ليس واضحًا بالنسبة للعرب عمومًا، تعريف وماهية مفهوم المجتمع المدني، ولاشك أيضًا أنهم يحاولون تطبيق هذا المفهوم على واقعهم العربي دون معرفة ضوابطه وشروطه وأسس إقامته، بل وربما لا يثدركون الشروط الموضوعية التي يجب توافرها في بلدهم ليستطيعوا تطبيق هذا المفهوم على الأعمال المجتمعية والسياسية في مجتمعاتهم.

تُحاول الدولة في المجتمعات العربية، ومن خلال أجهزتها القوية، ونظامها الإداري الصارم والمغلق، والبيروقراطية، الهيمنة على مهمات المجتمع المدني، والسيطرة على مؤسساته، وإفراغها من محتواها، وإدماجها في أجهزتها، ووضعها تحت سلطتها، وتنحيتها عن مهماتها الأساسية، وتحويلها إلى أطر شكلية هشة معدومة الصلاحية، وإعاقة مشاركتها الحقيقية في التطور. وتتولى الدولة بذلك وضع العقد الاجتماعي، وأن توكل لنفسها أمر تطبيقه، فتصبح هي القانون والنظام، والقوة والقدرة، والخصم والحكم، وتتولى العملية التربوية، وتُنفّذها في ضوء نظرتها وفلسفتها، بغض النظر عن مفاهيم المجتمع ومصالحه، وتوجهها لتطبيق المبادىء والمفاهيم التي تراها مناسبة. وبالنتيجة تفقد العملية التربوية دورها كعملية تنمية بشرية، ويفقد المجتمع المدني دوره الأساسي والحساس في أي دولة ومجتمع.

مفهوم المجتمع المدني هو نتاج الفكر السياسي الأوروبي، المرتبط بتطور المجتمعات الأوروبية أو الناتج عنه. وقد تأثرت دلالته بالتطورات التي حدثت في هذا الفكر خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر خاصة، وبالرغبة والإرادة التي أظهرها هذا الفكر في التخلص من النظام القديم في أوروبا، نظام العصور الوسطى، ذي السلطة المطلقة والحق الإلهي للملك.

لقد كانت للسلطة مرجعيتان مندمجتان في مرجعية واحدة، الأولى مرجعية دينية ممثلة بالكنيسة ورجالها، والثانية مرجعية سياسية ممثلة بالنبلاء وملاك الأرض. وهي سلطة مقدسة ذات حق إلهي، سواء الدينية منها أم المدنية، ومادامت مقدسة فهي مطلقة، والناس رعايا تابعون خاضعون، لاحق لهم في المساواة في مجتمع اقطاعي مكون بمجمله من نبلاء وفلاحين، ولا في المشاركة بالسلطة أو الثروة التي احتكرها المالكون.

كان من أبرز الفلاسفة الذين ساهموا بتأسيس المفاهيم الجديدة لوك وهوبز وسبينوزا ومونتسكيو وروسو، وقد حاول كل منهم أن يقدم فهمًا ويتبنى موقفًا من المجتمع التالي للمجتمع القديم، وتوصل كل منهم إلى تفسير مختلف أحيانًا عن الآخرين ومتفق معهم أحيانًا أخرى، إلا أنهم جميعًا رغم تباين أساليبهم ومواقفهم توصلوا إلى نتائج متشابهة أو متفقة، خلاصتها أن المجتمع يرتبط بعقد اجتماعي متفق عليه من فئاته وطبقاته ومؤسساته وتكويناته الاجتماعية، وهذا العقد هو مجموعة من المبادئ والشروط والنظم والتوجهات التي تشكل قاسمًا مشتركًا لفئات المجتمع، وهو في الواقع تسوية بين هذه الفئات، تأتي نتيجة تنازلات متبادلة من أجل تحقيق مصالح متبادلة، فكل فريق اجتماعي يحصل بموجب العقد الاجتماعي على شيء ويتخلى عن شيء، في إطار توازن بالمصالح المادية والمعنوية، ويتفق الجميع على إيجاد علاقة ضابطة لهذا التوازن، ضمن شروط عامة هي تأكيد حرية الاختيار، وعلى مبدأ المساواة بين فئات المجتمع والمساواة بين أفراده، واعتراف الواحد بالآخر، وبإيجاد المناخ والأسلوب الديمقراطي لتحقيق هذا الاختيار.

أغنى المفكرون الليبراليون في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر مفاهيم المجتمع المدني، فأشاروا ـ مما أشاروا ـ إلى ضرورة احترام مبدأ استقلالية وسيادة مؤسسات المجتمع وتكويناته، وتكليفها بوظائف جديدة ومهمات جديدة، تتجاوز مهماتها القطاعية أو المهنية الضيقة لتشمل المجتمع كله.

