أولًا: مدخل
قرر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتاريخ 26 أيار/مايو الفائت، تعيين ممثلًا خاصًا له في سورية، هو سفير روسيا الحالي في دمشق ألكسندر يفيموف، وبعيدًا عن التوصيفات التي أُطلقت على المندوب الجديد، فقد أثار القرار وتوقيته الكثير من التساؤلات والتكهنات حول الدوافع التي وقفت وراء ذلك القرار، هل هي تتعلق بتوافقات دولية لتحريك الحل السياسي لم يعلن عنها بعد؟ أم هي جاءت في سياق محاولة روسيا تعزيز سيطرتها وتحكّمها بالوضع السوري سياسيًا واقتصاديًا؟ أم أنها لوضع المزيد من التعقيدات في طريق الدول المتدخلة الأخرى، التي لم تبد تعاونًا مع روسيا لإنفاذ رؤيتها للحل السياسي واحباط جهودها لاستثمار نجاحاتها العسكرية سياسيًا بعد خمس سنوات من تدخلها. ذلك أن روسيا، منذ انطلاقة الثورة السورية، كان لها على الدوام مندوبون لمتابعة الملف السوري، سواءً بالتبعية لوزارة الخارجية أو لوزارة الدفاع حسب كل مرحلة ومتطلباتها. ولعلَّ الغموض الذي رافق قرار التعيين الذي جاء بصيغة عامة وفضفاضة من أجل “تطوير العلاقات بين البلدين”، طرح المزيد من الشكوك حول الهدف الحقيقي لخطوة بوتين.
كل المؤشرات الجديدة التي تحيط بالوضع السوري، وتفاقم أزمات النظام بالأخص على الصعيد الاقتصادي، الذي يتجه نحو حالة الانهيار التام، وعجز النظام عن تلبية الحاجات الأساسية للسكان، تشير إلى أن روسيا ليست في وضع مريح وأنها تتخبط في مأزق لا تريد الاعتراف به، وإعادة حساباتها السورية في ضوئه، ومع اقتراب تطبيق قانون سيزر الذي سيطال كل من يتعاون مع النظام، دولًا أو شركات أو أفراد، وخص بالتسمية روسيا وإيران، تصبح كل التكهنات لتفسير خطوة بوتين واردة، بما فيها أن تكون خيارًا شخصيًا له، لا علاقة له بحسابات المصالح القومية لدولة بحجم روسيا.
ثانيًا: تحوّلات مسيرة التدخل الروسي في سورية
كانت روسيا واحدة من الدول التي تدخلت منذ وقت مبكر في سورية، بعيد انطلاقة الثورة السورية في آذار/مارس 2011، لكنه بدأ تدخلًا سياسيًا، وتقديم الدعم اللوجستي العسكري أو الخبراء والمستشارين، وبدا أن النشاط السياسي الروسي الداعم لمواقف النظام، هو الطاغي بدعوى منع التدخل الخارجي واحترام سيادة الدول وفقًا لمنطويات القانون الدولي، وكان لوزارة الخارجية الروسية دورًا بارزًا، حيث كلف ميخائيل بوغدانوف نائب وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بإدارة الملف السوري، وكان لافتًا أن الموقف الوحيد الذي أبدت فيه روسيا تعاونًا مع تحركات المجتمع الدولي، كان موافقتها على مبادرة كوفي أنان وقرار جنيف1 في حزيران/ يونيو 2012، ربما لأن روسيا لم يكن بمقدورها آنذاك إلا أن تمرر ذلك القرار. لكن تجربتها بعده كانت تتلخص بالتملص منه عبر تبديد مضمونه بالمزيد من القرارات التي تتدرج بخطوات تراجعية، تهدف لتمييع النقطة الجوهرية بالقرار، ألا وهي أن الحل السياسي يقوم على تشكيل هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات التنفيذية، وكان آخر سلسلة القرارات الأممية القرار رقم 2254 لعام 2015 الذي انطوى أيضًا على عملية انتقال سياسي، كما أنها استخدمت حق الفيتو أربعة عشرة مرة أغلبها بالتشارك مع الفيتو الصيني.
