أولًا: التعريف بالجرائم ضد الإنسانية:
كثيرة هي الكتابات والدراسات التي تطرقت إلى الجرائم التي تُرتكب ضد الإنسانية، واللافت في الأمر أن هذه الكتابات مجملها لم تتفق على تعريف جامع ومشترك لها بحكم التطور المستمر الذي خضعت له هذه الجريمة، بدءًا من اتفاقية لاهاي عام 1907 مرورًا بمعاهدة فرساي عام 1919، التي أبرمت بعد الحرب العالمية الأولى، ثم اتفاقية لندن عام 1945 الخاصة بإنشاء محكمة (نورمبرغ). بل إن الفقه الدولي انقسم بشأنها إلى قسمين؛ فمن الفقهاء من طالب بتوسيع مفهومها، في حين طالب آخرون بتقليصه، ومن ثمّ لم تؤد هذه الاتفاقيات الى إخراج الجرائم ضد الإنسانية من ضمن جرائم الحرب، بعد أن اشترط لقيام هذه الجريمة أن تُرتكب في أثناء الحرب أو أن تكون مرتبطة بجريمة من الجرائم ضد السلام(1).
لذلك تعددت الاجتهادات في محاولة تعريفها، فهي كل انتهاك صارخ للقوانين والأعراف الإنسانية(2) وهي وفق (أورينيو) “جريمة من جرائم القانون العام بمقتضاها تعد الدولة مجرمة إذا أضرّت بدافع الجنس أو بدافع سياسي أو التعصب للوطن بحياة شخص أو جماعة أو حريتهم أو حقوقهم، أو إذا تجاوزت أضرارها حين ارتكابهم جريمة من الجرائم العقوبة المنصوص عليها”(3)، أو أنّها جرائم حق عام ترتكبها الدولة لدوافع عرقية سياسية أو دينية تستمد صبغتها الإجرامية من القانون الدولي(4)، بل هي الجرائم التي تمس الحقوق الجوهرية للإنسان التي يعد حق الحياة في مقدمتها، والمنصوص عليها في الاتفاقيات الدولية(5).
أما القضاء الفرنسي فقد استند في قراراته حول تعريف هذه الجريمة إلى الركن المعنوي المتمثل في سياسة (التفوق الأيديولوجي) الذي تحوز عليه الحكومة. لذلك أحدثت هذه القرارات ثورة في القانون الدولي، خصوصاًً أنها تتفق مع نص المادة السادسة من ميثاق محكمة (نورنبرغ). غير أن هذه القرارات بقيت إشكالية، أي من دون أجوبة صريحة، حيال ما قصده القضاء الفرنسي في عبارة (التفوق الأيديولوجي)، هل هو تصفية السلطة الحاكمة من يعارض خطها السياسي والفكري الذي تسعى إلى تحقيقه بأي طريقة، أم أن له معنى مختلفًا؟(6)
وفي كل الأحوال فقد ورد مصطلح الجرائم ضد الإنسانية أساسًا في القانون الدولي الإنساني، ومنه أخذ شكله التراتبي لينتقل بعدها إلى القانون الدولي لحقوق الإنسان من ثم التشريعات الدولية المعنية بذلك، حتى أصبح مصطلحًا على النحو الذي يستخدم فيه في وقتنا الحاضر(7). والخلاصة أن إدراج الجرائم ضد الإنسانية في نظام روما الأساسي بوصفها جريمة مستقلة مثلها مثل جريمة الإبادة الجماعية وجرائم الحرب وجريمة العدوان وغيرها، إنما يُعدُّ علامة مضيئة في مسيرة القانون الجنائي الدّولي(8)، ومثالًا حيًا على تطور المبادئ والأعراف الدولية، خصوصًا النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، الذي نصّت المادة (7) منه على: (يقتصر اختصاص المحكمة على أشد الجرائم خطورة موضع الاهتمام الدولي بأسره).