من البديهي أن العقد الاجتماعي، وهو ما اتفقت عليه مؤسسات المجتمع المدني، يحتاج لمن يضمن تنفيذه، ويكون في الوقت نفسه منسقًا بين هذه المؤسسات، وحارسًا على مصالحها ومصالح أفرادها، ومن هنا كانت ضرورة وجود الدولة. أما ما هي ماهية هذه الدولة ومفهومها ودورها ومدى سلطتها ومدى استمراريتها وعلاقتها بالمجتمع المدني، فهذا ما اختلف الفلاسفة والمفكرون فيه اختلافات بينة: فقد رأى المفكرون الليبراليون أن (الفرد في المجتمع يحرص أشد الحرص على تأمين وجوده أولًا وحفظ ممتلكاته ثانيًا، لأن الملكية –بنظرهم- من أهم المصالح، وحمايتها واجب لا يجوز التفريط فيه، وفي الملكية تكمن معاني عظيمة عديدة عند كبار منظري الليبرالية الاقتصادية، والملكية هي ما يمدُّ الإنسان بالدعة والاستقرار اللازمين في اكتساب المعارف وفي إصدار الأحكام الصائبة، وهي وحدها ما يجعل البشر أهلًا للحقوق السياسية)(1)، وهذا ما يستوجب وجود حارس أمين على الملكية وعلى مصالح الناس وأمنهم، وهذا الحارس ليس إلا الدولة التي يكلفها المجتمع بهذه المهمة، التي عليها أن تقوم بها دون أي تدخل من قبلها في تغييرها، فهي حارس فقط وليست مشرعًا ولا لها حق التدخل في شؤون المجتمع ومؤسساته، إلا إذا خالف فرد أو خالفت مؤسسة شروط العقد وما اتفقت عليه مؤسسات المجتمع المدني. لقد جاءت الدولة لحماية العقد الاجتماعي، المبني على الحقوق والواجبات، والمعترف بالحرية والديمقراطية والمساواة، وليس لها حق التدخل في المجتمع المدني، بل مهمتها تنفيذ اتفاقه وميثاقه وعقده.

إن هذا المفهوم المتصور للدولة من قبل الفلاسفة والمفكرين السياسيين الليبراليين هو مفهوم على الورق فيما يبدو، لأن المجتمعات الإنسانية لم تشهد -حتى الآن- دولة اكتفت بمثل هذه المهمات فقط، بل يشهد التطور في القرنين التاسع عشر والعشرين على نزوع الدولة للسطو والهيمنة على صلاحيات المجتمع المدني ومهماته ومصادرتها، والدخول في أخص خصوصياته حيثما أمكنها ذلك. وعلى أية حال، لاقى هذا المفهوم عن الدولة، وهذه المهمات المتصورة لها، اختلافات وخلافات وصراعات بين المذاهب الإيديولوجية والسياسية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، ومازال الحوار قائمًا حتى الآن.

فقد رأى هيجل مثلًا أن الدولة هي حامية الحرية وأن المجتمع المدني ومؤسساته عاجز عن حماية هذه الحرية وعن ترسيخ العلاقات الديمقراطية بين تكويناته، وأن الدولة وحدها القادرة على هذا الأمر، وأن المجتمع المدني هو مجال تقسيم العمل وإشباع الحاجات المادية، وهو في الوقت نفسه مجال تنافس المصالح الخاصة والمتعارضة إنه يحمي الحق المطلق للفرد ويزيد من حاجات الناس ووسائل إشباعها، أما الدولة فهي النظام السياسي القادر على صيانة مصالح المجتمع المدني(2). ودعا هيجل إلى الدولة القوية باعتبارها الوسيلة التي تكفل تحقيق المصلحة الخاصة والعامة، فلم تعد الدولة في المنظومة الهيجلية تركيبًا اصطناعيًا حاصلًا بفعل التعاقد الحر بين المواطنين، بل أنها أصبحت الجوهر والأصل وأصبح الأفراد مجرد إنتاج(3).

