ورقة قُدمت في إطار اللقاء الحواري الأول لـ صالون الكواكبي – مركز حرمون للدراسات المعاصرة – حول قضايا “الدين والدولة والسياسة” – إسطنبول في يومي 8 و9 تشرين الأول/ أكتوبر 2016.
يصح الحديث عن حقوق المرأة وأدوراها المختلفة استنادًا إلى المراحل التاريخية الكبرى التي مرت بها الثقافات البشرية، والانعطافات الخاصة بشكل التنظيم الاجتماعي، كتجربة لكل مجتمع بحد ذاته.
بناء على هذا، يمكن قراءة حقوق المرأة ومكانتها ودورها، اتكاء على النسق الاجتماعي والثقافي السائد في مرحلة معينة من تاريخ مجتمع ما، محكوما بجملة التصورات والأفكار حول شكل العلاقات وأدوار الأفراد والفلسفة الحياتية السائدة، المؤسسة لقواعد ومعايير ضابطة وناظمة لممارسة الحياة.
هكذا اختلف موقع المرأة بين الحضارات القديمة قبل انتشار الأديان السماوية مثلًا، فمنحت بعض الثقافات المرأة وضعا مميزًا من حيث حقوقها العامة والخاصة امتد للحقوق السياسية والحكم، وحرمت بعضها على المرأة حتى التصنيف في خانة الأفراد والمواطنين في تنظيمها الاجتماعي.
ولأن تاريخ المجتمعات يمكن قراءته كتاريخ للتشكيل والتنظيم الاجتماعي، فقد شهدت مراحل تطور المجتمعات أدوارًا متباينة للأفراد عموما وللنساء خصوصا فيها.
مع ظهور الأديان السماوية اختلف الحال تمامًا بالنسبة إلى التنظيم الاجتماعي، وبالتالي موقع ومكانة وحقوق وواجبات الأفراد فيه. من تعاليم الديانة اليهودية والمسيحية والإسلامية، اتخذ النسق الديني دوره الرئيس الحاكم والناظم لشكل العلاقة التي تأسست على بنية من التراتب والولاء بشكل جديد يرتبط بالمقدس والمتعالي ومفاهيم العقيدة والمسلمات.
اختلفت حقوق المرأة بين الأديان، وبعد تجارب كثيرة استغل فيها المتغير الديني لإحكام السيطرة على الأفراد في تفاصيل الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية، نزعت المجتمعات الإنسانية إلى وضع قوانين تبتعد عن التشريعات الآتية من النص الديني، في محاولة لتنظيم اجتماعي وضعي يعيد تشكيل دور وموقع ومكانة الأفراد فيه.
عانت المرأة رغم ذلك من التهميش والاستبعاد والحرمان في جوانب عدة من حقوقها مقابل تزايد واجباتها، بحكم التمييز القائم على الجنس والأفكار المسبقة حول أدوارها الممكنة. هكذا مثلا نجد ندرة في كتابة تاريخ المجتمعات من وجهة نظر أنثوية، بمعنى أدوار المرأة في التغييرات الكبرى التي تطرأ على المجتمعات، وهو ما تم الالتفات إليه في مراحل متأخرة في الوقت الحاضر.
ظهر عديد الأسئلة “الوجودية” للنساء عمومًا في العالم، ومن تلك الأسئلة مثلا: لماذا تغيب المرأة عند الحديث عن التغيرات السياسية والثورية؟ ولماذا لا يذكر تاريخ العلم أو الثقافة مساهمات النساء فيه؟ لماذا تعامل فترات حضور النساء في الحياة السياسية والحكم لمجتمع ما على أنها طفرة وحالة استثنائية؟ وغيرها من الأسئلة التي أسست لنشوء بعض الحركات النسائية، اتخذت في طرحها تصورات قاربت في كثير منها الرؤية الراديكالية.
وكالعادة، لم تكن لاتفاقيات الأمم المتحدة الموافق عليها من توقيع دول كثيرة عليها الأثر الإيجابي الدائم، فما يغيب عن بال المهتمين والداعمين لحقوق المرأة وقضاياها، هو أن التغيير في النظرة إلى الأفراد والمواقع والمكانة لا يأتي بقرارات ناجمة عن المؤتمرات، وإنما تنحصر فائدتها في وضع برامج لتمكين المرأة ووضع خطط من شأنها “تعديل” المزاج العام تجاهها ومحاولة “شرعنة” الحقوق على المستوى الاجتماعي.
يدعم صدور القوانين الإيجابية المساندة للمرأة في الكثير من المجتمعات، مكانتها ودورها وهذه حقيقة لا جدال فيها، لكنها ليست بالضرورة أن تقوم على تعديل “بنية” السلوك والنظرة تجاهها على مستوى الحياة اليومية والعلاقات، وهو السبب الذي التفتت إليه الحركات التي يمكن إدراجها تحت مسمى “النسوية” في أوجها في مرحلة سبعينيات القرن العشرين تصاعدًا.
وعت “الحركات النسوية” ما تتضمنه القوانين الإيجابية بحق المرأة من مفاعيل محدودة، ولهذا قام كثير من التصورات النظرية والعملية التي تدعم مفاهيم العائلة والأسرة بوصفها الوحدة الاجتماعية التي تؤسس للتمييز ضد المرأة، وتمنح الأفراد فيها تباينًا للأدوار والمكانة، وبالتالي، تكريس “السلطة” الاجتماعية” ومن ثم الثقافية والسياسية.
ورغم موجة الحركات النسوية “والتي قرأت في دورها بطرائق غير نسوية من بعض المفكرين”، فإنها على المستوى الواقعي قد أساءت إلى قضية المرأة، وأنتجت مطالبها بالمساواة التامة فصلا تعسفيا للمرأة عن المكون الاجتماعي كلّه.
إذ كرس مفهوم “المساواة التامة” بين الرجل والمرأة النظرة الكلاسيكية إلى الفرز بين الذكر والأنثى، وهو ما تم استدراكه في التصورات الجديدة منذ تسعينيات القرن الماضي في الانتقال إلى مستوى جديد من العمل على “تمكين المرأة” من خلال المساواة في “الأدوار الاجتماعية” في ظل الاختلافات الفيزيولوجية بينها وبين الرجل، وهو ما استقر نهاية مع مفهوم “الجندر” أو “النوع الاجتماعي” في الترجمة العربية للمصطلح.
أعتقد هنا، أن القوانين سواء أكانت وضعية أم دينية، فإن الاشتغال الحقيقي يكون على “الدور” المناط بالمرأة في التنظيم الاجتماعي العام، والمساحة التي يتحرك فيها الأفراد الفاعلون أولًا ومن ثم شرائح المجتمع وفئاته، وهنا تكون قضية المرأة وحقوقها وأدوارها، فهي جزء عضوي من نظام اجتماعي وسياسي عام يمنح للمرأة “بوصفها” عضوًا في المجتمع دورها ومكانتها، التي تختلف بالضرورة من مرحلة لأخرى في خط تطور التنظيم الاجتماعي المعني.
يبقى الجانب القانوني المتعلق بالتشريعات الخاصة بالمرأة هو نتيجة للدرجة التي وصل إليها النظام الاجتماعي من انسجام وتجانس على مستوى الأنساق الكلية والفرعية المشكلة له. فالحديث عن دور القوانين في تمكين المرأة ليس كافيا بحد ذاته، ما لم يدعم باتجاهات قائمة على الصراع والاتفاق على الأدوار الممكنة للفئات التي ينبني عليها التنظيم الاجتماعي.