قليلون في سورية مَن لم يسمعوا باسم ميشيل كيلو، فقد طاف اسمه على حقبة طويلة من تاريخ سورية المعاصر، ليس من موقع سلطوي، بل من موقعه كمثقف مستقل خارج السلطة وكمعارض لها. كثيرون غيره دخلوا معترك الشأن العام السوري، كثيرون غيره كتبوا وواكبوا واعتُقلوا، وكانوا أكثر شجاعة منه في معارضتهم للنظام، لكن اسم ميشيل كيلو بقي الأكثر لمعانًا. لا يوجد في تاريخ المعارضة السورية من حقق الشهرة التي تمتع بها ميشيل كيلو.
هل لأنه لم يلتزم بحزب محدد، فلم يُحتجز اسمه في خانة حزبية محددة؟ هل بسبب نشاطه وحضوره الدائم في مختلف أنشطة المعارضة؟ هل لأنه لم يكن دوغمائيًا في نظرته إلى الواقع السياسي، أي لم يكن ضعيفًا أمام سطوة فكرة مسيطرة تجعل معتنقيها يعتقدون أنهم مُخلِّصون، ويتحولون في إيمانهم هذا إلى عبيد “مُخلصين” للفكرة؟ لقد استطاع الرجل، مع آخرين، أن يرى قصور التصور الاشتراكي، وأن يرى الديمقراطية هي الخيار الذي يمكن أن يخرج بالمجتمع السوري من جورة الاستبداد والعطالة. ربما كان ذلك بتأثير من إلياس مرقص “معلمه وصديقه”، هكذا يصفه في إهداء روايته أو “قصته الطويلة”، كما يعرفها (دير الجسور).
ولكن التحول الديمقراطي المبكر (أي قبل انهيار الاتحاد السوفيتي) لميشيل كيلو، وضعه أمام أسئلة عويصة، مثل العلاقة مع الجماعات الإسلامية، والعلاقة مع النظام (ليس بوصفه سلطة قمع، بل بوصفه كتلة مصالح لا يمكن لديمقراطي ألّا يعترف بها)، وأيضًا العلاقة مع الشارع من موقع ديمقراطي، أي غير وصائي.
لقد ظهر أن التحرر من سطوة الفكرة الاشتراكية يلقي على كاهل المرء أعباء أثقل، وكأن هذا التحرر ليس إلا طريقًا إلى معترك نضالي فعلي شديد التعقيد. الفكرة الاشتراكية كانت تريح معتنقيها من هذه الأعباء، فهي في صيغتها البسيطة أو المبسطة تقول (لا) كبيرة، للإسلاميين وللنظام، وتقول (نعم) كبيرة للشارع أو الشعب أو الجمهور، بوصفه مكمنًا لثورة اشتراكية، أو سبيلًا إلى السلطة التي تكون وسيلة تمارس “الطليعة الاشتراكية” عبرها وصاية على شعب جاهل، شعب قادر على الثورة، ولكنه جاهل بمصالحه.
صحيح أن هذا المسار الذي سمي اشتراكيًا، يلقي على عاتق رواده أعباء نضالية كبيرة وخطيرة، لأنه يضعهم في مواجهة حادة مع قوى ثقيلة، وأنه مسار يختار رواده من الشجعان ومن ذوي الكفاحية العالية، لكن المسار الديمقراطي لا يقلّ صعوبة، وإن كان يتطلب خصالًا أخرى من رواده، مثل القدرة على الاعتراف بالآخرين وفهم مصالحهم وأخذها في الحسبان، والتخلي عن مبدأ السيطرة، وعن فكرة الطليعة، وتخفيف العدائية تجاه المختلفين… إلخ، وهذه خصال أقلّ توفرًا ولكنها أكثر جدوى.
كان ميشيل كيلو من رواد المسار الديمقراطي، وقد تكبّد خسائر على هذا الطريق. لم يكن كيلو حازمًا في نظرته الى نظام الأسد، يمكن القول إنه كان ذا ميل إصلاحي، وكان لا يمتنع عن العلاقة برجالات من السلطة أو من محيطها غير الرسمي. على هذا المستوى، لم يكن تطهريًا. كان يعتقد أن السلطة ليست صخرة صماء بلا خطوط تباين، يمكن ملاحظتها والاستفادة منها والولوج إلى معطيات مفيدة، وحتى ممارسة التأثير فيها. لم يكن وحيدًا في هذا التصور، ولا سيما بين المثقفين، ولا يمكن إنكار هذا التصور على أحد. غير أن خطورة هذه المعارضة اللاعدائية، إذا جاز القول، تكمن في الجذر العدواني للسلطة الأسدية التي ترتد بعنف على غير المتسقلين، فما بالك بالمستقلين أو الناقدين أو أصحاب الطروحات الديمقراطية. خسر ميشيل كيلو في “إصلاحيته” هذه، أي في افتراضه وجود إمكانية للعمل ضمن حدود النظام، ثقة شريحة من المعارضين الجذريين الذين لم تكن معارضتهم أكثر جدوى، على أي حال.