ثانيًاـ مسؤولية الأفراد عن الأفعال المخالفة للقانون الدولي:
لم تكن المسؤولية الجنائية في القانون الدولي التقليدي تقتضي أكثر من إصلاح الضرر، أي المسؤولية المدنية عن الجرائم التي تقع خلافًا لقوانين الحرب وأعرافها، إلا أن النتائج المؤلمة للحرب العالمية الأولى وما خلفته من آثار مدمرة في المجتمع الدولي وما شهدته البشرية من تطور تقني في الآلة العسكرية والتقنية، كانت السبب الأساس في تغيير المفاهيم القانونية الدولية، حتى أصبح نطاق المسؤولية الدولية يشمل المسؤولية الجنائية الفردية، إلى جانب المسؤولية المدنية عن الجرائم المرتكبة خلافًا لقوانين وأعراف الحرب المتبعة(9).
وفي الواقع يعود الفضل في إقرار مبدأ المسؤولية الجنائية الفردية إلى معاهدة فرساي التي انعقدت عام 1919، عندما نصت في المادة (227) على إنشاء محكمة جنائية دولية لمحاكمة الإمبراطور الألماني (غليوم الثاني) عن مسؤوليته الدولية في شن تلك الحرب، إلى جانب عدد من الفاعلين الألمان نظرًا إلى انتهاكهم قوانين وأعراف الحرب، بعد أن كان سائدًا في الماضي لدى الفقه القانوني والعمل الدولي مسؤولية الدول فقط حيال تلك الانتهاكات، بوصفها وحدها من تمثل أشخاص القانون الدولي.
لذلك جاء قرار تشكيل هذه المحكمة بوصفها أول إقرار قضائي جنائي دولي من شأنه محاكمة الأفراد، نظرًا إلى ارتكابهم جرائم دولية، ما ساهم في وضع حد لجرائم الحرب، إذ أن علم الأشخاص أنهم سيتحمّلون شخصيًا نتائج الجرائم التي سوف يقترفونها يجعلهم يترددون بارتكابها(10).
ومع إقرار الاتفاقية الدولية لمنع الإبادة الجماعية في 9 كانون الأول/ ديسمبر 1948 وما نتج عنها من إنشاء محكمة جنائية دولية لمحاكمة الأفراد المتهمين بارتكاب هذه الجريمة، جرى التأكيد علي مبدأ (المسؤولية الجنائية الفردية)، وهو ما أكدت عليه أيضًا اتفاقيات جنيف الأربع المؤرخة في 12 آب/ أغسطس 1949 التي تعهدت بموجبها الدول الأطراف بفرض عقوبات فعّالة على الأشخاص الذين يرتكبون أو يأمرون بارتكاب إحدى المخالفات الجسيمة لهذه الاتفاقيات، أيًا كانت جنسياتهم أو مراتبهم.
وهذا ما جعل محاكمة مجرمي الحرب التزامًا دوليًا يرتب على كافة الدول مسؤولية ملاحقتهم بغض النظر عن جنسياتهم؛ ما يعني أن اتفاقيات جنيف أقرّت بما يُعرف بـ(الاختصاص القضائي العالمي) الذي يحق بموجبه لأي دولة موقعة على هذه الاتفاقيات ملاحقة المتهمين بارتكاب جرائم حرب ومحاكمتهم، سواء كانت دولهم قد انضمّت إلى محكمة الجنايات الدولية أم لا، وهو ما أكدت عليه المادة (86) من البروتوكول الأول المضاف إلى اتفاقيات جنيف 1977، الخاصة بقمع الانتهاكات الجسيمة التي تنجم عن التقصير في أداء عمل واجب الأداء.
من جهتها، أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة مبادئ التعاون الدولي المتمثلة في وجوب تعقب الدول الأشخاص مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية واعتقالهم وتسليمهم بقرارها رقم (3074/د/28) في 3/12/1973، وجعل هذه الجرائم أيًا كان المكان الذي ارتكبت فيه موضع تحقيق مع مرتكبيها، بمن فيهم مواطنيها محل تعقب وتوقيف ومحاكمة(11).
