على الرغم من أن عنوان المحاضرة يتطرق إلى مسألة العلاقة الكردية-العربية، وقد خصصناها في الجانب الإعلامي، لكن يبقى موضوع في هذه الحساسية دومًا محتاجًا إلى سرد تاريخي مستفيض، كي نلامس بعض الوقائع والمسببات في نمط العلاقة في الجوانب الايجابية والسلبية.
إن أكثر مرحلة كانت واضحة، أو طفت وظهرت على السطح، في العلاقة الكردية العربية، في رأيي هي مرحلة الثورة السورية أي منذ آذار/ مارس 2011، حيث شكّلت المساحة الكاملة لتقارب الطرفين والتعرف إلى بعضهما عن قرب، أكثر من ذي قبل، على عكس التهميش السابق لعلاقة الطرفين من جانب السلطة.
لا نستطيع أن نعدّ أنّ مرحلة ما بعد الثورة هي مرحلة ازدهار وتوطيد في العلاقة، أيضًا فقد شابها ما تأثرت به العلاقة بين الطرفين من أفعال النظام أيضًا، الذي لعب دورًا على الدوام في زيادة الحساسية والتوتر بين الطرفين، وإن لم يكن هذا الأمر واضحًا -ربما- في مدن الداخل، لكنّه بين العرب والكرد -في مناطق وجودهما معًا- هو أمر واضح جدًا.
استطاعت الثورة خلق اندماج معرفي، وإخراج قراءات صغيرة عن العلاقة بين الطرفين، ولعب الإعلام والساسة ووسائل التواصل الاجتماعي والتجمعات الشبابية والتجمعات المعارضة دومًا وجودًا للشريحتين معًا، وربما كان وجودنا نحن هنا، هذا اليوم وفي هذا المنبر، نتيجة واقع ما بعد عام 2011.
سبق وأشرت إلى أن الخوض في المسألة الكردية العربية يحتاج إلى سرد تاريخي يقف على جوانب عدّة، وخاصّة من منظور الكرد شعبًّا وقوميةً تقطن أرضها التاريخية، حيث تصادم الكرد دومًا مع الأنظمة التي عمدت إلى اتباع سياسات استثنائية في حقّهم، من هنا سندخل في سرد ننتقل فيه عبر مراحل كي نوضح المشهد أكثر.
تشكل سوريّة تنوعًا سكانيًا غنيًا، كما تضم شعوبًا من أديان ومذاهب وقوميات مختلفة ومتعددة، ومعروف أنّها كانت دومًا جسرًا لعبور الأديان وانتشارها في العالم، كما تُعدّ مهدًا للحضارة التي ظهرت على أرض “ميزوبوتاميا”.
الحديث عن سوريّة واسع جدًا، ولأن عنوان محاضرتنا عن المسألة الكردية- العربية، سنتجه إلى الشمال والشمال الشرقي في سوريّة، حيث هناك أرض الكرد، أهم وأغنى المناطق في سوريّة من حيث البنية التاريخية والتراكم الثقافي الغني والتنوع السكاني، فقد شهدت هذه المنطقة أوّل ثورات الحرية من نشوء القرى إلى التجمّعات السكنية، فهذه المنطقة المعروفة بمناطق كرد سوريّة أو كردستان سوريّة يقطنها أغلبية من الشعب الكردي، الذين يعدّون السكان الأصليين للمنطقة.
إن مفهوم العرب والكرد على مدى العصور، يتعلق بارتباطات وثيقة من حيث المجاورة والعيش المشترك، والمصير الواحد في كثير من الأحيان، بعد التقسيمات الدولية بين حدود مناطق بلاد الشام داخل الشرق الأوسط. يعيش الكرد موزعين في أرضهم بين أربع دول، تشمل تركيا والعراق وإيران وسوريّة، كأرضٍ تاريخية تسمى أرض “كردستان”. ولأن سوريّة تعدّ مهدًا لالتقاء الحضارات، وتمتاز بتنوع مكوناتها، حيث يلتقي الكرد مع باقي المكونات السورية، من عرب وتركمان وشركس وسريان وأرمن وكلدوأشوريين، فيجمع هذه المكونات عدد من الأمور المصيرية المشتركة.