أما ماركس فقد رأى أن المجتمع المدني هو القاعدة المادية للدولة، وهو نقيضها في الوقت نفسه، وأن الدولة سلطة طبقة بعينها، طبقة تملك وسائل الإنتاج، وتضع القوانين التي تحمي ملكيتها وتديم استغلالها، وتشرع هيمنتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتتحكم بالمجتمع المدني. وما القوانين والأنظمة والإجراءات والنشاطات التي تقوم بها الدولة بنظر ماركس إلا وسائل لتكريس حكم الطبقة وسيطرتها وخدمة مصالحها، وقد لخص إنجلز موقف الماركسية من الدولة بقوله (ليس الدولة سوى آلة لقمع طبقة من قبل طبقة أخرى، والأمر في ذلك سواء في الجمهورية الديمقراطية أو في الملكية)(4).

مادامت هذه مهمات الدولة الحقيقية حسب الماركسية، ومادام دورها هو الحاسم لأنه المشرّع والمنظم للمجتمع والمهيمن عليه، فعلى البروليتاريا وهي الأكثرية في المجتمع، أن تستلم السلطة وتُقيم دولتها وتسن قوانينها وأنظمتها وتفرض سيادتها.

وقد رأى المفكرون الليبراليون أن الدولة التي تعمل لها الماركسية إنما تُهيمن على المجتمع وتحتويه، وتعتمد على طبقة واحدة وحزب واحد يُلغي الأحزاب الأخرى، وعلى رأي واحد يُلغي الآراء الأخرى، وتجعل المجتمع بيد قيادة مركزية شديدة تكاد تكون قيادة عسكرية مُطلقة الصلاحيات والمهمات، مما يُعطّل مؤسسات المجتمع المدني ودورها الفاعل والخلاق في التطور من جهة، وفي ترشيد سلوك الدولة من جهة أخرى.

طور غرامشي مفهوم الدولة وعلاقتها بالمجتمع بشكل مختلف عن آراء الليبراليين وآراء ماركس، ورأى في الدولة المجتمع السياسي مضافًا إلى المجتمع المدني، ولخص الدكتور كريم أبو حلاوة(5) نظرية غرامشي بما يلي: “بينما يحتوي المجتمع المدني على التنظيم السياسي للمجتمع بأحزابه ونقاباته وتياراته السياسية، تحتكر الدولة السلطة السياسية عبر أجهزتها ومؤسساتها المختلفة، وتستمد مشروعيتها من المجتمع المدني من خلال عمل آليات السيطرة والتحكم والتوجه من جهة، وعبر الانتفاع والقبول والرضا من جهة ثانية”.

يرى غرامشي أن العلاقة بين السلطة السياسية المتمثلة بالدولة وبين التنظيمات والأحزاب الممثلة للمجتمع، هي ضمانة عدم تصلب وتكلس النخب الحاكمة وتفردها بالسلطة. وقد تبيّن أن كل ضعف يصيب المجتمع المدني ومؤسساته ومنظماته المختلفة، يؤدي إلى إضعاف الرأي العام وتراجع الإرادة الجمعية، وهنا تأتي البيروقراطية لتكمل هذه الحلقة، التي تؤدي بحزب الطبقة العاملة، الذي يفترض أن يكون أداة تحرير، إلى إعادة إنتاج الاستبداد وحذف التعددية، فيصبح هذا (الحزب – الدولة) عقلًا وحيدًا ينطوي بذاته على اللحظات كلها من معرفية وسياسية وأخلاقية، ويصادر الفعل النقدي، الذي هو الفعل الوحيد المنتج.

وهكذا فإن الهيمنة بنظر غرامشي هي المفهوم الشامل للدولة، أي السياسة زائد الثقافة، إذ أن الدولة كي تعيد إنتاجها وتضمن استمرارها وتطور طرق سيطرتها على الجماهير، تلجأ إلى وسيلتين هما القمع والإقناع، وهذا ما يلخصه غرامشي في تعريفه لكلمة الهيمنة بمعناها الكامل المتضمن فعلين هما: القيادة والسيادة. وتفسير ذلك كما أشارت أمينة رشيد(6) أن الدولة لا تعتمد فقط على جهازها القمعي المكون من البوليس والجيش والتشريعات القهرية، بل في خلقها ثقافة تضمن إخلاص المواطنين حتى لأهداف متناقضة مع مصالحهم الحقيقية، فإلى جانب دورها القمعي ينبغي أن تقوم الدولة بدور تربوي، فالمهمة التربوية التشكيلية للدولة تستهدف دائمًا نماذج مدنية جديدة أكثر نموًا، توفق بين المدنية وأخلاقيات الجماهير الشعبية الأوسع، وبين حاجات النمو الدائم للجهاز الاقتصادي للإنتاج.

