اسم الكتاب: المجتمع المدني هوية الاختلاف

اسم المؤلّف: جاد الكريم الجباعي

مراجعة: فادي كحلوس

دار النشر: ترقا للطباعة والنشر والتوزيع

مكان النشر: دمشق/ سورية

تاريخ النشر: 2003

المحتويات

مدخل

الفصل الأول

مفهوم المجتمع المدني وراهنيته

الفصل الثاني

  1.  النهضة والمناخ النهضوي
  2. الأسس الليبرالية
  3.  بوادر الديمقراطية
  4.  في العقد الاجتماعي، نحو إعادة التفكير في الحداثة

الفصل الثالث

  1.  جدل الحرية والقانون
  2.  في الحرية
  3.  الخوف من الحرية

الفصل الرابع

  1.  الديموقراطية والمجتمع المدني
  2.  مقولة الشعب مقولة سياسية
  3. الفكر والأيديولوجية

الفصل الخامس

وضعية الدين في المجتمع المدني

بدلًا من الخاتمة

 

بين مفهومات الحداثة والواقع العربي تقبع مشكلات ومعوقات شديدة العمق والاتساع، قد يكون أهم مفاعيلها واقع التجزئة والتأخر، وسيطرة الوعي الأيديولوجي على الفكر العربي المعاصر، والناتج عن الأنساق المغلقة: المذهبية، والأقوامية. وعلى الدوام، كان التصدي لتلك المشكلات قائمًا على أساسه وبواسطته. إن تنطع الوعي الأيديولوجي ذاك، لم ينتج سوى دائرة منوالية، مركزها اشتقاق الواقع من الفكر، وعلى محيطها المزيد من التأخر، بل التفسخ؛ فغدا الخطاب السياسي المعبر عن تلك الدائرة خطابًا ناكرًا للواقع، ومستسلمًا لنومه الهانئ في عسل الهدف المُتخيل، خطابًا دوغمائيًا لا يعي مقاربة (فكر، واقع)، ولا يقيم حدًا مفهوميًا بين مصطلحاته ومفرداته، ولا يقيم معرفةً علمية بينها وبين توظيفاتها الواقعية العيانية. فالأيديولوجية كما عرّفها المفكر ياسين الحافظ، هي الأفكار والتصورات التي تنسج وعيًا زائفًا للحقائق الواقعية في صفوف الجماعة الآخذة بتلك الأفكار والتصورات؛ فتتحول الأيديولوجية إلى أداة حجب.

الكتاب الذي بين أيدينا كتاب للدراسة، وليس للقراءة فقط؛ لأنه بمنهجيته يكف عن كونه كتابًا يختزن معلومات وتحليلات واستنتاجات، ويغدو محفزًا للتفكير وللتأمل في مفردات خطابنا السياسي التي تكون تصوراتنا وأهدافنا السياسية وتمثلها. ويغدو محفزًا لتفكيرنا في “الحداثة” كمعبرٍ لخلاصنا من التأخر والتجزئة والتبعية، وللتفكر بها “بمفهوماتها ودلالاتها” نحو وعي لذاتنا ولهويتنا، والانطلاق منها لتجسيد هذا الوعي اجتماعيًا وسياسيًا، نحو هجران الوهم والاستقرار في وعي الواقع.

 مدخل

يقوم هذا الكتاب على “مقاربة جديدة لمفهوم المجتمع المدني، وكيف تتعارض هذه المقاربة مع “الوعي الأيديولوجي” والأيديولوجيات والأنساق المغلقة: المذهبية، والأقوامية، والطبقوية”. ويبحث في المجتمع المدني بوصفه إشكالية ترتبط في الوضع العربي الراهن: “المجزأ” إلى دول “قطرية”. فكيف لمفهوم المجتمع المدني “المرتبط تاريخيًا بمفهوم الأمة وبمفهوم الدولة القومية” أن يستعمل على الصعيد القطري؟

يقترح جاد الكريم الجباعي حلًا لهذه الإشكالية، يتمثل في مفهوم الدولة الوطنية كـ “صيغة توسط جدلي بين الدولة القطرية القائمة بالفعل، والدولة القومية الممكنة”. ويشير الكاتب إلى أن “محاولات تعرُّف الواقع العربي وتلمّس ممكناته واتجاهات تطوره كانت محكومة بثوابت أيديولوجية أقوامية وإسلامية واشتراكية دوغمائية” سوى استثناءات نادرة، وهذا ما يتعارض مع “الحقل الدلالي الذي ينتمي إليه مفهوم المجتمع المدني”.