ثالثًا ـ الدفع بالأوامر العليا وإطاعة الأوامر لا يُعفي من المسؤولية القانونية:
من المعلوم أن السلطات الحاكمة في كل دولة تُسبغ على أعمال تابعيها بعض الحماية، بشرط أن تتماشى تلك الأفعال مع المبادئ القانونية الدولية والدستورية العامة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا؛ ما مصير تلك الحماية عندما تتجاوز تلك الحدود القانونية المرسومة، كما هو عليه الحال في سورية منذ انقلاب آذار/ مارس 1963؟
ثم ما هو حال تلك الحماية فيما إذا كانت الأعمال التي يقوم بها المرؤوس تنفيذًا لأوامر عليا تُشكِّل جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية كما حصل في سورية طيلة سنوات حكم الاستبداد، خصوصًا في ظل الأزمة التي تشهدها البلاد، التي ارتكب خلالها وما يزال، جميع الأطراف المتقاتلة، انتهاكات خطيرة تتعلق بحقوق الانسان من مجازر واعتقال وتعذيب وتشريد وامتهان لكرامة الإنسان وهدر لحقوقه، وهو ما شاركت وتُشارك فيه أيضًا قوى الاحتلال والميليشيات المسلحة المتعددة، المساندة للسلطة أو غيرها، ما يشكل وفقًا لمبادئ القانون الدولي والإنساني جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
وللإجابة عن ذلك لا بد لنا بدايةً من العودة إلى القاعدة القانونية العالمية التي تقضي بسيادة القانون الدولي على القانون الجنائي الداخلي. يعنى ذلك أن الحماية التي أسبغتها السلطات السورية عليها وعلى مؤيديها، بإصدار عدد من المراسيم التشريعية المخالفة للدستور وللقانون الدولي الإنساني، بهدف التحصن من أي ملاحقة جنائية، تنتفي قيمة هذه التشريعات حال تعارضها مع المبادئ القانونية الدولية العامة، وهو ما أكدت عليه اتفاقية (فيينا) 1980 الخاصة بالمعاهدات الدولية، التي قضت في المادة (53) أن: (قواعد القانون الدولي الإنساني بالنسبة إلى جميع دول العالم إلزامية وآمرة في آن، دونما اعتبار لمدى انضمامها أو تحفظها على بنود هذه الاتفاقية أو بعضها، وأنه لا يجوز انتهاكها أو تعديلها إلا عن طريق إصدار تشريعات جديدة لها نفس الطابع، على اعتبار أن مبادئ العرف الدولي إنما هي أحد مصادر القانون الدولي الإنساني).
أما فيما يتعلق بمسؤولية المرؤوس حيال الجرائم التي يقوم بها في معرض تنفيذه لتلك الأوامر، فتجيبنا على ذلك المادة (33) من النظام الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية لعام 1998، التي قضت بما نصه:
(لا يُعفى الشخص من المسؤولية الجنائية إذا كان ارتكابه لتلك الجريمة قد جرى امتثالًا لأمر حكومة أو رئيس عسكري كان أو مدني، باستثناء الحالات الآتية:
1 ـ إذا كان على الشخص التزام قانوني بإطاعة أوامر الحكومة أو الرئيس المعني.
2 ـ إذا لم يكن الشخص على علم بأن الأمر غير مشروع.
3 ـ إذا لم تكن مشروعية هذا الأمر ظاهرة).
ومن أجل إعمال هذه المادة على الوجه المطلوب فإن حالة عدم المشروعية تكون ظاهرة فيما إذا كانت تلك الأوامر من شأنها ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية أو الجرائم ضد الإنسانية، كما أن محكمة (نورمبرغ) لعام 1945 الخاصة بمجرمي الحرب، سبق لها أن قررت بقولها:
(أي من المتهمين المحالين للمحكمة الجنائية الدولية، لا يمكنهم الاختباء خلف أوامر رؤسائهم ولا خلف الفقه، الذي يعتبر هذه الجرائم ـ أعمال دولة ـ بحال كانت الأوامر المتلقاة واضحة بعدم مشروعيتها أو كانت الأعمال المرتكبة بموجبها شنيعة ووحشية، وأن الأخذ بها لا يمكن أن ينشئ حتى ظرفًا مخففًا).
وهو ما ذهبت إليه نفس المحكمة بقولها:
(إن الالتزامات الدولية المفروضة على الأفراد تُلغي واجباتهم في الطاعة اتجاه حكوماتهم الوطنية، ما دامت الأعمال التي أُوكل إليهم القيام بها قد تجاوزت من خلالها السلطات المبادئ القانونية العامة التي أقرها القانون الدولي).