وبهذا، غدت آليات الإقناع المشخصة بالتربية ووسائل الإعلام والثقافة هي محل تنافس بين المجتمع المدني وبين الدولة. ويرى رينيه أوبير(7) أن التربية هي جملة الأفعال والآثار التي يحدثها بإرادته كائن إنساني في كائن إنساني آخر، وفي الغالب راشد صغير، والتي تتجه نحو غاية قوامها أن تكون لدى الكائن الصغير استعدادات منوعة تقابل الغايات التي يعد لها حين يصبح في طور الرشد.

ويرى فيها دوركهايم تكوين الفرد تكوينًا اجتماعيًا، فهي العمل الذي تحدثه الأجيال الراشدة في الأجيال التي لم تنضج بعد النضج اللازم للحياة الاجتماعية، وموضوعها أن تثير لدى الطفل وتُنمّي عنده عددًا من الحالات الجسدية والفكرية والروحية التي يتطلبها منه المجتمع السياسي في مجموعه والبيئة الخاصة التي يهيأ لها.

ويؤيد جون ديوي هذا الرأي لأنه إذا تحدثنا بلغة التنوع قلنا إن التربية تعني مجموع العمليات التي يستطيع بها مجتمع أو زمرة اجتماعية، صغرت أو كبرت، أن ينقلا سلطاتهما وأهدافهما المكتسبة بغية تأمين وجودهما الخاص ونموهما المستمر. وهي -أي التربية- تنظيم مستمر للخبرة، هدفه توسيع محتواها الاجتماعي وتعميقه، بينما يهضم الفرد في الوقت نفسه الوسائل الملائمة ويتمثلها، ويرى كرشينشتاينر أن العمل التربوي عمل ملازم لكل مجتمع بشري وضروري له. ويجعل الدوس هكسلي هدف التربية تنشئة الكائنات الإنسانية الفتية على الحرية والعدالة والسلم(8).

يقول رونيه أوبير أن لا تربية بلا مجتمع، لأن الإنسان لا يمكن أن يعيش في غير الحال الاجتماعية، والنموذج البشري الذي يهدف كل مجتمع إلى تحقيقه عن طريق التربية يلبي الفكرة التي يكونها هذا المجتمع عن نفسه، وفكرة الإنسان هي فكرة اجتماعية، أو كما يقول علماء الاجتماع تصور جمعي، وبالمقابل لا مجتمع بلا تربية، وكل مجتمع ينزع إلى أن يستمر و يبقى في إتجاه نموه الماضي ومنازعه وتطلعاته الحالية، وهو ينجح في هذه المهمة بأن ينقل إلى الناشئين إرثه من المعارف والتجارب والعادات المادية والروحية، أي طراز حياته من جهة ونظرته إلى الوجود من جهة ثانية. إن التربية إدخال تدريجي للفرد في المجتمع، وتدريب للفرد على منظومة معارف هذا الوسط وعاداته الفنية ومعتقداته الخلقية وعواطفه السياسية. وهي تكامل مع المجتمع واندماج فيه، وتكييف مع البيئة الطبيعية.

إن العلم والأخلاق والفن لا يمكن أن تستمر إلا عن طريق التربية، التي هي نقل يقوم به حامل القيم بإشراك الكائن الفتي الذي يصبو إليها، إنها عمل اجتماعي من الطراز الأول.

إن التربية لا تشكل المجتمع كما يقول باولوفرير بل المجتمع هو الذي يشكل التربية وفقًا لمصالح أولئك الذين يمسكون بزمام السلطة فيه، صحيح أن التربية تسهم في صيانة المجتمع ومراقبته ولكن ذلك لا يبرر الاعتقاد بأنها تملك من القوة ما يمكنها من إقامة مجتمع ما. كما أنها ليست أقوى ولا أعلى قدرًا من المجتمع.

وعلى ذلك فإن بنية العلاقات الاجتماعية القائمة في المجتمع هي التي تهيمن على النظام التربوي هيمنة مباشرة. وتغيير النظام التربوي تغييرًا جذريًا أمر مرتبط بتغيير جذري في المجتمع نفسه، إذ يعتبر المجتمع هذا النظام تعبيرًا عنه وأداة لازمة(9).

إن العمل التربوي هو منظومة فرعية من جملة المنظومات المكونة للمنظمة المجتمعية الكلية، بما تشمله من منظومة سياسية واقتصادية وثقافية، ولابد أن تعمل في تناغم واتساق مع سائر المنظومات الاجتماعية، وما يستتبع حتمية الاستناد إلى منطلقات مجتمعية عامة هي التي تُشكّل ما نسميه بفلسفة المجتمع.