تحركات السياسة الروسية إزاء الملف السوري في تلك الفترة لم تقتصر على حماية النظام السوري في المحافل الدولية وبالأخص مجلس الأمن الدولي، بل كان لها نشاطات على أكثر من مستوىً دوليًا وإقليميًا ومحليًا، فقد جمعت أطيافًا من المعارضة السورية وبعض الشخصيات المعارضة، التي تحظى بقبول نسبي من النظام وتتمتع بهامش حركة داخل سورية وخارجها، في مؤتمرين تشاوريين متتاليين بالمشاركة من بين هذه الأطياف والنظام حيث عقد مؤتمر موسكو1 بتاريخ 31 كانون ثاني/يناير 2015 واستتبع بمؤتمر موسكو2 الذي عقد في 23 آذار/ مارس2015، وجاء المؤتمران في سياق محاولة موسكو تسويق رؤيتها لحل سياسي، يقوم على مشاركة من يقبل من بعض المعارضة بحكومة موسّعة لا تؤثر على بنية النظام، علمًا بأن كلا المؤتمرين اللذين لم يحضرهما ائتلاف قوى الثورة والمعارضة، لن يسفرا عن أية نتائج خلا بعض المبادئ العامة التي رفضها النظام كعادته، كذلك دعت الخارجية الروسية في مناسبات أخرى ولمرتين وفدًا يمثل ائتلاف قوى الثورة والمعارضة في محاولة لعرض وجهة النظر الروسية وجهودها في تسهيل الحل السياسي، لكن أيضًا دون إحراز أية نتائج نظرًا لموقف موسكو المنحاز لصالح النظام وتجاهلها لكل الثورة السورية، حتى أن موسكو كانت ومازالت تعتبر أن كل من خرج على الأسد هو إرهابي، مع ذلك فإن أكبر ما أنجزته الخارجية الروسية هو اتفاق نزع السلاح الكيماوي من يد النظام، وفقًا للقرار الدولي رقم 2118 لعام 2013، بعد استخدام النظام له في الغوطتين بشهر آب/أغسطس2013 وتبدّد خطوط أوباما الحمراء.
في ربيع العام 2015 انقلب الوضع الميداني لصالح المعارضة، وبدا واضحًا أن قوات النظام والميلشيات التابعة لإيران وحرسها الثوري، باتت عاجزة عن وقف انهيار النظام، هنا تم طلب التدخل الروسي من قبل النظام وإيران لوقف تقدم المعارضة. التدخل الروسي الكثيف بالطيران الذي بدأ في 30 أيلول/سبتمبر2015، وتاليًا عبر شركة فاغنر الأمنية التي تضم مرتزقة روس ثم الشرطة العسكرية الروسية، حقق إنجازات مهمة للنظام، وقلب موازين القوى ميدانيًا لصالحه، خاصة بعد تدمير حلب الشرقية وإخراج قوات المعارضة منها نهاية العام 2016، وعند هذه النقلة تحوّل الملف السوري من أيدي وزارة الخارجية إلى وزارة الدفاع وقاعدة حميميم، التي باتت مسؤولة عن كل النشاطات الروسية العسكرية أو السياسية، لكن إنجازها الأكبر تمثل بعملية المصالحات، التي توجت باتفاقات مناطق خفض التصعيد الأربعة بضمانة ثلاثي آستانه، والتي انتهت عمليًا بعودة أغلبها لصالح النظام، دون أن تفي موسكو وشرطتها العسكرية بتعهداتها تجاه الفصائل التي قبلت بالمصالحات، ولم تحمهم من الاغتيالات ولا الاعتقالات التي تجري تحت ناظرهم بخاصة في الجنوب السوري، والانجاز الآخر لوزارة الدفاع في إدارتها للملف كان مسار آستانة الذي عقد خمسة عشرة جلسة ما بين العامين 2017 و2020 وعلى ما يبدو أن موسكو أرادت منه التوافق مع فصائل المعارضة على تشكيل مجلس عسكري انتقالي، يشرف على الحل السياسي بديلًا عن هيئة الحكم الانتقالي، التي نص عليها جنيف1 أو بصيغتها المعدلة بالقرار رقم 2254 لعام 2015، الذي نص على تشكيل “حكومة انتقالية موسعة وغير طائفية” ، كما يشار إلى أن وزارة الخارجية الروسية لم تبتعد تمامًا عن الملف، فقد شاركت وتابعت جولات جنيف التسعة ما بين العامين 2012 و 2018، ومسيرة سوتشي للحوار الوطني التي بدأت بتاريخ 30 كانون ثاني/ يناير2018، علمًا بأن المسارات الثلاثة، لم تحقق حتى الآن أية نتائج مما كانت تطمح إليه موسكو، بتسويق حلها السياسي وتثمير إنجازاتها العسكرية إلى محرز سياسي، ويعود ذلك أولًا لتعنت النظام إضافة لإرادات دولية فاعلة أو إقليمية طامعة، لا تريد لروسيا أن تحقق نجاحات يمكن ترجمتها لنفوذ وهيمنة في منطقة حساسة كشرقي المتوسط.
