتها، مفترضة أن هذا التحالف السوري – الإيراني – الفلسطيني – اللبناني كفيل بإرباك إسرائيل ومنع الولايات المتحدة من فرض حلول لغير صالحها، وكفيل أيضًا بالاعتراف بالنظام السوري كحليف مطلوب ولو من خلف الكواليس، وتعديل ميزان القوى العسكري من خلال حلف شيطاني من نوع آخر، باعتبار أن الحرب التقليدية متعذرة، وباعتبار أن شرعية النظام السوري غير مستمدة من الشعب، ويحتاج إلى أي بديل عن هذه الشرعية لضمان استمراره في سدّة الحكم والتحكم في سورية.

ولأنّ النظام السوري غير قادر على المواجهة العسكرية المباشرة مع إسرائيل، وغير قادر على التحالف مع الولايات المتحدة، بسبب سلوكه الباطني المتغير والمتبدل وفق الأهواء والأوهام، وغير قادر أيضًا على أن يكون جامعًا لشعبه وقائدًا حقيقيًا ديمقراطيًا؛ فقد وجد أن أفضل الطرق للمواجهة هي دعم مقاومة “حزب الله” في لبنان ومقاومة “حماس” في فلسطين، وتجنب المواجهة المباشرة مع إسرائيل، والتحالف مع إيران بأي ثمن لتحقيق استمراره واستقراره.

أيّدت السياسة السورية الثورةَ الإيرانية بقيادة الخميني منذ قيامها عام 1979، ورأت فيها عاملًا يضغط على إسرائيل وعلى العراق، الذي كانت علاقاته سيئة للغاية مع سورية، حيث وصلت إلى قطع تبادل التمثيل الدبلوماسي والعلاقات الاقتصادية بين البلدين، وإلى منع سفر السوريين إلى العراق واستقبال آلاف اللاجئين السياسيين العراقيين، بهدف إضعاف النظام العراقي وصولًا إلى إسقاطه.

لقد تبنّت الثورة الإيرانية شعار تصدير الثورة، ومن المعروف أن هذا التصدير يتم من خلال الطائفة الشيعية الموجودة في العراق ولبنان وسورية وبعض دول الخليج الأخرى، وهو موجّه إلى الأنظمة العربية القائمة، وكان الموقف السوري المتحالف مع إيران ثمينًا للغاية، بالنسبة إلى إيران، باعتبار أن سورية بلد عربي، مما يساعد في نفي أن الحرب فارسية – عربية، أو أن إيران بعد الثورة معادية للعرب، وتمتنت في إثر ذلك العلاقات السورية – الإيرانية في الجوانب السياسية والاقتصادية، وفتحت أبواب سورية أمام الإيرانيين لتجديد علاقاتهم مع الشيعة واهتمامهم بالمقامات الدينية والأماكن الدينية الشيعية، وقدّمت إيران النفط والقروض إلى سورية، وتطورت العلاقة بشكل درامي متصاعد بعد بدء الثورة السورية، عسكريًا واقتصاديًا وسياسيًا، وظلّت هذه العلاقات متينة وقوية ومتعددة الجوانب، حتى الآن. إلا أن حافظ الأسد كان يحرص على أن تكون العلاقات ندّية ومتساوية بين البلدين، ولم يكن يحقق لإيران أهدافها كلها أو يؤيدها في كل سياساتها العربية خاصة، وكان هناك دائمًا حاجز أو غلالة بين الأهداف الإيرانية في البلدان العربية وحجم التأييد السوري، على عكس وريثه الأسد الابن، الذي باع لها كل شيء حتى القرار السياسي.

