طرحت مجلة (بارتيزان) الفرنسية، على المفكر الراحل ياسين الحافظ، في مقابلة أجرتها معه عام 1965، عشية الإعلان عن قيام حزب العمال الثوري العربي، سؤالًا عن كيفية حلّ مسألة الأقلية الكردية في العراق؛ فكان جوابه التالي: “ستُحلّ مسألة الأقلية الكردية في العراق، عندما تُحلّ مسألة الأكثرية العربية في العراق، ولن يكون ذلك إلا بالحلول الديمقراطية في المنطقة”. وعلينا أن نضيف أن ما ينطبق على العراق ينطبق على كل من سورية وتركيا وإيران، حيث الوجود الكردي، بتعداد مختلف من منطقة إلى منطقة، ولا حلّ لقضيته إلا بوصول هذه البلدان إلى الديمقراطية.
نفذت تركية وعودها، بتحقيق المنطقة الآمنة في سورية، إذ أعلنت عمليةَ “نبع السلام” في منطقة الجزيرة السورية، التي تسمّى في الإعلام “منطقة شرق الفرات”، وبدأت تدخّلها من منطقتين هما رأس العين، وتل أبيض، وقد رافق القوات التركية ما يسمّى “الجيش الوطني” ذا الغالبية العربية. ودخولها هذا ضربة ذكية، فهذه المنطقة هي منطقة قبائل وعشائر عربية، وليست كردية، كما يتوهم العديد من الأصدقاء الكرد.
منذ أن توقفت الحرب الكردية – الداعشية، تعلن تركيا عزمها على إقامة المنطقة الآمنة على طول الحدود التركية – السورية، وبعمق من 30 إلى 40 كم، وهذا يعني أنها قضمت الجزء الخصب من سورية، وهي بذلك تقترب من مناطق النظام الأسدي في هذه المنطقة، وبالتأكيد، لن يسمح المستعمر الروسي للنظام بالتدخل ضد الأتراك، وهو ليس بقادر على ذلك، ولو تحالفَ مع “قوات سوريا الديمقراطية” التي تخلى عنهم الأميركيون.
تاريخانية المسألة الكردية
مسألة قيام دولة كردية في المنطقة ليست جديدة، فعلى إثر سقوط السلطنة العثمانية، قرر الحلفاء في معاهدتي سيفر ولوزان، إنشاء دولة كردية – أرمنية، ولكن هذه الدولـة بقيت حبرًا على ورق، حيث رفض مؤسس الدولة التركية مصطفى باشا أتاتورك، قيام مثل هذه الدولة. واستطاع السوفيات أن يؤسسوا دولة أرمينيا السوفياتية، ولكن كلًا من فرنسا وإنكلترا، وهما الدولتان المنتدبتان في منطقة الشرق الأوسط، لم تستطيعا أن تساعدا في قيام هذه الدولة، لا بل هناك أكثر من ذلك، إذ قامت فرنسا، الدولة المنتدبة على سورية، بإعطاء سنجق أنطاكية وإسكندرونة، هذه المنطقة التي كانت معقل المسيحية الأول، ومركز كراسي الكنائس الشرقية، للدولة التركية، باستفتاء عام 1933.
ولو أننا دخلنا في عمق تاريخ المسألة الكردية، لاحتجنا إلى العديد من الصفحات والأبحاث، ولكننا سنكتفي بأربعة أحداث، جرت من بعد الحرب العالمية الثانية حتى يومنا هذا.
جمهورية مهاباد الكردية
على إثر الحرب العالمية الثانية، أُعلن، بعد سلسلة من الحوادث في المناطق الكردية، من إيران، قيامُ جمهورية مهاباد الكردية، من نهاية عام 1946 حتى عام 1947، ودعَم الاتحاد السوفياتي هذه الجمهورية، ولكن السوفيات عند طاولة المفاوضات، باعوا هذه الجمهورية، للإنكليز والإيرانيين، وشُنِق كل أعضاء حكومة قاضي أحمد، باستثناء وزير واحد، هو الملا مصطفى البرزاني، حيث هَرب أو هُرّب. وكانت خلاصة موضوع مهاباد أن الاعتماد على الآخر يؤدي إلى الفشل، كونهم يبيعونه على طاولة المفاوضات، وهذا الدرس الذي لم يستفد منه الأكراد.