رابعًا ـ على المرؤوس أن يرفض تنفيذ الأوامر العليا المتعارضة مع القانون الإنساني الدولي:
القاعدة أنه لا يجوز التذرع بالأوامر العليا للدفاع عن انتهاكات القانون الإنساني الدولي، مع أنه يمكن أخذ ذلك في الحسبان في تخفيف العقوبة فقط، وهو ما أخذت به محاكمات (نورمبرج) التي تلت الحرب العالمية الثانية، إلى أن أصبح هذا المبدأ اليوم جزءًا لا يتجزأ من القانون العرفي الدولي.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل باستطاعة المرؤوس العسكري رفض تنفيذ الأمر الصادر إليه من رئيسه في حال سيترتب عليه جريمة دولية؟ في الواقع ظهرت حيال هذا الموضوع ثلاث اتجاهات فقهية، ناقشها القانون الدولي الجنائي بإسهاب وهي(12):
1 ـ نظرية الطاعة العمياء: ومؤدى هذه النظرية أن العسكري عليه واجب طاعة رئيسه طاعة عمياء، ولا يجوز له التردد في تنفيذ الأمر أو الحق في التأكد من مشروعيه الأمر الصادر إليه، وإنما يجب عليه تنفيذها حتى لو كانت مخالفة للقوانين واللوائح.
2 ـ نظرية الطاعة النسبية: وبموجب هذه النظرية يحق للمرؤوسين مراقبة مشروعية الأوامر التي يتلقونها من رؤسائهم، بافتراض أنهم ليسوا أدوات عمياء ولا آلات صماء، بل هم محاربون وعقلاء مميزون، يؤدون واجبهم لتحقيق العدالة والحرية للجميع.
3 ـ النظرية الوسطية: ويقول أصحاب هذه النظرية إنه يجب التمييز بين الأوامر المشروعة والأوامر غير المشروعة، فإذا كان الأمر غير مشروع وعدم مشروعيته واضحة ويترتب عليه جريمة جنائية فللمرؤوس المنفذ حق رفض طاعته، أما الأوامر المشروعة فعليه تنفيذها.
وفي الواقع فإن النظرية الوسطية هذه هي التي أخذ بها عدد من القوانين العسكرية في بعض الدول المتقدمة، التي أشارت بوضوح إلى حق المرؤوسين في رفض الأوامر غير المشروعة، مثلما هو عليه الحال مع القانون العسكري البلجيكي الصادر في 16/6/1993 في المادة (5) منه التي تنص على:
(2 ـ لا تُخلي مسؤولية المتهم كونه تصرّف بناء على أمر من حكومته أو من أحد رؤسائه، إذا تبين في ضوء الظروف المحيطة أن الأمر الصادر قد يؤدي إلى ارتكاب مخالفة جسيمة للاتفاقيات الدولية).
وهو ما سارت عليه لائحة الانضباط العامة للقوات المسلحة الفرنسية لعام 1966 حينما نصت على:
(من حق وواجب المرؤوس رفض بعض الأوامر)(13).
كذلك فعل قانون الأحكام العسكرية البريطاني الصادر عام 1914 والمعدل في 1929 بقوله:
(إن الأمر القانوني يقصد به الأمر الذي يبيحه القانون)، ومثلهم فعل أيضًا القانون الخاص بالقوات المسلحة الأمريكية المرقم 600/ 20 بالمادة (29) منه التي نصت على:
(إن الطاعة تكون للأوامر الشرعية وكل الأفراد الموجودين في الخدمة العسكرية مطالبون بالطاعة الكاملة، ولكن حينما يبدو الأمر غير شرعي، فانه لا يكون للمرؤوس أن يحتمي خلفه وينفذه، وإنما يكون عليه واجب بعدم إطاعته)(14).
وهناك اتجاه على الصعيد الدولي في الوقت الحاضر نحو التوسع في فكرة قدرة المرؤوس على رفض الأوامر العليا التي لها طابع إجرامي فاضح وبينّ وتؤدي إلى ارتكاب الجرائم الدولية، وقد كان ذلك واضحًا في المؤتمر الرابع عشر للجمعية الدولية للقانون العسكري وقانون الحرب المنعقد في أثينا في أيار/ مايو (1997) الذي انتهى إلى إصدار التوصية الآتية:
(يجب أن توفر اللوائح التأديبية منهجًا يكفل للمرؤوسين دون الإضرار بأنفسهم أو المساس بالانضباط، أن يمارسوا حقهم وواجبهم في رفض أوامر يفضي تنفيذها بداهة إلى اقتراف جريمة حرب)(15).