شيء مشابه يمكن ملاحظته في علاقة ميشيل كيلو مع الإسلاميين ونظرتهم إليهم. من السهل الخلاص من موضوع الإسلاميين برفضهم جملة وتفصيلًا، وقد يكسب أصحاب هذا الموقف صفة الوضوح والجذرية والثورية الحقة. غير أن هذا الموقف، بطبيعة الحال، لا يحل المشكلة، وهو نفسه موقف الاستبداد، ولكن من موقع معاكس. القاسم المشترك بين الموقفين هو إلغاء المشكلة، بإنكار حق أصحابها بالوجود هنا، أو بمحو أصحابها بالقمع المادي هناك.
لم يذهب ميشيل كيلو في ذاك الطريق السهل بالتعالي على المشكلة أو القفز عنها، بل قاده تصوره الديمقراطي إلى الانفتاح على الإسلاميين، وكان في هذا جزءًا من تيار يساري سوري حاز زخمًا غير قليل بعد اندلاع الثورة السورية. ولكن قبل اندلاع الثورة، كما بعدها، وجد ميشيل أنه يراكم الخيبة من الإسلاميين، كما راكمها من النظام، وأن الإسلاميين لا يختلفون عن النظام، في استتباع كل من هو أضعف منهم، ويأتي ساعيًا إلى علاقة “تحالفية” معهم.
مع الشارع، كان ميشيل كيلو مميزًا في انفتاحه على الجميع، حتى المختلفين، كان يمارس ما أوصى به السوريين. ففي وصيته التي كتبها قبل وفاته بأيام، كتب: “التقوا بمن هو مختلف معكم”. والحق أنه كان موهوبًا بقدرة هائلة على التواصل مع كل المستويات الاجتماعية، ومع كل الأعمار. تجده نشطًا في الندوات، وعلى صفحات (واتساب) التي تنشغل بالشأن السوري العام. لم يكن يميل إلى اللغة الصعبة، في حديثه أو في كتاباته، دون أن يكون سطحيًا بأي حال. وكان يستطيع الاحتفاظ بحرارة العلاقة مع مئات الأشخاص، حتى يبدو لكل منهم إنه مميز لديه.
وثق به أشخاص بسطاء إلى حد أنهم كانوا يستشيرونه في إمكانية عودتهم إلى بيوتهم في إدلب، معتقدين أنه يدرك مسار التطور العسكري والسياسي في المنطقة. بالمقابل، خسر ثقة قطاع غير قليل من الناس، ولا سيما المثقفين والمتابعين منهم، وقد اشتكى غير مرة من حملات اتهام طالت نزاهته. المثقف (الكاتب في الشأن السياسي) ينبغي ألّا يناور، وتكمن قيمته في نزاهته، فيما يناور السياسي في الغالب، والجمع بين الأمرين لا بد أن يعود على صاحبه بالاتهامات.
بعد كل شيء، يبقى ميشيل كيلو أحد ألمع نجوم المعارضة السورية، على مدى يزيد عن نصف قرن، ولم ينته حتى 19 نيسان 2021.
مرت قرون طويلة على المنطقة العربية وهي تقدّس الموت والأموات
وتمارس عبادة الأجداد
في كل مرة يكون بيننا رجل ذو فكر وعقل ورأي نحاربه ونشتمه ونعاديه ونخوزقه
ثم حين يموت نرثيه بأفخم العبارات ونعظمه ونقدّسه
متطرفون في الخلاف ومتطرفون في رثاء من نصلبه ونقتله
عبر التاريخ كنا دوماً نقتل أهل العقول ونحاربهم ونشتمهم ونكفّرهم
ثم حين يموتون نصنع لهم تمثالا ً ونطلب منه الرضا والسماح
يا ترى ما هي الدوافع النفسية الخفية العميقة
التي تجعلنا متعلقين كثيرا بثقافة الموت
والخلود
لماذا نشوّههم ونحاربهم أحياء ثم نعظمهم ونمجدهم أموات ؟!
ثقافة الإنتقال بين طرفي نقيض
الشيطنة للعقل والرأي وهو حي
ثم التأليه والتقديس وهو ميت ؟!
ميشيل كيلو كان مجرد إنسان صاحب رأي وعقل
لم يكن شيطاناً ولم يكن ملاكاً
كان مجرد إنسان ذو عقل ورأي
المبالغين في الرثاء ستجدهم بالأمس كانوا مبالغين في التخوين والتحقير والتكفير والشتم والتشويه
هل هي ردة فعل وشعور بالذنب تجاه الذي قتلناه أو صلبناه ؟!
ربما
علينا أن نعيد التفكير في لا وعينا الجمعي وإعادة صياغة تعاطينا مع الأشياء والأشخاص والأحداث
ربما علينا أن نقدّس الإنسان وعقله ورأيه ثم حين يموت نودعه بسلام ونقرأ نتاجه
إذا كان ميشيل كيلو عظيم الفكر والرأي والعقل كما تقولون
فلماذا لم تكونوا ملتفّين حوله مساندين له
لماذا لم تكونوا تسألون عن أحواله في كل يوم
لماذا كنتم تحاربونه
الحق أقول لكم
إن النفاق والدجل متجذر فينا حتى النخاع
نتاجر بهم وهم أحياء ثم نتاجر بهم وهم أموات
ونتبع التريند والموجات
اللي بعدو ........!!!