من هنا من الضروري الحديث عن بعض المراحل التاريخية في سوريّة التي يوحد فيها الكرد مع باقي المكونات، أو بالمعنى الأدقّ المراحل التي تعنيهم، فلدينا المراحل التالية:
مرحلة ما قبل تشكيل سوريّة الحديثة، ومرحلة الاستقلال إلى مرحلة ظهور القومية العربية، ومرحلة استلام حزب البعث العربي الاشتراكي، ومرحلة انتفاضة الكرد، ومرحلة الثورة السورية.
مقدمة
إن محاضرة اليوم تتعلق بالمسألة العربية الكردية في الجانب الإعلامي. والحديث في هذه المسألة قد يطول ويحتاج إلى مجلدات كي نستطيع وصفها، والوقوف عليها، وخاصّة لما شابها من متغيرات وتحولات، وظروف لا بد من توضيحها.
كي نصل إلى موضوع العلاقة الكردية العربية في الجانب الإعلامي، فعلينا التطرق إلى المراحل التي شملت وجود الطرفين في سوريّة، وعلاقتهما، والتعايش، والبقاء في غياهب مصير مشترك ضمن بلد واحد، وكيف تعايش الطرفان، والتغيرات الحاصلة على الساحة السورية، وتأثيراتها سلبًا وايجابًا على علاقتهما.
علينا ألّا ننسَى أن البحث في علاقة العرب والكرد يثير الحساسية بعض الشيء، لوجود تجاذبات، وعدم وجود مساحة مشتركة مليئة بالحرية وواسعة -كي نكون دقيقين- لالتقاء الطرفين، ولا أدبيات وثّقت علنًا، أو وصفت ذلك، خاصة وأن سلطة البعث لعبت على وتر التجاذب في علاقة الطرفين لمصلحته، مادام يتعامل مع الكرد في ظرف سياسي استثنائي، ويفرض الظلم عليهم.
لاقى الكرد في طريق تحقيق آمالهم وأحلامهم كثيرًا من الظلم، فقد تعرضت جميع إنجازاتهم الوطنية للنسيان من جانب السلطات المتعاقبة، من خلال العمل على طمس هويتهم، وزج قياداتهم في السجون، وإنكار حقوقهم الثقافية والقومية، وحرمان عشرات الآلاف منهم من الجنسية ومنعهم التحدث بلغتهم الكردية، ورفض إطلاق الأسماء الكردية على أبنائهم، وعدم السماح لهم بالاحتفال بعيدهم القومي “النيروز”، إضافةً إلى تغيير أسماء مدنهم وقراهم، ومنعهم من نشر الكتب والصحف الكردية والعربية، التي لها مساس بهويتهم.
وللحديث عن العلاقة بين الكرد والعرب في سوريّة، نقسم ذلك في مرحلتين: مرحلة الاستعمار، ومرحلة الاستقلال وما تلاها من ظهور للقومية العربية، والبعث، حتى انتفاضة السوريين إلى يومنا هذا.
المرحلة الأولى: مرحلة ما قبل تأسيس سوريّة الحديثة
شارك الكُرد منذ بداية تأسيس الدولة السورية الحديثة، خلال مرحلة عُدّت نضالًا ضد الفرنسيين، ووقف الكرُد مع باقي مكونات وأطياف الشعب السوري، جنبًا إلى جنب في تحرره وثوراته، كما قدم الكُرد التضحيات، في سبيل حصول سوريّة على استقلالها. فقد شارك الكرد في جميع الثورات السورية، منها ثورة البرازيين في حماة، وانتفاضات (عامودا) ضد الانتداب الفرنسي. كما كان للأكراد شخصيات بارزة على مرّ التاريخ الإسلامي من مثل: الفارابي وابن خلكان وأبن كثير، وعبد القادر الكيلاني وخالد النقشبندي والدينوري، وابن تيمية، وبديع الزمان الهمداني، وأبي الفداء. ومن الشخصيات الأدبية والثقافية الذين أغنوا المكتبة العربية من مثل عباس محمود العقاد، وأحمد تيمور ومحمد تيمور، وأحمد شوقي ومحمد كرد علي، وعائشة التيمورية، وقاسم أمين وحسين مروان وبلند الحيدري وسليم بركات.