لقد حاولت وزارتا الخارجية والدفاع الروسيتين على مدى سنوات الصراع التسعة، انفاذ السياسة الروسية تجاه الصراع الدائر في سورية، وهما إذ لم تحققا النتائج المطلوبة، فذلك يعود لتعقيدات الصراع وكثرة المتدخلين، وأيضًا للدوافع الحقيقية التي دفعت موسكو لتوسيع تدخلها السياسي إلى تدخل عسكري، سيكون مكلفًا لها بكل المقاييس، فبوتين لم يوجه لهما لومًا، بل على العكس من ذلك، فإنه أصدر قرارًا بتاريخ 29 أيار/مايو الفائت، يسمح للوزارتين “بالتفاوض مع النظام السوري لتوسيع مناطق وقواعد القوات الروسية البرية والبحرية في سورية”، الأمر الذي يثير التساؤلات حول تعيين يفيموف ممثلًا شخصيًا له في هذا التوقيت، وعند هذا المنعطف الذي تزداد فيه تعقيدات الملف السوري سواءً لجهة تحركات وتدافع الدول المتدخلة، أو لجهة الانهيار المريع للوضع الاقتصادي السوري، الذي سوف يزداد انهياره بعد تطبيق قانون قيصر الوشيك، فهل يمكن اعتبار مهمة يفيموف تغييرًا في السياسة الروسية وآليات تعاطيها مع تطورات الوضع السوري؟
ثالثًا: مهمة يفيموف دلالاتها وآفاقها
تمكنت موسكو من الحصول على الكثير من المصالح الاقتصادية والعسكرية في السنتين الأخيرتين، منها استئجار قاعدتي حميميم وطرطوس إلى استثمار الفوسفات وبعض حقول الغاز في المنطقة الوسطى وكذلك المناطق البحرية ومطار دمشق الدولي وما حوله ومحطة الحجاز وسط دمشق، وما زال الأمر بهذا الخصوص مفتوحًا أمامها، في بلد ليس مغريًا من هذه الزاوية بحكم تواضع موارده، مما يجعل فرضية أن مهمة يفيموف، جاءت لتعزيز وتوسيع المصالح الروسية، فرضية لا يعتد بها، وعلى ذات القدر تلك الفرضية التي أرجعت القرار إلى تضارب المصالح والرؤى داخل بنية النظام الروسي، ذلك أنه في نظام دكتاتوري أمني كالنظام الذي يقوده بوتين، لا يتاح فيه مكان لمراكز قوى واستقطابات مؤثرة، وعليه فإنه والحالة هذه فإن خطوة بوتين، يمكن أن تتحدد بشكل أولي ومفتوح في عدد محدود من الاحتمالات منها:
- أن تكون حصلت تفاهمات غير معلنة مع الطرف الأميركي، على تسهيل وتسريع الحل السياسي وفقًا للقرار 2254 لعام 2015، وهذا الاحتمال لم تظهر أية مؤشرات ترجحه، فالولايات المتحدة لم تبدِ يومًا استعدادًا للاعتراف بالدور الروسي في سورية، فيما عدا تصريح المبعوث الأميركي جيمس جيفري مؤخرًا لطمأنة الروس على مصالحهم في سورية، وكان ديدنها الدائم، أنه “لا ربط بين الملفات” في إشارة ضمنية ربما، لمحاولة روسيا مقايضة الوضع في سورية مقابل نظيره في أوكرانيا التي تدخلت فيها عام 2014، ويحضر في هذا السياق تصريح لمساعد وزير الخارجية الأميركية ديفيد شينكر قال فيه: “أن على روسيا مغادرة سورية، لأنها تلعب دورًا مدمرًا هناك” معتبرًا أنها توسعت في المنطقة بسبب” خطأ كبير ارتكبته إدارة أوباما”، وقد جاء الرد الروسي الحانق من تصريح مصدر في الخارجية الروسية لوكالة نوفوستي بقوله: “يبدو أن شينكر لا يدرك على الإطلاق ما يقول، هذا خروج عن نطاق أي تقييم، إنه مجرد حماقة ومستوى المهنية بات منخفضًا جدًا”، وبغض النظر عن التصريحات والتصريحات المضادة بين الولايات المتحدة وروسيا، فإن هذا الاحتمال دونه عقبات قد يصعب على روسيا تجاوزها، فهناك الوجود الإيراني على الأرض، وحجم الاستثمار الإيراني في سورية بالمال والرجال في إطار مشروعها التوسعي، ما يفترض عدم تخليها بسهولة عن سورية، التي تعتبر جسرًا على طريق طموحها بالوصول إلى ساحل المتوسط، صحيح أن روسيا لم تعترض على القرار الأميركي الإسرائيلي الحاسم بإخراج إيران من سورية في اجتماع القدس الثلاثي الأمني، الأميركي – الروسي – الإسرائيلي، الذي عقد في القدس بتاريخ 18 حزيران/يونيو2019 وضم مسؤولي الأمن القومي في الدول الثلاث، كما أنها لم تعترض على الضربات الجوية الإسرائيلية المتواترة للمواقع الإيرانية على مساحة الأرض السورية، إلا أنها لم تبدِ أي تعاون للمساهمة في إخراج إيران على المستوى السياسي أو العسكري، على الرغم من بعض التذمر الذي تبديه موسكو من حركات التشويش والمشاغبة على الجهود الروسية التي تقوم بها طهران بين الفينة والأخرى، وآخرها إعادة جزء من ميليشياتها إلى الجنوب السوري وعودتها إلى البناء المجاور لمطار دمشق الدولي، بعد أن انسحبت عام 2018 لمسافة 80 كم من حدود الجولان، ذلك أن المنطق والتجربة يسمحان بترجيح أن هناك أمران في سورية، لن تضحي بهما موسكو، دون أن تحصل على مقابل ذي معنى في سورية أو في مناطق وملفات أخرى، الا وهما عدم التضحية بالأسد أو الاصطدام بالحليف الإيراني والمساهمة المباشرة في إخراجه.