لم تتغير العلاقة الاستراتيجية بين سورية وإيران في عهد الرئيس بشار الأسد، من حيث النوع، بل تغيّرت من حيث الكم، والظروف هي التي تغيرت، فغيرت معها توازن العلاقة السورية – الإيرانية. فقد تعافت إيران بعد انتهاء الحرب مع العراق، واستعادت قدراتها الاقتصادية والسياسية، ولعبت دورًا مهمًا في أفغانستان، وساعدت الولايات المتحدة بشكل غير مباشر في احتلال العراق، وعاد اللاجئون السياسيون العراقيون من إيران لتولّي السلطة في العراق، وعاد معهم عشرات الألوف من المسلحين من أنصارهم ومن الحرس الثوري الإيراني، وصارت إيران قوة فاعلة في العراق، وربما صارت أقوى القوى السياسية فيه، وهيمنت إيران على لبنان، وضاعفت مساعداتها لـ ”حزب الله”، فأصبح قوة بشرية وتنظيمية وعسكرية مهمة، ومتنت علاقتها معه بحيث أصبح حليفًا حقيقيًا لها وذراعها في لبنان، كما متنت علاقاتها مع القوى الشيعية في دول الخليج، ووطدت علاقاتها مع المنظمات الفلسطينية التي تتحكم في مصير غزّة، وزوّدتها بالمال والسلاح، وفي الوقت نفسه، ضعفت سورية، اقتصاديًا وعسكريًا وسياسيًا، ولم تعد تلعب دورًا ذا قيمة في النظام العربي، ونشأت خلافات بينها وبين الدول العربية، وخسرت أوراقها في لبنان بعد اغتيال الحريري وسحب جيشها منه، فأصبحت إيران حليفها الرئيس، لكن بعد اختلال التوازن في علاقاتها، وصار لإيران الصوت الأقوى، وتحولت العلاقات إلى محور سياسي يواجه المحور العربي، ويواجه الشعب السوري، ويواجه العزلة السورية، وعلى الرغم من هذا التحالف، فإن أوساطًا سورية عديدة تتوقع إمكانية تخلي إيران عن تحالفها مع سورية، إذا عقدت صفقة مع الولايات المتحدة تتقاسمان فيها المصالح، أو إذا توصلت مع روسيا إلى صيغة حلّ يضمن لإيران مصالحها الاقتصادية وامتدادها السياسي وتمددها الاجتماعي، فيما كان يأمل قبل الثورة السورية نفرٌ قليل من السوريين العروبيين أن تستطيع سورية إعادة علاقاتها العربية والعودة إلى محيطها العربي ومشاركتها النظام العربي على حساب علاقتها مع إيران، انسجامًا مع قناعات شعبها ومصالحه، لكن كل هذا لم يتحقق، وزادت الأمور سوءًا بعد استعانة الأسد الابن بإيران لقتل شعبه وقطيعته الكاملة مع الدول العربية الفاعلة كلها.

لا شكّ في أن النظام السوري، بعد رهانه طوال خمسة عقود على العلاقة مع إيران، بات يعاني عزلة إقليمية ونبذًا دوليًا، وصعوبات داخلية عديدة في مختلف المجالات، وحالة رفض كامل من شعبه، وقد خلّف وراءه بلدًا مدمّرًا، واقتصادًا منهارًا، وبنية اجتماعية مخلخلة، وتسبب في تشوه الهوية الوطنية، ومهما كابر، وهو قلق بلا شك على مصيره، فسيندم في وقت قريب على العلاقة بينه وبين إيران، خاصة مع الظروف والأوضاع السياسية القائمة في المنطقة الآن، والتي لا ولن تسير لصالحه، والظروف المحيطة لا تدعوه للارتياح، خاصة في العراق ولبنان، ومع إصرار الإدارة الأميركية على مقاطعته ومحاصرته، وعدم استطاعته تجديد العلاقة مع دول المجموعة الأوروبية أو قبولها مشاركته، وتناقض سياساته مع سياسات الدول العربية الرئيسية، وبات يشعر وكأنه وحده ضد الجميع، في وقتٍ هو غير قادر نهائيًا حتى على مواجهة طرف واحد.