كما كان لشخصيات كردية دور بارز وكبير في كتابة تاريخ سوريّة، ومنهم وزير الحربية يوسف العظمة، ومحو أيبو شاشو (أول سوري أطلق رصاصة في وجه المستعمر الفرنسي)، وإبراهيم هنانو، وأحمد البارافي (أول سوري يرفع العلم السوري فوق سرايا الدفاع الفرنسي)، ومحمد سعيد آغا الدقوري قائد ثورة الشمال في عامودا، ومحمد علي العابد أول رئيس لسوريّة، وحسني الزعيم رئيس جمهورية، وأديب الشيشكلي رئيس الجمهورية، ومحسن البرازي رئيس الوزراء، وعبد الرحمن الأيوبي رئيس الوزراء، وسليمان الحلبي الذي قتل الجنرال الفرنسي كليبر في مصر، والمفكر التنويري وعبد الرحمن الكواكبي.
على الصعيد المحلي في المناطق الكردية، لا يستطيع أحد أن ينكر أو يغيب النضال الوطني المشترك للكرد والعرب والمسيحيين معًا في بناء سوريّة، والوقوف ضد المستعمرين في معظم مدن الجزيرة وقراها وروابيها، إذ لم يتمكن الفرنسيون من بسط حكمهم المركزي على الجزيرة السورية، فعندما حاول الفرنسيون إنشاء مخفر في قرية “بياندور” شنّ السيد حاجو آغا، هجومًا على القاعدة الفرنسية في بياندور، ومعه عدد من الوطنين الغيارين، قابلها انتقام من جانب الفرنسيين ضد الأهالي، إضافةً إلى واقعة “كري تبي” في منطقة الجوادية، التي دحر فيها الكرد الفرنسيين، وأيضًا ما عرف بـ “طوشا عامودي” عام 1937، قصف الفرنسيون في إثرها مدينة عامودا. وكان من أهم الشخصيات الكردية ضد الفرنسيين في منطقة الجزيرة (محمد جميل باشا، وحاجو آغا، وعيسى آغا الرستم القطنة، وعيسى عبد الكريم أحد مؤسسي الكتلة الوطنية، إضافة إلى فرحان آغا العيسى، وزوجته من أوائل النساء اللاتي رفعن العلم السوري فوق بيتها).
إن الحديث في هذه التفاصيل كافٍ لتبيان الحالة الوطنية التي لعبها الكرد، إلى جانب جميع السوريين، من أجل استقلال سوريّة، وهذا يدل على نواة روح وطنية موجودة لدى الكرد، وأن لديهم التاريخ الكافي في المساهمة ببناء سوريّة، لكن، في المقابل، رُفض منحهم حقوقهم من جانب السلطات المتعاقبة.
المرحلة الثانية: مرحلة الاستقلال.. بداية النشاط السياسي الكردي في سوريّة
لأن الكرد لم يأخذوا حقوقهم كان لا بد من أن يكملوا نضالهم، من هنا لم يكن العمل السياسي الكردي مقتصرًا على الجانب الثوري فقط، بل ساند ذلك الجانب والوعي السياسي، فعندما ظهرت الحركة القومية الكردية في سوريّة، التي نشأت منذ الثلاثينيات من القرن الماضي على يد المثقفين الكرد، عبر جمعيات ونواد ثقافية واجتماعية وأدبية وقومية، كان ذلك لإدراكهم المسؤولية تجاه القضية الكردية، آنذاك أسس مثقفون كرد في سوريّة جمعية “خويبون” عام 1927، حيث عمدت فرنسا إلى إغلاق مكتب الجمعية في حلب، كما حدّت من نشاط أعضائها، ما دفع الأرمن إلى أن يجعلوا قسمًا من مقرهم في حلب مكتبًا لجمعية خويبون.