من الواضح إذن ضرورة التربية للمجتمع، فهي تساهم في تكوين موقف الفرد من الكون والحياة، وتنقل إليه قيم المجتمع وحاجاته وتقاليده، وتحافظ على صيانة المجتمع وتساهم في تطوره. ومادام الأمر كذلك فلا بد أن تكون الأسس التي تهتم بالتربية بنقلها وتكوين الفرد من خلالها هي الحفاظ على قيم ومبادىء حقوق الإنسان في الكرامة والحرية والعدالة والمساواة والتسامح والتضامن، لأن هذه المبادىء هي الكفيلة بحماية حرية الأفراد وديمقراطية علاقاتهم، وإشاعة احترام التعددية وفهم الرأي الآخر، ورفض التفرقة، والاعتراف بحرية التعبير والتفكير والمعتقد والاجتماع والتنقل والاتصال والحق بالمشاركة باتخاذ القرار، والمساواة أمام القانون بين الجنسين، وعدم التمييز على أساس العرق واللون واللغة والحق في تكافؤ الفرص، وفي العمل والتعليم ونبذ العنصرية والعنف واحترام الاختلاف ومحاربة الكراهية الدينية والقومية، والاعتراف بحق تقرير المصير، لأن هذه هي المبادىء التي تحافظ على المجتمع المدني وتصونه، وتدعم بنيانه، وتساند استمراريته، وتمتن لحمته وتماسكه، بحيث يشعر كل فرد أو مؤسسة أو تكوين اجتماعي أن له حقوقًا متساوية مع الأفراد الآخرين والتكوينات الأخرى. وأن عليه الواجبات نفسها. هذه هي منطلقات التربية ومفاهيمها وقيمها في المجتمع المدني.

أما في مجال التطبيق العملي لهذه المفاهيم والمبادىء والقيم فإن المجتمعات واجهت وتواجه صعوبات منها أن تحاول الدولة من خلال أجهزتها الإدارية القوية، ونظامها الإداري الصارم والمغلق، أي من خلال البيروقراطية، والمؤسسات الأخرى الهيمنة على بعض مهمات المجتمع المدني، والسيطرة على مؤسساته، وإفراغها من محتواها، وإدماجها في أجهزتها، ووضعها تحت سلطتها، وتنحيتها عن مهماتها الأساسية، وتحويلها إلى أطر شكلية هشة معدومة الصلاحية، وإعاقة مشاركتها الحقيقية في التطور. وتتولى الدولة بذلك وضع العقد الاجتماعي، وأن توكل لنفسها أمر تطبيقه، فتصبح هي القانون والنظام، والقوة والقدرة، والخصم والحكم، مما يؤدي بالضرورة إلى توليها العملية التربوية، وتنفيذها في ضوء نظرتها وفلسفتها بغض النظر عن مفاهيم المجتمع ومصالحه. وتوجهها لتطبيق المبادىء والمفاهيم التي تراها مناسبة. ولا تبيح بذلك للتربية تأدية مهماتها في التعبير تعبيرًا شاملًا عن المجتمع المدني والالتزام بمبادئه ومفاهيمه وقيمه وتطلعاته، كما تمنع تكوين التيار الاجتماعي الذي ينحو إلى ضبط التجاوزات وبالنتيجة قد تفقد العملية التربوية دورها كعملية تنمية بشرية، وتخلق جيلًا يعاني الانفصام وازدواج الشخصية، بين ما يربى عليه وبين حاجات مجتمعه، فينشأ جيل غير واع بفلسفة المجتمع وبالاتجاهات والمقومات الأساسية فيه كثقافة وبنية ومجموعة قيم ومبادىء ومصالح وحاجات، وغير قادر، وربما غير واع بضرورة الانتماء إلى المجتمع المدني قبل أي انتماء آخر.

إن هيمنة الدولة على العملية التربوية، لا تصادر قيم ومفاهيم التربية فحسب، بل تؤثر حتى في أسلوب التعليم نفسه، من خلال المنهج التلقيني الذي يصفه باولو فرير بأنه يحوّل الإنسان إلى إناء يتوجب ملؤه، ويجعل التعليم وسيلة للإيداع، أي إيداع المعلومات لدى الناشئة، بدلًا من أن يجعله وسيلة لتسليط الأضواء على مشاكل الإنسان مع هذا العالم الذي يعيش فيه. إن التربية المؤهلة لخدمة المجتمع هي تلك القائمة على الحوار لا على التلقين الذي يتماهى غالبًا مع هيمنة الدولة على مفاهيم التربية، ويكون وسيلة من وسائل القهر، وعنصرًا من عناصر التخلف.