المسألة الكردية في العراق
هرب الملا مصطفى البرزاني إلى موسكو، ومن ثَمّ عاد لا إلى كردستان إيران، بل إلى العراق، بناء على دعوة عبد الكريم قاسم الذي كانت حكومته تتمتع بالدعم السوفياتي لها، حيث عمل المستحيل من أجل قيام كيانٍ ما في شمال العراق، ودخل في سلسة من الحروب ضد الحكومات المتتالية على حكم العراق، وخاصة الحكومات البعثية العراقية. وفي مرحلة الثورة على نظام صدام حسين، دعمت الحكومة الإيرانية الشاهنشانية حركة الملا مصطفى البرزاني، ولكنّ شاه إيران تخلى عن هذه الحركة بعد اتفاقية الجزائر، التي عُقدت بين حكومة صدام وشاه إيران، وأُعطي بموجبها الطاغية الصدامي كلّ ما يبتغيه الشاه، مقابل التخلي عن الحركة الكردية التي لاقت صعوبات جمّة في تحركها لتُخمد، وتعاود الحركة بعد الحرب الخليجية الثانية، ليؤسس الأكراد إقليمًا كرديًا برازانيًا في شمال العراق، وأقول برزانيًا، لكونه اعتمد على العشيرة البرزانية التي ينتمي إليها كل حكام إقليم كردستان، من الملا مصطفى البرزاني حتى نيرفان البرزاني، وذلك بالاعتماد على الأميركيين الذين باعوهم بعد الاستفتاء الأخير من أجل الاستقلال، ليعودوا إلى موقعهم كإقليم، وليس كجمهورية كردية تنفصل عن العراق.
الحكومات التركية والمسألة الكردية
حاربت كل الحكومات التركية، الحركات الكردية التي قامت في الأراضي التركية، وسنكتفي بحركة حزب العمال الكردستاني، بقيادة عبد الله أوجلان، هذا الحزب الذي هَرب عناصره نتيجة الضغط عليه إلى وادي قنديل، وإلى سورية والبقاع الغربي من لبنان، حيث سمح لهم حافظ الأسد بالبقاء هناك، وقد وجد عبد الله أوجلان مكانًا آمنًا ما بين سورية ووادي قنديل، وبالطبع كان حافظ الأسد يريد أن يستخدمهم ضد تركيا. أخذت ميليشيا PPK، وهو الاختصار المتعارف عليه للحزب الأوجلاني، تشن من هناك حرب عصابات على الأراضي التركية، وعندما تضايق الأتراك من هذا الوجود، ضغطوا على الحكومة السورية، وأجبروها على عقد اتفاقية أضنة، التي تنص على تخلي الحكومة السورية عن عبد الله أوجلان، والتخلي نهائيًا عن لواء أنطاكية وإسكندرونة، حيث عُـدلت الخرائط السورية من دون أن يدخلها اللواء الذي تسميه تركيا (لواء هاتاي)، كما أن الحدود الشمالية السورية قد عُدّلت، وأجبرت حكومة حافظ الأسد على أن تقبل هذا التعديل، وبالعرف الوطني تُعدّ هذه الاتفاقية “خيانة عظمى”.