لعبت جمعية “خويبون دورًا بارزًا، بنشر الثقافة القومية الكردية في سوريّة، بعدها حشد المثقفون والسياسيون الكُرد في “حي الأكراد” ركن الدين بدمشق، إلى تشكيل عدد من الجمعيات والمنتديات والأندية، لعبت دورًا كبيرًا في نشر الوعي السياسي، منها “نادي هنانو” وجمعية “وحدة الشباب” عام 1939 من أبرز مؤسسيها الدكتور نور الدين ظاظا، وأوصمان صبري، وأشهر أعضاء هذا النادي المعلق السوري الرياضي المرحوم “عدنان بوظو”.
بعد منتصف خمسينيات القرن الماضي، قرر سياسيون كرد تشكيل أول حزب سياسي كردي في سوريّة، وكان ذلك في 14 حزيران 1957، جاء ذلك في ردّة فعل على الغبن والتهميش الذي بدا يظهر بصورةٍ أكثر وضوحًا في حق الكرد، إضافة إلى التمييز القومي تجاههم، حيث تزامن مع ظهور الحركة القومية العربية، ووحدة مصر وسوريّة ووصول جمال عبد الناصر، هنا بدأت رحلة آلام الكرد في الدفاع عن حقوقهم، فمع تأسيس أول حزب سياسي كردي باسم “الحزب الديمقراطي الكردي في سوريّة” كما أسلفنا، تعرضت قيادة الحزب وكوادره للاعتقال والملاحقة من أجل تحطيم حلمهم، لكنهم دافعو بكل بسالة عن أهداف الحزب، وحقوق الشعب الكردي.
إن نضال الكرد الوطني في سوريّة لم يشفع لهم بأن يكونوا في منأى عن الظلم والمشاريع العنصرية، التي توّجت بأول مشروع عنصري مع قدوم البعث، عندما أصدر الملازم أول محمد طلب هلال رئيس الشعبة السياسية في الحسكة كراسًا في عهد الانفصال (بعد الوحدة مع مصر) عام 1962، بعنوان: “دراسة عن محافظة الجزيرة من النواحي القومية، الاجتماعية، السياسية”. يتلخص في الدعوة إلى تجريد الكرد في المنطقة من أراضيهم وجنسيتهم السورية، وممارسة سياسة التعريب والتهجير والتجويع والتجهيل في حقهم، تقارير حاقدة جرّد في إثرها مئات آلاف الأكراد من الجنسية السورية، ليعيشوا أجانبَ على أرضهم التاريخية، الأرض التي خلقوا وعاشوا وناضلوا فيها، أمّا مكافأة “محمد طلب هلال” فكانت تقليده منصب عضو قيادة قطرية وقومية.
سياسات ممنهجة ضد الأكراد
رافق مشروع “محمد طلب هلال” سياسة ممنهجة تهدف إلى طمس الهوية الكردية، تجلت في قمع الحركة السياسية الكردية واعتقال ناشطيها، كما أسلفنا وتغيير الأسماء الكردية التاريخية لمئات القرى والبلدات والتلال والمواقع واستبُدلت بها أسماء عربية، إضافة إلى حرمان الكرد من التحدث بلغتهم الخاصة ومنع الموسيقى والأغاني الكردية، من تلك السياسات حريق سينما عامودا في 13 تشرين الثاني/ نوفمبر 1960 الذي راح ضحيته جيلٌ من الأطفال في بداية بلوغهم (285 طفلًا)، ثم مشروع الحزام العربي. ثم قرار آخر تمثّل في إصدار القيادة القطرية لحزب البعث الحاكم برئاسة “محمد جابر بحبوح” الأمين القطري المساعد في عهد حافظ الأسد- قرارًا تحت مسمى “الحزام العربي” ذا الرقم 521 بتاريخ 24/6/1974 القاضي بتفويض عدد من المسؤولين استلام الأراضي الزراعية العائدة لأصحابها الكرد في الشريط الشمالي من منطقة الجزيرة، وتوزيعها على مستوطنين أتى بهم النظام من محافظتي حلب والرقة عبر الترهيب والترغيب، بعد أن غُمرت أراضيهم، هؤلاء المستوطنون أو ما يسمون (الغمر) منحوا 39 تجمعًا تعود ملكية أراضيهم إلى أهالي 335 قرية كردية، تصل المساحات المستولى عليها إلى 800 ألف دونم، وهي من أخصب الأراضي وأكثرها تعرضًا للأمطار، وممتدة من نهر دجلة شرقًا حتى غرب مدينة رأس العين (سري كانيه) بطول 275 كيلو مترًا وعرض 10 حتى 15 كيلو مترًا.