خامسًا ـ مسؤولية الرؤساء والقادة العسكريين عن الجرائم ضد الإنسانية التي يرتكبونها وتابعوهم:
تقع على الرئيس أو القائد العسكري وفقًا للقانون الدولي الإنساني مسؤوليتان، فهو من جهة مسؤول عن الأعمال المُجرّمة التي يقترفها بنفسه، ومن جهة أخرى مسؤول عن الجرائم والأفعال التي يقوم بها أتباعه، وبهذا فهو يتحمّل مسؤولية الجرائم الدولية التي يرتكبها مرؤوسوه بشكلٍ كامل، في حال كان هذا الرئيس أو القائد يعلم أو على دراية بالانتهاكات التي يرتكبها هؤلاء المرؤوسون، ثم أخفق في التحقيق فيها أو باتخاذ أي إجراءات فعالة للتصدي لهذه الانتهاكات، وهو ما نصت عليه المادة (86/ 2) بقولها:
(لا يُعفي قيام أي مرؤوس بانتهاك الاتفاقيات أو هذا البروتوكول رؤساءه من المسؤولية الجنائية أو التأديبية، حسب الأحوال، إذا علموا، أو كانت لديهم معلومات تتيح لهم في تلك الظروف أن يخلصوا إلى أنه كان يرتكب، أو أنه في سبيله لارتكاب مثل هذا الانتهاك، ولم يتخذوا كل ما في وسعهم من إجراءات مُستطاعة لمنع أو قمع هذا الانتهاك).
وطبقًا للمادة (25) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، يكون الرئيس أو القائد الذي أصدر أمرًا بارتكاب عمل غير قانوني مجرّمًا طبقًا لقانون المحكمة، وهو مسؤول عن تلك الأفعال كما لو كان قد ارتكبها بنفسه، فضلًا عن الإغراء أو الحث على ارتكاب الجريمة أو تقديم العون أو التحريض أو المساعدة بأي شكل لغرض تيسير ارتكاب الجريمة أو غير ذلك من أشكال المساهمة الجنائية التي فصّلتها المادة (25) من قانون المحكمة، وبناء عليه يكون القائد أو الرئيس مسؤولًا مسؤولية جنائية فردية (مباشرة) عن تلك الجريمة، وليس مجرد شريك على النحو المطبق في معظم القوانين الوطنية(16).
لذلك من الطبيعي أن تعد اتفاقيات جنيف لعام 1949 الرئيس مسؤولًا بوصفه فاعلًا أصليًا إذا أصدر أمرًا بارتكاب إحدى الجرائم الجسيمة، خلافًا لما تحكم به القواعد العامة، التي تقضي أن الرئيس يعد شريكًا في الجريمة التي يرتكبها المرؤوس.
ليس هذا فحسب، وإنما يكون القادة والرؤساء مسؤولون عن تلك الجرائم التي ارتكبها أتباعهم حتى إذا لم يأمروا صراحة أو يصدروا تعليمات بارتكابها، وذلك عملًا بالمسؤولية (المفترضة للقادة والرؤساء)، ومن ثمّ فإذا ارتكب المرؤوس أو التابع وقائع فردية من دون علم القائد أو الرئيس فإن الرئيس لا يكون مسؤولًا إلا عن تقديم مرتكب الجريمة إلى السلطات المختصة للتحقيق معه ومحاكمته، أما إذا ارتكبت الأفعال الإجرامية من المرؤوسين أو التابعين وفق نمط سلوك يقوم على التعددية والتكرار وعلى نطاق واسع، فيمكن أن تنعقد مسؤولية الرئيس عن تلك الجرائم ولا يستطيع عندئذٍ أن يدفع بعدم علمه بها(17).