طردت حكومة حافظ الأسد عبد الله أوجلان وحزبه، ليهيم على وجه، حيث رفضت كل أوروبا -بشرقها وغربها- استقباله، ليستقرّ متخفيًا في النهاية في كينيا، حيث استطاعت تركيا أن تخطفه من هناك، عبر عملية استخباراتية تركية أميركية أوروبية إسرائيلية، ليُحكم عليه بالمؤبد، وما يزال أوجلان قابعًا في سجنه، وتفاوضه الحكومات التركية المتتالية، عندما تريد الحصول منه على اتفاقات متعددة، وقد تخلى عن مطلب الاستقلال وقيام الجمهورية الكردية على الأراضي التركية. والحقيقة أن عبد الله أوجلان قدّم بعد اختطافه تنازلات عديدة للحكومات التركية، وعلى الرغم من ذلك فإن الكرد لا زالوا يعدّونه الزعيم أو الآبو.
المسألة الكردية في سورية
المسألة الكردية في سورية ليست بنتَ اليوم، وهي مسألة بدأت تنظيميًا خلال فترة الوحدة المصرية – السورية، لتستمر حتى يومنا هذا. بعد خروج الانتداب الفرنسي والقوات الإنكليزية، تشكل في سورية نوع من الديمقراطية الهيولية، يُسمّيها جورج طرابيشي “الديمقراطية الواعدة”، ومن خلالها لم يكن هناك شعور بنقص في الحقوق، لدى كل مكونات الشعب السوري، ومنهم الأكراد، حيث تبوّأ العديد من المكون الكردي مناصب وزارية وعسكرية، حتى إن قادة الانقلابات العسكرية في سورية كانوا من العسكريين الكرد، ثمّ جاءت الوحدة المصرية – السورية، لتطلق الرصاصة القاتلة على الجسم الديمقراطي في سورية، حيث أكملت حركة الثامن من آذار 1963، القضاء نهائيًا على الديمقراطية في سورية، لتؤسس في 16 تشرين الثاني 1970، حكمًا عسكريًا استبداديًا، بقيادة حافظ الأسد وبشار الأسد، مع الإبقاء على حزب البعث واجهة كاريكاتورية، والحقيقة أن غيمة حركة 23 شباط 1966 جاءت بعاصفة حافظ الأسد المدمرة .
مع حلّ الأحزاب عام 1958، وغياب الديمقراطية، أخذت كل مكونات الشعب السوري تشعر بالغبن، وتحت شعارات فارغة من تذويب الجميع، قسريًا، في القومية العربية، أخذ الأكراد ينتظمون سياسيًا، وبشكل سري وخجول، ولكن جاء إحصاء البعث، عام 1962، ليجرّد العديد من الأكراد من الجنسية السورية ويحرمهم وأولادهم منها، وأصبحت تُدعى -مع الأسف- الجنسية العربية السورية، وقُدّرت أعداد ما يُتعارف عليه بتعبير “المحرومين”، بعشرات الآلاف مِن الذين جُردوا من الجنسية السورية، ولكن هذا العدد تضخم، مع الهجرة الكردية إلى منطقة الجزيرة، من تركيا، حيث استوطنوا المدن والقرى على طول الشريط الحدودي مع الدولة الجارة تركيا، التي لم تكن تشعر بالرضا عن هذه الهجرات، وتريد أن توقفها، لأنها شعرت بأن هذه الأعداد ستكون قنبلة موقوتة في المستقبل.
مما لا شك فيه أن كل القرارات العرفية التي صدرت في سورية، والجائرة بحق المكون الكردي، دفعت الأكراد إلى المطالبة بالحقوق المنقوصة لهم، وكان ستكون أفضل لو أنها شملت كل مكونات الشعب السوري، ومن هذه الحقوق المنقوصة منع الأكراد من التملّك، فأي عملية تملك يجب أن توافق عليها السلطات الأمنية. عام 1962 صدر قرار يمنع نقل النفوس من منطقة الجزيرة، فكان الذين هاجروا إلى باقي المحافظات لا يستطيعون نقل سجلّهم المدني إلا بمرسوم جمهوري، فكان المواطنون المسجَّلون في مناطق الجزيرة مضطرين إلى تجشم عناء السفر للحصول على أي وثيقة.