المقاربة الجديدة لمفهوم المجتمع المدني، تنطلق من “افتراض علاقة واقعية بين الأمة والمجتمع المدني والدولة الوطنية، ومن النظر إلى القومية على أنها فضاء ثقافي، حضاري، مشترك بين جميع قوى الأمة وتمثيلاتها” على اعتبار “مفهوم المجتمع المدني تعبير سوسيولوجي، ومفهوم الأمة تعبير ثقافي، ومفهوم الشعب تعبير سياسي، عن حقيقة واحدة هي الدولة الوطنية”. هذه الدولة الوطنية “لا تبدو لمواطنيها إلا في صيغة دولة حق وقانون لجميع مواطنيها بلا استثناء ولا تمييز”. وينوّه الكاتب إلى أن “الأمة الحديثة وشكلها السياسي، الدولة الوطنية، ينطويان معًا على تنوع إثني ولغوي وثقافي وديني ومذهبي وطبقي، ومن ثَم فإن إخراج أي عنصر من هذه العناصر من دائرة الأمة والوطنية أي القومية، هو إخراجه من دائرة الدولة”.

يخلص الكاتب إلى: “إن عنصري التحديد الأساسيين في هذه الرؤية/المقاربة هما المجتمع المدني بوصفه التجسيد العياني للأمة، والدولة الوطنية/القومية بوصفها شكلًا سياسيًا للوجود الاجتماعي، وتحديدًا ذاتيًا للشعب”. إن إقامة الحد المفهومي بين المجتمع والشعب والأمة والدولة الذي يقدمه “الجباعي”، سيغير التصورات السائدة لها في أذهاننا. وبهذا، تصبح على سبيل المثال: قضية الوحدة العربية- عند “الجباعي”- تعبيرًا عن الإرادة العامة والمصلحة العامة لشعوب الوطن العربي، لا تعبيرًا عن إرادة الأحزاب القومية.

وحول الثمار الكارثية لغياب الواقع العياني في الفكر السياسي العربي، يقول الكاتب: “لم يُعنَ الفكر السياسي المعاصر بمسألة الدولة جديًا، وبالتالي لا يعنى بمسألة المجتمع المدني ومسائله، ولا بمسألة المجتمع المدني وما ينتمي إليها من مسائل كالأنسية والعقلانية والعلمانية والديمقراطية”.

ينتقل الكاتب للإشارة إلى “أحد أهم الأسباب التي أدت إلى إخفاق الدولة حديثة الاستقلال، وإلى إخفاق الحداثة في مجتمعاتها المتأخرة” معرفًا ذلك بـ “صعوبة الانتقال من الجزئية إلى الكلية، ومن العرف إلى القانون، أي من المجتمعات المغلقة والمتحاجزة إلى المجتمع المدني، ومن الملة إلى الأمة”. وتوضيحًا لمعنيي الجزئية والكلية، يتحدث الكاتب عن أن نظرية العقد الاجتماعي -بحسب علماء الاجتماع السياسي- هي أساس نشوء المجتمع المدني والدولة القومية الحديثة، وأن الدستور هو تجسيد لفكرة العقد الاجتماعي -بحسب علماء القانون الدستوري- وأن علم الاجتماع بهذا الإطار لا يقل أهمية عن علم القانون وكذلك العلم الاقتصادي، ولكن كل علم يظل قاصرًا وحده عن الإحاطة بجميع جوانب مسألة المجتمع المدني والدولة القومية الحديثة؛ لأن “لكل منها منطقًا خاصًا هو فرع من منطق الجملة الكلية التي هي الواقع الفعلي”.

ينتقل الكاتب إلى الخوض في تساؤل حول الماهية البنيوية للمجتمع، فيقول: هل المجتمع مجموعة من الأفراد تربط في ما بينهم إرادة العيش المشترك، أم هم مجموعة من التفاعلات بين الأفراد والجماعات؟ وينتقل بعدها إلى الحديث عن الرؤيتين المختلفتين في تعريف علم الاجتماع السياسي: إحداهما ترى فيه علمًا للدولة، والثانية ترى فيه علمًا للسلطة -والكاتب يميل إلى الرؤية الأولى- ويقول: نعتقد أن وصف السلطة بأنها سياسية، هو العنصر الحاسم في اختيار تعريف علم الاجتماع السياسي، بأنه علم الدولة في البلدان التي تترسخ فيها فكرة الدولة الحديثة، وفكرة “السيادة الوطنية”، معللًا ذلك بقوله: عندنا “جماعات أخرى” هي جماعات ما دون الوطنية أو ما دون القومية، فضلًا عن كونها جماعات مغلقة ومتحاجزة وقائمة على عدم المساواة وعدم التكافؤ: كالعشائر، والطوائف، والجماعات الإثنية، واللغوية، والثقافية، التي تنطوي كل منها على معنى ما للسلطة، ولكن ليس لأي من هذه المعاني معنى السلطة السياسية. ويضيف: يمكن قبول مفهوم “علم السلطة” في المجتمعات الحديثة التي أنجزت بناء الدولة الوطنية؛ إذ تحيل “الجماعات الأخرى” في هذه البلدان على بنى المجتمع ومؤسساته: كالنقابات، والأحزاب السياسية، والجمعيات المدنية، التي تندرج السلطة في كل منها في مفهوم المصلحة العامة والإدارة العامة.