ويكفي لتجريم الرئيس أو القائد العسكري إثبات أن هذا الرئيس أو القائد (كانت له سيطرة فعلية على أجهزة الدولة وعلى المساهمين في المشروع الإجرامي المشترك الذي ارتكبت من خلاله الجرائم، فضلًا عن علمه بارتكابها) وفق ما قضت به المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة، عند محاكمة الرئيس الصربي السابق (سلوبودان ميلوسفتش)، هذا وقد ورد في قضاء المحاكم الجنائية الدولية:
(أنه ليس من اللازم أن يعلم رئيس الدولة بتفصيلات ما سوف يُرتكب من جرائم، وإنما يكفي أن يتوافر لديه العلم بطبيعة تلك الجرائم وبقبوله بوقوعها)(18).
سادسًا ـ حصانة الرؤساء لا تُعفي من المسؤولية القانونية في الجرائم ضد الإنسانية:
سبقت الإشارة من قبل إلى أنه بعد إقرار مبدأ المسؤولية الجنائية للأفراد الطبيعيين نتيجة التطور والتقدم التكنولوجي في مجال تصنيع الأسلحة، وما نتج عن ذلك من ويلات شهدتها الحربين العالميتين الأولى والثانية، وظهور أشكال جديدة من الإجرام الدولي، باتت محاكمة الرؤساء والقادة العسكريين وغيرهم من أفراد أمام المحكمة الجنائية الدولية على درجة كبيرة من الأهمية، بافتراض أن الرؤساء والقادة إنما يمثلون قمة الهرم الوظيفي في الدولة، ومن ثمّ وفقًا لما نراه من الطبيعي جدًا أن تكون مسؤولياتهم عن تلك الجرائم بحجم سلطاتهم.
لذلك فإن الصفة الرسمية التي يتمتع بها هؤلاء ليست بحد ذاتها سببًا لتخفيف العقوبة، كما أن الحصانات المقررة وفقًا للقوانين الوطنية أو الدولية لا تحول دون مسؤوليتهم الجنائية عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي يرتكبونها بأنفسهم، أو بواسطة مرؤوسيهم، وفق ما نصت عليه المادة (28) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية(19) بقولها:
(لا يُعفي المنصب الرسمي للمتهم سواء أكان رئيس دولة أم حكومة أم مسؤولًا حكوميًا من المسؤولية الجنائية ولا يُخفف من العقوبة).
ويرى الفقه القانوني أن عدم الاعتداد بالحصانة أساسه مبدأ سيادة القانون الدولي على القانون الداخلي؛ لأن حصانة كل من الرئيس والحكومة إنما تكون وفقًا للقانون الداخلي وليس لها أن تعترض سبيل تطبيق قواعد القانون الدولي حين تقرر المسؤولية الجنائية لمن ارتكب فعلًا جريمة دولية(20).
بناءً على هذا المبدأ، سبق أن وجه المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية في تاريخ 27 أيار/ مايو 1999 إلى الرئيس اليوغسلافي السابق (سلوبودان ميلو سوفيتش) الاتهام عن جرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة وجرائم الحرب وانتهاكات اتفاقيات جنيف، على الرغم من أنه كان في حينها رئيسًا للدولة ويمارس مهامه بصفة رسمية، وبذلك تكون محاولة محاكمة (ميلو سوفيش) هي الأولى تاريخيًا بعد الاتهام الذي سبق توجيهه إلى الإمبراطور الألماني (غليوم الثاني) على النحو الذي أشرنا إليه(21).
كذلك كان الحال بالنسبة إلى الرئيس السوداني عمر البشير الذي أصدرت المحكمة الجنائية الدولية في تاريخ 4/ 3/ 2009 مذكرة الأمر بالقبض عليه. من الجدير ذكره هنا أن هذه المذكرة صدرت بينما كان البشير ما يزال في موقع الرئاسة، وهذا يعني أن المجتمع الدولي حازم في عدم الأخذ بالحصانة التي يتمتع بها الرئيس أو القائد العسكري، من ثم لديه كل الصلاحيات اللازمة لملاحقة الفاعل مهما كانت حصانته في حال توفر الإرادة لديه، وذلك استنادًا إلى ما نصت عليه الفقرة الثانية من المادة (27) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية بقولها:
(لا تحول الحصانات أو القواعد الإجرائية الخاصة التي قد ترتبط بالصفة الرسمية للشخص سواء أكانت في إطار القانون الوطني أم الدولي، دون ممارسة المحكمة اختصاصها على هذا الشخص).