على إثر قيام سد الفرات في منطقة الطبقة، تم إبعاد العرب الذين غُمرت أراضيهم ببحيرة السد المسماة زورًا “بحيرة الأسد”، وعوضًا من أن يُعطوا قرى بديلة على ضفاف البحيرة، لكي يستفيدوا من خيرات الفرات، أُجبروا على الانتقال إلى المناطق ذات الغالبية الكردية، حيث عرفوا بـ “المغمورين”، ليشكلوا بذلك استفزازًا للمكوّن الكردي.
الحقيقة المرة أن الإخوة الأكراد ليسوا وحدهم من شعر بالمظلومية، بل كل المكونات السورية، ولقد برز في تلك المرحلة تنظيم المنظمة الأثورية، وهي تًعرَف اليوم بالمنظمة الأثورية الديمقراطية، للمطالبة بحقوق المكون السرياني – الآشوري – الكلداني، المنقوصة أيضًا.
نشطت هذه المنظمات من أجل حقوقها المنقوصة، ولكن السلطة السياسية في دمشق لم تكن مستكينة لقيام هذه التنظيمات، فأعطت سلطات مطلقة للأجهزة الأمنية في منطقة الوجود الكردي، وقد عرفت الجزيرة مرحلتي اضطهاد: الأولى مرحلة نزيه زرير، التي انتهت بانتقاله إلى دمشق كمدير لأمن الدولة في كل سورية، مكافأة على اغتياله محمد عمران في طرابلس لبنان، وقد وثق باتريك سيل عملية الاغتيال هذه والمكافأة، في كتابه (الصراع على الشرق الأوسط) الذي مُنع في سورية بقرار رئاسي، وليس عبر قنوات الإعلام.
ثم كانت المرحلة الثانية، وهي المرحلة الأكثر سوادًا في تاريخ الجزيرة السورية، مرحلة محمد منصورة، الذي نشر الفساد والمحسوبيات في الجزيرة، وقد استطاع محمد منصورة أن يخترق كل التنظيمات، لا بل كان يساعد في حدوث الانشقاقات في هذه التنظيمات، وكانت التنظيمات الكردية هي الأكثر استهدافًا، وفي مرحلة محمد منصورة، والاتفاق الأسدي – الأوجلاني، برز التنظيم الموازي لحزب العمال الكردستاني الكردي PKK وهو حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، بقيادة صالح مسلم، الذي عُرف في مرحلة الثورة السورية، بـ PYD.
عُرف عن محمد منصورة أنه الحاكم الفعلي للجزيرة السورية، فلا يوجد أي سلطة إلا سلطته، فالمحافظون لا قرار لهم، لأن أي قرار يصدرونه يجب أن توافق عليه الأجهزة الأمنية، وكان منصورة يغضّ النظر عن فسادهم، وعن سرقاتهم، وهم يسلمونه سلطاتهم، ليصبح الحاكم المطلق في الجزيرة. اخترقت الأجهزة الأمنية -كما أسلفنا- العديد من قيادات التنظيمات الكردية، وكانت تحرك بعضهم كما تشاء، بالطبع كانت بقية القيادات قيادات وطنية، حتى رجالُ الدين، مسيحيين ومسلمين، لم يسلموا من سلطة محمد منصورة، حيث حوّلهم إلى مخبرين، ومن رفض الرضوخ له، كان مصيره التصفية،
المرحلة الأوجلانية في سورية بدأت مع دخول تنظيم عبد الله أوجلان الذي بناه بطريقةٍ ستالينية، أرهبت كل سكان المناطق الكردية، وكان ذراعه الأيمن تنظيمَ صالح مسلم الذي كان ينفّذ هذا الإرهاب، وسأذكر حادثة اغتيال جرت في حلب، وأنقلها عن ضحيتها الصديق المناضل فتحي كتكاني الذي تعرّض لعملية اغتيال من قِبلهم، لرفضه تنفيذ طلباتهم وتأييدهم ودعمهم ماديًا؛ حيث تعرض لعملية اغتيال بعد عشرة أيام على يد مسلحين، داخل قصر العدل، ونتيجة محاولة الاغتيال، أصيب بشلل كامل عانى منه كثيرًا، إضافة إلى أن هناك شكوكًا في أن ذلك التنظيم نفذ عملية اغتيال المناضل الكردي الوطني مشعل التمو.