توالت السنون، وبقي الكرد يعيشون غرباء في وطنهم، محرومين من أبسط حقوق العيش، التي يتحلّى بها المواطن السوري، غير قادرين التعبير حتى عن ثقافتهم، حتى الاحتفال بعيدهم القومي ” النوروز” الذي احتاج إلى سفك الدماء حتى يمنحهم حافظ الأسد القبول بالاحتفال به، ففي عام 1986 عندما قام كرد دمشق في منطقة ركن الدين (حي الأكراد) بتنظيم مظاهرة احتجاجية بسبب منع النظام لهم الاحتفال بعيد النوروز، قام خلالها عناصر القصر الجمهوري بإطلاق الرصاص العشوائي على المحتجين، ما أسفر عن استشهاد 16 شخصًا وجرح 9 آخرين، وكان الشاب في مقتبل العمر “سليمان آدي” أول شهيد في تلك الانتفاضة، أصدر بعدها “حافظ الاسد” مرسومًا عدّ بموجبه يوم 21 آذار الذي يمثل يوم النوروز لدى الكرد عطلة لم يدعها باسم النوروز، بل على أنها عطلة “عيد الأم” في سوريّة.
إن عيش الكرد في سوريّة محرومين من كل حقوقهم وشعورهم أنهم مواطنون من الدرجات الدنيا، ظهر في جميع المراحل، نحاول فيها تسليط الضوء على الجوانب الأكثر أهمية وشكلت ردّات فعل لدى الكرد، وغابت عن التاريخ السوري، وهنا ما إن نصل إلى الألفية الثالثة حتى نتذكّر انتفاضة الكرد في عام 2004 ضدّ النظام السوري، التي راح ضحيتها عشرات الشباب الكرد، وامتدت في المدن الكردية في الجزيرة وكوباني وعفرين وأحياء يقطنها كرد في حلب ودمشق، كانت تلك الانتفاضة حدثًا بارزًا، لعب فيه النظام دورًا كبيرًا في زعزعة العلاقات بين الكرد والعرب ومحاولة اصطدامهم ببعضهم، وقد حصل ذلك في كثير من المناطق من خلال حزب البعث، ومحاولة استمالة عشائر عربية للوقوف معه، ولكن لعب الوعي الكردي – العربي دورًا في عدم امتداده.
أيضًا شارك الكرد خلال فترة الألفية الثانية في الانخراط مع المعارضة السورية في تجمعات عدّة، كان أبرزها الوجود الكردي في “إعلان دمشق” والعمل مع تجمعات معارضة سورية أخرى، ومنذ بداية الثورة السورية في آذار عام 2011 ما برح الأكراد يثبتون أنهم جزء لا يتجزأ من هذه الثورة، فخروج الأكراد وإصرارهم على المشاركة لم يكن وليد صدفة، بل جاء نتيجة ما تعرضوا له طوال أربعة عقود سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا على يد النظام.