وهو ما أكدت عليه تقارير الأمم المتحدة وقرارات المحاكم الجنائية الدولية السابقة. ففي تقرير الأمين العام المقدم إلى مجلس الأمن بموجب القرار 808/ 1993 بشأن إنشاء محكمة الجنايات الدولية ليوغسلافيا السابقة جاء:
(إن النظام الأساسي لمحكمة يوغسلافيا يجب أن يتضمن نصوصًا متعلقة بالمسؤولية الجنائية الفردية لرؤساء الدول والمسؤولين الحكوميين والأشخاص الذين يتصرفون بمقتضى وظائفهم الرسمية، ولذلك يجب النص على أن الادعاء بحصانة رئيس الدولة، أو أن الفعل قد تم ارتكابه بمقتضى الصفة الرسمية للمتهم، لا يُشكل دفاعًا مقبولًا أو ظرفًا مخففًا للعقوبة).
وهو ما أكدت عليه المادة (1/ 7) من نظام محكمة الجنايات الدولية المتعلقة بيوغسلافيا المتضمنة:
(لا يعفي المنصب الرسمي للمتهم سواء أكان رئيس دولة أم حكومة أم مسؤولًا حكوميًا، هذا الشخص من المسؤولية الجنائية أو يخفف من العقوبة).
وهو ما سبق أن أكدت عليه أيضًا المادة (7) من نظام المحكمة العسكرية الدولية (نورمبورغ) بقولها:
(إن المنصب الرسمي للمدعى عليهم سواء بوضع رؤساء أم موظفين رسميين مسؤولين في إدارات الحكومة لن يعفيهم من المسؤولية أو يخفف عنهم العقوبة)(22).
وفي كل الأحوال فإن النتيجة التي يمكن التوصل إليها هنا هي أن مسؤولية كل قائد أو مسؤول عن ما ارتكب من جرائم يجب أن تكون بحجم السلطات التي يتمتع بها ويُمارسها هذا المسؤول.
الخاتمة:
نخلص مما سبق إلى أن المسؤولين عن الجرائم التي ارتُكبت وترتكب بحق الشعب السوري اليوم، بغض النظر عن رتبهم أو مواقعهم أو مناصبهم، أو جنسياتهم أو الأدوار التي يقومون بها، لا بدّ في نهاية المطاف من أن يُساقوا لتقديمهم لمحاكمة عادلة أمام محكمة الجنايات الدولية، طال الزمن أم قصر، مع الأخذ في الحسبان حجم المسؤوليات التي يتمتع بها كل منهم، سيما أن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم، وفق المادة (29) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية 1998 المشار إليه التي جاء فيها:
(لا تسقط الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة بالتقادم أيًا كانت أحكامه).
علمًا أن سورية لم توقع على انضمامها إلى المحكمة الجنائية الدولية؛ ما يجعل الفاعلين هنا بمنأى عن ملاحقة المجتمع الدولي للأفعال والجرائم المرتكبة بحق الإنسانية جمعاء. وفي هذه الحالة يتوجب على مجلس الأمن أن يتحمل جميع مسؤولياته القانونية والأخلاقية بالتحرك فورًا ومن دون إبطاء، للتحقيق فيما ارتكب ويرتكب من جرائم بشعة، وانتهاكات فاضحة للقانون الدولي الإنساني، إن كان ذلك من جانب بعض المسؤولين السوريين وشركائهم من جيوش وميليشيات مسلحة محتلة، أو من الأطراف المعدودة على المعارضة، أو من جيوش وميليشيات الدول المتدخلة في الشأن السوري، التي ترتكب بدورها جرائم يندى لها جبين الإنسانية؛ خصوصًا أن الأدلّة الدامغة على ارتكاب تلك الجرائم كثيرة جدًا، وقد أصبح معلومًا لدى القاصي والداني أنها متوفرة لدى مختلف المحافل الدولية، وذلك أسوةً بالمحاكمات الدولية الأخرى التي انعقدت خصيصًا للنظر في محاكمة الجناة ممن ارتكبوا جرائم حرب ضد الإنسانية، كما في حالة محاكم يوغسلافيا السابقة 1993 أو رواندا 1994 وغيرها من محاكمات دولية، وذلك لضمان عدم إفلات هؤلاء من المحاسبة العادلة، لا أن تبقى المنظومة الدولية تتفرّج ـ كشاهد زور ـ على ما جرى ويجري بحق الشعب السوري من مآسٍ وويلات أدت إلى سقوط مبادئ القانون الدولي الإنساني على الأرض السورية حرفًا حرفًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
(1) وليم نجيب جورج نصار، مفهوم الجرائم ضد الإنسانية في القانون الدولي، الطبعة الأولى، بيروت، 2008، ص37.