زلزال الثورة السورية والقضية الكردية السورية وصولًا إلى عملية “نبع السلام”
تصادف مع ختام دراستنا هذه رحيلُ المناضل الكردي الصلب، حميد حاج درويش، الذي يصحّ أن يُطلق عليه لقب “أبو الحركة الكردية الحديثة”، وهو الذي أسس الحزب الديمقراطي التقدمي الكردي، الذي كان يُعرف بـ “حزب البارتي”، ولقد شكّل حميد حاج درويش الصوت العقلاني في الحركة الكردية السورية، ولم ينحُ منحى الحركة الكردية التي قادها مقاتلو ومحازبو وادي قنديل الملتفون حول صالح مسلم وحزبهPYD الذي أراد أن يُقصي باقي الحركات والشخصيات الكردية، التي أخذت منحى وطنيًا سوريًا، ودانت هذا التطرف، وكان حميد حاج درويش وحزبه مِن الذين دانوا هذا التطرف.
في الخامس عشر من آذار/ مارس 2011، كان الزلزال السوري الذي فاجأ الجميع من كل الأطراف، وأخذ الجميع يتطلع إلى المكون الكردي، فكان الشعب الكردي في كل مناطق وجوده مع هذه الثورة، ورفع شعار “آزادي” أي الحرية. وعبّر عن هذا الموقف الشهيد مشعل التمو، ولكن حزب صالح مسلم كان لكل الوطنيين الأكراد، وعلى رأسهم مشعل، بالمرصاد، فتم اغتياله بطريقة بشعة في القامشلي، حيث موقع قيادة حزبه، وبذلك كانت بداية سيطرة حزب صالح مسلم وقيادة وادي قنديل على الحراك الكردي.
هنا أخذ التطرف الأوجلاني المسيطر على الحركة الكردية في تركيا، والراغب في مد هذه السيطرة على الحركة الكردية في سورية، يتحرك مستغلًا الحراك الشعبي السوري، وكان له ذلك بعدما سيطر على المناطق الكردية، ورفع الشعارات المتطرفة التي تطرح الانفصال عن الوطن السوري، على الرغم من أن غالبية الحركات السورية الكردية كانت ترفض هذا الاستعجال. وبدأ العديد من الإخوة الأكراد يزوّرون التاريخ، من أجل خدمة المطالبة بالاستقلال عن سورية، ومن ذلك، على سبيل المثال، حريق عامودا، الذي اعتبره أمثال سربست نبي مؤامرة على الأطفال الكرد، علمًا أنه حريق محزن، ذهب ضحيته أطفال كرد وسريان، وليس له أي مدلول تآمري، وكذلك حريق سجن الحسكة، حيث صفى محمد منصورة بعض عملائه من المتنفذين الكرد، حين ضاق ذرعًا بهم، فتمت تصفيتهم وذهب معهم العديد من الضحايا. ولكن صالح مسلم والقيادات التابعة له، والتابع لها، أخذوا يسعون لإقامة إدارة كردية منفصلة عن سورية الوطن.
استطاع النظام السوري، بالتعاون مع القوى الإيرانية، تحويل مسار الثورة السورية، وأسلمتها، بعد أن استجمعت قواها المنهارة، وكانت هذه الأسلمة نتيجة إطلاق سراح القيادات الإسلاموية من سجن صيدنايا، حيث شهدنا بروز المنظمات المنفلتة من عقالها، لتنشأ المنظمات المتطرفة التي أوصلتنا إلى “جبهة النصرة”، وتنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” أي (داعش).