حاول النظام منذ اندلاع الثورة السورية كسب ودّ شرائح اجتماعية مختلفة في منطقة الجزيرة ذات الأغلبية الكردية، محاولًا أن يمنع امتداد الحراك الشعبي شرقًا؛ فالمرسوم الجمهوري الذي أعاد الجنسية السوريّة إلى آلاف الأكراد كان مثالًا على ذلك، ولكن على الرغم من هذه المساعي فإن حركة الاحتجاجات بقيت في المنطقة بل زاد زخمها. وتنوّعت ردّات فعل سكان المنطقة تجاه الحراك، فتأثرت مشاركة الكرد في الاحتجاجات بموقف الأحزاب السياسية الكردية، التي تحفظت في البداية على هذه المشاركة لرغبتها في الحصول على ضمانات للكرد من المعارضة السورية في المستقبل، على الرغم من أنها امتنعت أكثر من مرة الجلوس مع بشار بطلب منه. بعد عقد المؤتمر الوطني الكردي في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2011، الذي ضم معظم الأحزاب الكردية إضافة إلى شخصيات مستقلة وكافة التنسيقيات الشبابية خرج المؤتمر بقرار موحد في ثبات الثورة في المنطقة، على الرغم من المشاركة الخجولة من باقي الطوائف والقوميات.
إن مطالب الكرد في سوريّة لم تقتصر بالحصول على الجنسية، بعد أن حرموا منها بموجب إحصاء 1962، بل إنّهم كباقي الشعب السوري، كان أملهم الوصول إلى الحرية والكرامة والتعددية السياسية، فشاركوا في الاحتجاجات ضد نظام البعث بعد اندلعت الثورة المجيدة من درعا وامتدت شرارتها إلى جميع المدن السورية، حتى وصلت إلى أقصى المدن الشمالية الشرقية (المدن الكردية).
كان للأكراد دور كبير ومنذ اللحظة الأولى بتشكيل المجلس الوطني السوري المعارض، واكتسبوا عضويتهم فيه، وتلقوا وعودًا لنيل حقوقهم التي كانوا وما زالوا يسعون لتحقيقها، وعرض المجلس الوطني السوري الاعتراف بالأكراد دستوريًّا كمجموعة أثنية منفصلة، وحلّ القضية الكردية من خلال القضاء على القمع وتعويضهم عن ضحاياهم، إضافةً إلى الاعتراف بحقوق الشعب الكردي ضمن سورية موحدّة أرضًا وشعبًا. لكن بقي خلاف مهم قائمًا حول كيفية تحديد مستقبل سوريّة، حيث كان الكرد يطالبون بنظام حكم لا مركزي يضمن لهم حقوقهم في مناطقهم.
في الجانب السياسي، اصطدمت الحركة السياسية الكردية الممثلة عن الشارع السوري مع المعارضة السياسية السورية من حيث موقف الأخيرة من الكرد، ومن شكل الدولة، وحقوق الكرد، في هذا الجانب كان الكرد على الدوام لا يثقون بالمعارضة، عادّين أن المعارضة تماطل ولا تختلف عن موقف النظام تجاه حقوق الكرد. فيعترف الكرد بأنه جرى تهميشهم من جانب المعارضة التي تشكلت في تركيا كجماعة معارضة في المنفى، ولقد حاول الأكراد الاقتراب من جميع قوى المعارضة من أجل الوصول إلى اتفاق مستقبلي يضمن حياة سياسية وديمقراطية لسورية، إلا أنهم كانوا يصطدمون بقرارات المعارضة في اللحظات الأخيرة بشأن أوضاعهم، ومن أبرز مطالب الكرد، ومنها ما طالب به المجلس الوطني الكردي في برنامجه السياسي مثالًا لا على سبيل الحصر:
– الاعتراف الدستوري بالهوية القومية الكردية وبـ “الشعب” الكردي الذي يعيش على “أرضه التاريخية”.
– إزالة كل السياسات الشوفينية والقوانين التمييزية التي طُبِّقت على أكراد سورية، وتنفيذ إجراءات لإلغاء مفاعيلها والتعويض عمّن تضرّروا منها.
– اللامركزية السياسية للحكومة، في إطار وحدة أراضي سورية.
تأسيس الصحافة الكردية
لأن حديثنا عن العلاقة الكردية العربية هو في الجانب الإعلامي لا بد أن نتحدث بلمحة سريعة عن نشأة الصحافة الكردية، هنا لنظهر أن تأسيس الصحافة الكردية كان أيضًا من صلب هذه المنطقة والبعد الجغرافي فيه.