(2) ـ زانا رفيق سعيد، الجرائم ضد الإنسانية، دار شتات للنشر والبرمجيات، أربيل، 2013، ص11.
(3) زانا رفيق سعيد، الجرائم ضد الإنسانية، المرجع نفسه، ص12.
(4) J.Graven : Le crime contre l’humanité ; R.C.A.D.I.1950. P 476 (محاماة نت، 25 أبريل، 2020 دراسة حول تعريف الجرائم ضد الإنسانية وفق الفقه والقضاء والاتفاقيات الدولية ـ هند إبراهيم.
(5) عبد القادر البقيرات، الجرائم ضد الإنسانية، أطروحة دكتوراه مقدمة الى كلية الحقوق / جامعة الجزائر، 2012، ص92.
(6) ـ عبد القادر البقيرات، الجرائم ضد الإنسانية، أطروحة دكتوراه مقدمة الى كلية الحقوق ـ جامعة الجزائر، 2012، ص98.
(7) ـ أحمد عطية، المحكمة الجنائية الدولية الدائمة، دار النهضة العربية، القاهرة، 1999، ص170.
(8) عبد الرحيم يوسف العوضي، المحكمة الجنائية الدولية ـ مدى حجية أَحكام القضاء الوطني جامعة الدول العربية، مؤتمر الأكاديميين العرب للقانون الدولي الإنساني، القاهرة، من 3-4 شباط 2002، ص5.
(9) الحوار المتمدن، العدد: 2426 في 6/ 10/ 2008، حماية المدنيين في زمن النزاعات المسلحة، سامح خليل الوادية.
(10) الحوار المتمدن، العدد: 2121 في 6/ 12/ 2007، المسؤولية القانونية في قضية الكورد الفيليين، زهير كاظم عبود.
(11) المسؤولية القانونية في قضية الكورد الفيليين ـ زهير كاظم عبود، المرجع نفسه.
(12) الفجر الجديد للمحاسبة والمراجعة والتشريعات، مسؤولية الأفراد والرؤساء عن أفعالهم في القانون الدولي الجنائي، الدكتور خليل حسين.
(13) محاماة نت، 11 أكتوبر، 2016، بحث قانوني حول المبادئ المتعلقة بمرتكبي الجرائم الخاضعة للقانون الدولي الجنائي، أمل المرشدي.
(14) المبادئ المتعلقة بمرتكبي الجرائم الخاضعة للقانون الدولي الجنائي، أمل المرشدي، المرجع نفسه.
(15) المبادئ المتعلقة بمرتكبي الجرائم الخاضعة للقانون الدولي الجنائي، أمل المرشدي، المرجع نفسه.
(16) صحيفة المثقف، العدد: 2645 في 02/ 12/ 2013، المسؤولية الجنائية للرؤساء والقادة المدنيين، جميل عودة.
(17) المسؤولية الجنائية للرؤساء والقادة المدنيين، جميل عودة، المرجع نفسه.
(18) المسؤولية الجنائية للرؤساء والقادة المدنيين، جميل عودة، المرجع نفسه.
(19) المسؤولية الجنائية للرؤساء والقادة المدنيين، جميل عودة، المرجع نفسه.
(20) الحوار المتمدن، العدد: 2897، في 24/ 1/ 2010، المسؤولية الجنائية لرئيس الدولة عن الجريمة الدولية ومشكلة الحصانات في القانون الدولي عبد الجليل الاسدي.
(21) عبد الجليل الأسدي، المرجع نفسه.
(22) عبد الجليل الأسدي، المرجع نفسه.