يشير الكاتب أيضًا إلى ضرورة تمييز الدولة من السلطة، ويقول: السلطة أقدم من الدولة وأوسع نطاقًا وأكثر تنوعًا. أما مفهوم الدولة فهو مفهوم حديث، يمكن أن يؤرخ له ببدايات النهضة الحديثة في الغرب، ويكتب الكاتب: “ولا يَعجَبن الباحث العربي إذا لم يجد في لسان العرب، مثلًا، معنى قريبًا مما نفهمه اليوم من كلمة “الدولة”، في  مقابل كثرة الكلمات الدالة على السلطة”. وأن مفهوم الدولة في لغة السياسة صار حدًا وقيدًا على السلطات الأخرى جميعها، يحدها ويقيدها ويحد منها ويوجهها، وبتقييده السلطات جميعها أضفى على كل سلطة تتسق مع النظام العام، بما في ذلك سلطة الحكومة، طابع الشرعية، وقد اقترنت هذه الشرعية برضى المحكومين.

يقدم الكاتب في كتابه هذا مجموعة تعريفات للمجتمع المدني، وللدولة، فيقول: المجتمع المدني، مجتمع الشغل والإنتاج، والملكية الخاصة والطبقات أو الفئات الاجتماعية ومصالحها المتعارضة، وما ينجم عنها من علاقات وتنظيمات اجتماعية، تكتسب جميع مضامينها ودلالاتها من العلاقات المتبادلة بين الفئات الاجتماعية، وموقع كل منها على سلم الإنتاج الاجتماعي ونصيبها من عوامل الإنتاج ومن الثروة الوطنية وناتج العمل الإجمالي. أجل، هو مجتمع الشغل والإنتاج والطبقات والثقافة التي تعبر بها هذه الطبقات عن نفسها وعن الطرائق والأساليب التي تعبر بها، والقيم والمعايير التي تتبناها، وهو مجتمع الحاجات وسعي الأفراد إلى تلبيتها وإشباعها، وميدان التعاون والتآزر، وميدان الأنانية والتنافس والتنازع، ذلكم هو الواقع العياني، أما الدولة التي تمثل المصلحة العامة أو المصلحة الجماعية، فهي تجريد العمومية التي هي ماهية الأفراد والجماعات والطبقات أو الفئات الاجتماعية، وهي من ثَم الاستلاب السياسي لهذه الماهية. لينتقل الكاتب بعد ذلك إلى تناول مفهوم العمل: العمل والإنسان، والعمل والإنتاج، والعمل كأساس لنشوء المجتمع، ثم المجتمع المدني والدولة السياسية، والعمل و “التعارضات الاجتماعية” -وليس الصراع الطبقي- لينتقل إلى طرح السؤال التالي: هل ثمة مضمون اجتماعي (طبقي) للدولة، وإلى أي حد يتفق هذا المضمون الطبقي الخاص والجزئي مع عمومية الدولة وكليتها؟ وفي معرض إجابته، يورد الكاتب ملاحظة مهمة مفادها: المجتمع المدني مجتمع الأفراد المختلفين والمتنافسين والطبقات المختلفة والمتخالفة، ومن صنعهم، في حين تنقلب هذه الواقعة الموضوعية، في الدولة، رأساً على عقب، حتى لتبدو لنا الدولة بريئة من الاختلاف والتعارض، وحتى ليبدو المجتمع كأنه من صنعها. وبتعبير آخر: المجتمع المدني ميدان التعدد والاختلاف والتعارض، والدولة ميدان الوحدة. المجتمع المدني فضاء الحرية، والدولة مملكة القانون. هذا اللغز محلول في “العقد الاجتماعي”، وهو الصيغة الذاتية للمجتمع السياسي. ويضيف: ليس للدولة بوصفها تجريد العمومية أي مضمون طبقي خاص أو جزئي وإلا كفّت عن كونها دولة. وإن الطابع الاجتماعي الذي يبدو أنه طابع الدولة، هو طابع ما يطلق عليه اسم “الحكومة” فقط، وهذه السلطة السياسية تطبع الدولة بطابعها إلى حد ما، وحين تتماهى السلطة والدولة، تضمر الدولة، حتى تطابق حدود السلطة، ويغلب الخاص على العام والجزء على الكل، وذلكم هو مبدأ الاستبداد وعلّته.