لقد كانت التربية محافظة في النظام القديم، ترفض أي تطور اجتماعي أو ثقافي، لأنها ترى فيه عنصر تهديد لسلطة القوى السائدة، قوى الكنيسة والنبلاء، ولذلك كان لها مفاهيمها وأساليبها الخاصة التي جعلتها عنصر تخلف وركود، أما التربية في المجتمع المدني فهي، من خلال المفاهيم التي أشرت إليها، عنصر تحرر وتطور وتغيير.

صحيح أن مفهوم المجتمع المدني، وتطبيقاته وعلاقاته مع الدولة، هي نتاج لتطور المجتمعات الأوروبية وصراعات طبقاتها وفئاتها الاجتماعية، وثوراتها، وتجاربها، وهو صنو للمجتمع الصناعي، إلا أن ذلك لا ينفي أن المجتمعات العربية شهدت مفاهيم نظرية، وتطبيقات عملية، تلامس مفهوم المجتمع المدني، وكانت بذورًا جنينية لم يتح لها التطور أن تكتمل كما اكتملت في مجتمعات أخرى.

فمن الناحية النظرية أشار مفكرون عرب إلى مشكلة المجتمع والدولة، فقد لاحظ ابن خلدون مثلًا وجود فرق بين المجتمع والدولة، وميز، حسبما يشير وجيه كوثراني، السياسة المدنية عن السياسة المحكومة بوازع الحاكم المستند إلى شرع مُنزّل، وعن السياسة العقلية، فقد قال ابن خلدون: وما تسمعه من السياسة المدنية فليس من هذا الباب وإنما معناه عند الحكماء ما يجب أن يكون عليه كل واحد من ذلك المجتمع في نفسه وخلقه حتى يستغنوا عن الحكام(10).

ومثلما اهتم رواد النهضة الأوروبية بالمجتمع المدني اهتم رواد النهضة العربية به أيضًا، وسواء كان اهتمامهم تقليدًا أم اقتباسًا أم استجابة لشروط التطور، فإنه كان مبادرة شجاعة، في مجتمع أعطيت فيه للحاكم شرعية من خارج المجتمع وأضفوا عليها القدسية والقداسة، حتى صارت مواجهتها بالمطالبة بشرعية بشرية أو اجتماعية خروجًا عن القيم الدينية والأخلاقية وكفرًا وزندقة. ومأثرة النهضويين العرب في أنهم أشاروا إلى أن الاقتباس من الأوروبيين لا يعني مخالفة الاسلام، بل سعوا لإيجاد مقاربات بين المفاهيم الموروثة والمفاهيم الأوروبية الحديثة، فرأى الشيخ الطهطاوي (في مطلع القرن التاسع عشر) مثلًا أن ما نسميه عندنا بعلم أصول الفقه يسمى ما يشبه عندهم بالحقوق الطبيعية أو النواميس الفطرية، وما نسميه بفروع الفقه يسمى عندهم بالأحكام المدنية، وما نسميه بالعدل والإحسان يعبرون عنه بالحرية والتسوية. ورأى خير الدين التونسي أن ما فيه مصالح الأمة لا يمكن أن يكون متعارضًا مع الشريعة، وقال الشيخ محمد عبده الخليفة هو حاكم مدني، قبل أن يقولها مصطفى عبد الرزاق في القرن العشرين(11).

وفي ضوء ذلك قدم النهضويون العرب مساهمتهم في الدعوة للمجتمع المدني، فقال الطهطاوي أن الحقوق المدنية هي ثمرة التعاهد بينهم لحفظ أموالهم ونفوسهم وأعراضهم وما عليهم، محافظة ومدافعة، وهي حقوق العباد والأهالي الموجودين في مدينة بعضهم على بعض، فكأن الهيئة الاجتماعية المؤلفة من أهالي المملكة تضامنت وتواطأت على أداء حقوق بعضهم لبعض، وأن كل فرد من أفرادهم ضمن للباقين أن يساعدهم على فعلهم كل شيء لا يخالف شريعة البلاد. وأن لايعارضوه وأن ينكروا جميعًا من يعارضه في إجراء حريته بشرط أن لا يتعدى حدود الأحكام.

وأشار خير الدين التونسي معجبًا يالأوروبيين الذين نصبوا المجالس وحرروا المطابع، فالمغيرون للمنكر في الأمة الاسلامية يتقيهم الملوك كما تتقي ملوك أوروبة المجالس وآراء العامة الناشئة عنها وعن حرية المطابع. ومقصود الفريقين واحد، وهو الاحتساب على الدولة لتكون سيرتها مستقيمة، وإن اختلفت الطرق الموصلة إلى ذلك. وأن القوانين تقيد الرعاة كما تقيد الرعية.