يحتفل الكرد سنويًا في الثاني والعشرين من أبريل/ نيسان بيوم الصحافة الكردي، لمناسبة ذكرى إصدار أول صحيفة كردية باسم “كردستان”، عام 1898، على يد مقداد مدحت بدرخان. تتباين الآراء حول مكان إصدار صحيفة “كردستان” أفي اسطنبول أم القاهرة. لكن هناك إجماعًا على صدور الأعداد الخمسة الأولى في القاهرة.
إن طباعة جريدة كردستان آنذاك في القاهرة وتواجد نشاط للكرد في لبنان وسوريّة، يدل على عمق العلاقة الكردية العربية. وإذا تحدثنا عن الواقع الحالي أي الحديث عن سوريّة في مرحلة الثورة، فقد استطاع الكرد والعرب الالتقاء في الثورة السورية بشكل أوسع من المراحل السابقة بفضل التكنولوجيا الحديثة، ووسائل التواصل الاجتماعي، حيث لعب الإعلام دور بارز في التواصل بين الطرفين، وبات الكرد يعرفون ماذا يحدث في المناطق الأخرى وبالعكس، كما بات السوريون يعرفون أكثر عن الكرد في مناطقهم.
في طبيعة الحال، وبصفتي مشاركًا في الجانب الإعلامي في انتفاضة السوريين، فإن لدي خبرة وتجربة كفيلة بالحديث عنها في الجانب الكردي والعربي من حيث البدء بعلاقات الطرفين مع الثورة، فلا نستطيع القول إنّ الحالة كانت مثالية لأبعد الحدود، لكن، وفي مجمل الأوضاع، فإن الواقع الايجابي فيها، هو هذا الانخراط والتعارف الأكثر من الطرفين، فليس من السهل الحديث عن قوميتين لعب النظام دورًا في زرع التفرقة بينهما، أن تلتقيا بتلك السهولة، لكن ربّما يمكن أن تكون مناهضة النظام ممرًّا للعمل بينهما.
مع بداية الحراك، وبعيدًا عن معادلة مؤامرة النظام المعتادة، لعب جانب في المعارضة السورية دورًا كبيرًا في شيطنة الكرد، بدأ ذلك مع رفع الكرد العلم الكردي في التظاهرات إلى جانب علم الثورة السورية، فانعكس ذلك على الشارع السوري برمته، ودخل بين الساسة والفاعلين والتنسيقيات، وحتى في وسائل التواصل الاجتماعي، لتبدأ حالة زرع التفرقة، التي ستسر النظام في طبيعة الحال.
هذه النزعة توسعت أكتر مع بدء عسكرة الثورة، ومن خلال دخول كتائب عسكرية أواخر عام 2012 إلى المناطق الكردية، ما أدّى إلى زرع تفرقة أكثر بين الطرفين، امتدت مع الوقت لزرع الشرخ الكردي- العربي، لحقه ظهور تيارات اسلامية راديكالية، رافقه معارك كوباني بين الكرد وداعش، وأيضًا الخلافات السياسية بين الكرد والمعارضة السورية.
إن كل هذه الأمور مجتمعة كانت تجربة كفيلة ليتعرف جميع الأطراف بعضهم بعضًا، كما ساهمت في زيادة الشرخ بين الأطراف، لكن يبقى الأمل في البحث عن ساحة، فيها هامش من الحرية، ومجتمع سليم، كي تستطيع جميع الأطراف العمل على رأب الصدع، والوصول إلى حلول ترضي الجميع، ومن المهمّ جدًّا فيها، فهم لماذا لدى الكرد هذه المظلومية كلّها، وكيف من الممكن استيعابهم. أرى أن الوقوف على بعض الأمور، يعني الوصول إلى حل كثير من الأمور في النهاية.
إن الحديث عن العلاقة الكردية- العربية لا تنتهي بمحض دراسة صغيرة، أو بحث، أو محاضرة. لكن، إذا حاولنا دمج هذا مع نقاش منطقي وهادئ، فسوف نستطيع رؤية الجرح بصورةٍ جيدة، ومداواته بنجاعةٍ أكثر.