- أن تكون موسكو يئست أو هي على وشك من تعاون الولايات المتحدة والتفاوض معها على الملف السوري، فالأذن الأميركية، مازالت تضرب صفحًا عن سماع الدعوات الروسية بهذا الخصوص، فاتجهت إلى تكليف يفيموف لخلق المزيد من العراقيل أمام أية جهود أميركية أو دولية لتمرير حل سياسي لا يرضيها، وإذا كان هناك توجه لدى الكرملين لمثل هذه الفرضية، فإن هذا سيقود موضوعيًا، لأن تتحول روسيا تدريجيًا إلى دولة محتلة لبلد على حافة الانهيار، هي أعجز عن الإيفاء بمتطلباته على المستويات السياسية أو الأمنية أو الاقتصادية وإعادة الإعمار، وهنا مكمن المأزق الروسي في سورية، فلا هي قادرة على الانسحاب، هذا إذا توفرت النية لدى الأطراف المتدخلة الأخرى بتسهيل انسحابها، ولن تكون قادرة على تغطية التزاماتها كقوة احتلال.
- بما أن بوتين طالما فاخر بأن الرئيس السوري، ساهم في عودة روسيا إلى المسرح الدولي كقوة ذات قرار، فإنه قد يكون تعيين يفيموف مجرد خيار شخصي للرئيس الروسي، بأن يكون قريبًا من حليفه في دمشق، وأن يساهم عبر ممثله الخاص في ترتيب أوضاع النظام الداخلية، وضبط الاهتزازات، التي تداهمه من داخله ومن خارجه، على اعتبار أن يفيموف على دراية وإلمام واسع بالوضع السوري وتحولاته، كونه سفير مقيم في دمشق، لكن مثل هذه الفرضية، ذات ترجيح ضعيف في دولة مثل روسيا وطموحاتها على المستوى الاستراتيجي.
في ضوء ما تقدم فإن السؤال الأساسي يدور حول احتمال فشل مهمة يفيموف أيًا كانت دوافعها، سؤال قد لا يطرب له أصحاب الرهانات الروسية على تدخلها في سورية، وتكلفته الباهظة على المستوى السياسي أو الأخلاقي، بحكم الدمار والخراب الفظيع الذي أوقعه طيرانها في المدن السورية، ومما لا شك فيه فإن مثل هذا الخيار، سيكون له تداعيات في غاية السلبية لجهة الدور الروسي وتدخلاته في أكثر من منطقة من العالم، كما سيكون له أثر بليغ على مكانة بوتين الحريص على تقديم نفسه للروس وللعالم بأنه “القائد الذي انتشل الأمة الروسية من نكستها عندما انفرط عقد الاتحاد السوفيتي”.
رابعًا: خاتمة
لقد بات من نافل القول إن الصراع الدائر والمفتوح في سورية على درجة من التعقيد، تجعل إمكانية حله ليست باليسيرة، سواءً لجهة تعدد الدول المتدخلة وتضارب أجنداتها، أو لجهة تعقيدات الواقع السوري وانفلاشه بعد خمسين عامًا من ممارسات نظام استبدادي وفاسد، وأن أي محاولة لتمرير حل سياسي، باتت تتطلب كسر المعادلات الحاكمة للصراع، ومنها إخراج إيران وتركيا وتقرير مصير النظام، وكل تحرك ما قبل هذه الخطوة، لا يعدو عن أن يكون تقطيعًا للوقت، بما فيها تعيين يفيموف، بانتظار أن تتعب الأطراف المعنية بالتتالي تحت وطأة الضغوط التي تتعرض لها.