وتحدث عبد الرحمن الكواكبي (في نهاية القرن التاسع عشر) عن الأمة متسائلًا هل هي ركام مخلوقات نامية، أم جمعية عبيد لمالك متغلب، أم هي جمع جمعت بينهم روابط جنس ولغة ووطن وحقوق مشتركة وجامعة سياسية اختيارية.

هذا من الناحية النظرية، أما في نطاق التطبيق، فقد كانت بذور المجتمع المدني موجودة في تاريخ المجتمعات العربية منذ العصر العباسي، وحسب عبد العزيز الدور(12)، فإن الدارس للعصر العباسي يلاحظ أنه استقر لكل حرفة عرفها وأصولها – في المجتمع- حتى كان هذا العرف مقبولًا لدى القاضي والمحتسب في فض مشاكلهم المهنية. ويروي وجيه كوثران عن المستشرقين غب وبوون أن الطائفة (أي اهل الحرفة) كانت تخدم عدة أغراض، فقد كانت توفر الوسيلة التي تمكّن أقل المواطنين شانًا من التعبير عن غرائزه الاجتماعية والاطمئنان إلى مكانته في النظام الاجتماعي. وكانت المجال الذي يمارس فيه حق المواطنة. فهو ـ أي المواطن ـ وإن لم يكن يستدعى إلا نادرًا لكي يلعب أي دور في الحياة السياسية، إلا أنه من الناحية المقابلة كان في مأمن من أن يتدخل حكامه السياسيون في شؤونه إلا بشكل طفيف. إذ كانوا بشكل عام يحترمون استقلال الطوائف (أي الحرف) وطرائقها التقليدية، مما كان ينمي الوظيفة الاجتماعية للطوائف ليس كلها بل معظمها وبخاصة طوائف الحرف(13).

إن سطوة الدولة خلال الحكم العثماني للبلدان العربية ومفهوم شرعيتها ومرجعيتها، والنظام الاستبدادي الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي كان قائمًا، لم يتح لهذه الأفكار أن تأخذ مداها في المجتمعات العربية وتجد صداها في التكوينات والمؤسسات الاجتماعية، إلا في فترات خاطفة سرعان ما تزول وقد اشتد ضغط السلطان عبد الحميد على المدارس، حتى حظر أن يعلم فيها التاريخ الصحيح وعلوم السياسة والاجتماع، لأنها ترقي العقول وتلقح الأذهان، كما قال محمد كرد علي عن تلك المرحلة.

إلا أن تبعية البلدان العربية المتباينة للآستانة، واحتلال الاستعمار الأوروبي لبعض هذه البلدان، أدى إلى عدم تجانس في تطورها وأخيرًا في مجتمعاتها، مازال بعضها قائمًا حتى اليوم. ومن العدل أن نشير أن الاستعمار الأوروبي بحكم طبيعة مجتمعاته، فسح هامشًا لقيام مؤسسات اجتماعية أو سياسية في بعض البلدان العربية وخاصة مؤسسات التربية، إلا أن هذا الفسح هذا كان بمقدار.

ومن جهة أخرى، لم تتح الأنظمة السياسية والسلطات الحاكمة في كثير من البلدان العربية لمجتمعاتها الظروف المناسبة لتمارس حقها ودورها في تكوين مؤسساتها، والوصول إلى عقد اجتماعي يحدد مهماتها وصلاحياتها وعلاقتها بالدولة والسلطة، فبقيت هذه المجتمعات بعيدة عن أداء وظائفها، واستلبت من الدولة وسلطتها. مما أبعد مشاركتها الجدية في العملية التربوية، أهدافًا ووسائل، وجعلها تتخلى عن هذه المهمة للدولة الوطنية التي قررت أهداف التربية ووسائلها ومفاهيمها ونظمها بما يتناسب مع رؤيتها ومصلحتها، دون أخذ رؤية المجتمع ومصلحته بعين الاعتبار في حالات عديدة وفي أقطار عديدة. ويمكن أن نأخذ على العملية التربوية في البلدان العربية وجود تناقضات في المرجعيات فيما يتعلق برؤيا واقع المجتمع ومصالحه وظروفه، مما يؤدي إلى اختلال باحترام التعددية، أو احترام الرأي الآخر، ومما يخل بمبادىء التضامن والتسامح والحرية والعدالة والمساواة، وبقيت العملية التربوية في معظم بلادنا العربية، تعليمات وإرشادات تشكل قشرة خارجية تسقط أمام أي امتحان، وتؤدي إلى ازدواجية في الشخصية بين تعليماتها وبين مفاهيم المجتمع ومصالحه، كما بقي أسلوبها تلقينيًا وعلاقة تسلطية لاتحترم الحوار، وتسعى لتحييد المجتمع، وفرض تصور الدولة الخاص للعالم عليه.