بعد سيطرة (داعش) على مناطق عديدة من العراق وسورية، زالت الحدود ما بين العراق وسورية. وكان هذا التمدد السريع -برأي العديد من المراقبين- تمددًا مشبوهًا، حيث تمت سيطرة (داعش) على الموصل، خلال يومين، وأعلنت الرقة عاصمتها، وامتدت في سورية على مساحة كبيرة، شملت منطقة الجزيرة السورية كاملة بمحافظاتها الثلاث دير الزور والرقة والحسكة.
وأخذ التحالف الدولي المعادي لـ (داعش) يفتش عن طرفٍ يقاتل (داعش)، ووجد هذا التحالف، بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، عند المسلحين الأكراد من جماعة وادي قنديل مبتغاه، فدعموا نشوء “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) التي يكوّن المسلحون الأكراد عصبها الأساسي. وأخذت (قسد) تقاتل (داعش) على كل الأراضي السورية، وخاصة في منطقة الجزيرة. ولم يقتصر تعاون التحالف الدولي – الأوجلاني، على التعاون العسكري، حيث تم غض النظر عن طرح الفيدرالية في سورية، وتكوين هيكلية لدولة مستقبلية، فكانت “الإدارة الذاتية” التي كان لها برلمان وانتخابات مجلس قيادة، وبالطبع كانت الغالبية للمكون الكردي التابع لصالح مسلم، وقد زينوا هذه الإدارة ببعض القوى السريانية والقوى العربية، ولكن التابعية السياسية لهذه الإدارة كانت لقيادات زادي قنديل وذراعها العسكري (قسد).
باع هؤلاء بندقيتهم للولايات المتحدة الأميركية، من أجل محاربة البعبع الجديد (داعش)، على أمل أن تؤيدهم في قيام دولة كردية في منطقة الجزيرة، وهذا ما أخاف الحكومة التركية التي رفضت هذا الطرح، جملةً وتفصيلًا، وأخذت تطرح المنطقة الآمنة، وهذا بالطبع مقدمة للتدخل التركي في منطقة الجزيرة. وهنا لا بد لنا من طرح مسألة الخطر الكردي لمسلحي PPK حزب العمال الكردستاني الكردي، الذي كان يقاتل مع (قسد)، على الحكومة التركية التي ترفض الطروحات الكردية، في تركيا وسورية والعراق وإيران. ويخطئ من يعتقد بأن هذا الرفض هو طرح حكومة أردوغان، فكل الحكومات التركية رفضت وسترفض هذه الطروحات الانفصالية.
قاد التطرف الكردي في منطقة الجزيرة إلى التحرك التركي الذي أوصل في البداية إلى عملية (غصن الزيتون) في عفرين، حيث سيطروا على عفرين بالكامل، بالتعاون مع القوى المسماة “الجيش الوطني”، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الجميع أغمض عينيه عن التحرك التركي (أميركا، روسيا، إيران)، ولن نذكر النظام، لأنه أصبح دمية في يد القوى المستعمرة.
لم يتعلم المتطرفون في “قوات سوريا الديمقراطية”، من هذا الدرس، بل استمروا في تطرفهم الذي ألحق الأذى بقضية الشعب الكردي، فاستمروا في غيهم إلى أن وصلت المنطقة إلى عملية (نبع السلام)، وكانت البداية ما بين رأس العين وتل أبيض، ولقد كان لتركيا ما أرادته حتى الآن، وهناك اعتقاد بأن هذه المنطقة الآمنة ستمتد إلى المالكية شمالًا، وإلى جرابلس جنوبًا.
وهنا لا بدّ من التساؤل: ماذا استفاد المتطرفون الكرد من هذا التطرف، الذي قد يقود إلى قضم جزء مهم من منطقة الجزيرة السورية، من قبل الحكومة التركية، ولا أحد يدري إلى أين سيوصل ذلك سورية التي مزقتها كل القوى؟