وفي الخلاصة، إذا أردنا للعملية التربوية أن تؤدي دورها، وتقوم بمهماتها، وتخدم مجتمعها، وتساهم في بنائه وتطوره، فلا بد أن يُتاح للمجتمع المدني المشاركة في وضع مفاهيم التربية والإشراف على تطبيقها، حتى تستطيع العملية التربوية أن تؤدي الوظيفة التي أوكلها إليها المجتمع، وأن تساهم في تكوين نشئ منسجم مع مجتمعه وحاجات هذا المجتمع ومصالحه ومع عقده الاجتماعي. وكلما همش دور المجتمع المدني في العملية التربوية، اغتربت هذه عنه، وابتعدت عن فهم مهماته ومصالحه، وتلاشت في نهاية المطاف لصالح العملية التعليمية البحتة،. وبهذا تتولى وسائل أخرى، أهمها وسائل الإعلام أمر القيام بالعملية التربوية في ظروف غير مناسبة لمجتمعنا، الذي يواجه الاختراق الثقافي والإعلامي، وتنمو فيه بالتالي تقاليد الاستهلاك والمجتمعات الاستهلاكية، وتساهم الثقافة الوافدة والمتدفقة من الخارج، مساهمة كبيرة في تكوين النشئ، بعيدًا عن ظروف مجتمعاتنا وقيمها وتقاليدها واحتياجاتها.

من مصاعب إنجاح العملية التربوية في البلدان العربية، في ظل غياب مؤسسات المجتمع المدني عن هذه العملية، مما يضعها تحت إشراف البيروقراطية، سواء في تحديد مفاهيمها ووظائفها وأهدافها أم في إقرار وسائلها. ولا تتطابق اجتهادات البيروقراطية غالبًا مع نبض المجتمع وحركته وديناميته، ولهذا نلاحظ اضطراب العملية التربوية العربية، وخاصة من حيث مرجعيتها وتفسيرها للكون والحياة، والتناقض بين محتويات المواد والكتب، وأحيانًا بين فصول الكتاب الواحد، وذلك لقلة مشاركة مؤسسات المجتمع مما يؤدي إلى نقص في تحديد المفاهيم والسبل، وترك الفنيين والبيروقراطيين ينوبون من المجتمع في مهمته الكبيرة هذه، وعليه، يجب أن تُتاح لمؤسسات المجتمع المدني المشاركة الجادة والمسؤولة في العملية التربوية، كمهمة اجتماعية ووطنية فائقة الأهمية.

الهوامش:

1. بنجامان كونستان، عن دراسة لسعيد بنسعيد العلوي، حول نشأة وتطور مفهوم المجتمع المدني في الفكر العربي الحديث، ص 61.

2. كمال عبد اللطيف، تعقيب على دراسة المجتمع المدني في الوطن العربي، ص 76.

3. المصدر السابق ص 76.

4. أوردها لينين في “الدولة والثورة”.

5. كريم أبو حلاوه، مفهوم المجتمع المدني، الأسس النظرية واختلاف الدلالات، مجلة النهج العدد8 عام 1996 ص 116.

6. أمينة رشيد، أنطونيو غرامشي والهيمنة بين الإيديولوجي والسياسي، قضايا فكرية، القاهرة دار الثقافة الجديدة، الكتاب التاسع والعاشر ص 141. عن فلسفات تربوية معاصرة، سعيد اسماعيل علي، عالم المعرفة الكويت، العدد 198 ص 184.

7. الجامع في التربية العامة، رونيه أوبير، ترجمة عبد الله عبد الدايم، منشورات كلية التربية بجامعة دمشق 1961.

8. سعيد اسماعيل علي، فلسفات تربوية معاصرة، عالم المعرفة، الكويت العدد 198 ص 193 ومابعد.

9. المصدر السابق ص 216.

10. ورد في وجيه كوثراني، المجتمع المدني والدولة في التاريخ العربي، دراسات الوحدة العربية، ص119.

11. معن زيادة، دراسة، المجتمع المدني والدولة في فكر النهضة العربية، المجتمع المدني في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، ص 153ـ 175. وقد استقينا أقوال النهضويين من هذه الدراسة.

12. أورد الاستشهاد وجيه كوثراني، مصدر سابق ص 125، (الدوري : مقدمة في الاقتصاد العربي67).

13. مصدر سابق ص 127.