ويتناول الكاتب فيما يتناوله، مفهوم الهوية التي “هي وعي الذات الذي يحدد زاوية النظر إلى الكون والعالم وإلى الإنسان، وعي الذات ليس مرتبطًا بالعمل فقط، بل هو أهم نتاجات العمل والإنتاج الاجتماعي، بدءًا من إنتاج الإنسان لذاته”. كما يجعل “الجباعي” هذا التحديد لمفهوم الهوية مدخلًا لتحديد الهوية القومية للأمة لتبدو بذلك ” التحديدات المألوفة التي درج عليها الفكر السياسي العربي، مجرد أوهام ذاتية، لذلك لم تفضِ إلى شيء سوى إعادة إنتاج التأخر والاستبداد والتجزئة والتبعية وإلى الهزائم المتتالية”.

كما يتناول الكاتب “أطروحة أنماط الإنتاج” التي تفترض “التجرد من ذاتية المجتمعات والباحثين” و”مقابل كل نمط إنتاج هناك نموذج دولة”. وينتقد “الجباعي” هذه الأطروحة ويؤكد على “أن مفهوم الدولة لا يقوم ولا يستقيم بغير مفهومي العمومية والكلية، وبغير مفهوم القانون بصفته العامة والمجردة”. ويتناول الكاتب أيضًا المجتمع الحديث والدولة الحديثة، وينتقد “التبسيط الحقوقي” لمحددات الدولة والتعريف بها (السكان والأرض والسلطات العامة) عن طريق الجدال في تحديد مدلولات تلك العناصر. وأن الدولة ليست إستاتيكًا؛ لأنها “نتاج فاعلية مجتمع ينتج وجوده المادي وينتجها”.

ويختتم الكاتب مدخل كتابه هذا، بتصنيف الدول إلى ثلاثة أصناف: الدولة ما قبل السياسة، والدولة السياسية، والدولة الديمقراطية. كما يميّز الكاتب “السكان” في كل من هذه الأصناف الثلاثة. ويخلص الكاتب إلى اعتبار: أن مفاهيم المجتمع المدني والأمة والشعب، تغدو مفهومات أساسية أو مركزية في مصفوفة نظرية حديثة تتخطى دائرة اهتمام الحقوقيين: “فالوطن، قد كفّ عن كونه مجرد رقعة جغرافية (…) ليغدو علاقة إيجابية مثلثة الأطراف: علاقة بين الإنسان والطبيعة، وعلاقة بين الإنسان والإنسان الآخر، وبين الإنسان والمجتمع والدولة، وهي علاقة ذات محتوى اجتماعي اقتصادي وثقافي وسياسي وقانوني وأخلاقي، يمكن إجمالها بكلمة واحدة هي المواطنية (…) وإن حرية الوطن واستقلاله وسيادته، لا تعني شيئًا إذا لم تتأسس على حرية المواطن واستقلاله وسيادته”.

 الفصل الأول

مفهوم المجتمع المدني وراهنيته

يبدأ “الجباعي” هذا الفصل بدعوة إلى “تحرير المفهوم من شباك الأيديولوجية، وإعادته إلى ميدان التاريخ، ففي هذا الميدان فقط يُفصح عن طابعه الواقعي وقيمته المعيارية وعن دلالاته المعرفية والنفسية والأخلاقية”.

يتحدث الكاتب في هذا الفصل عن المجتمع المدني وعن أن “تظاهراته وتعييناته” كثيرة ومتنوعة، وتحمل خصائص الأمة التي انتجتها، مع وجود عناصر مشتركة فيما بينها جميعًا، هي عناصر العقل الكوني، ويطبعها كل شعب بطابعه الخاص، وهذا ليس إلا هوية الشعب المعني، وهذه العناصر المشتركة هي: (الإنسية، والعلمانية، والعقلانية، والديمقراطية). وإن “المجتمع هو عامل إنتاج لذاته وخلق لاتجاهات العمل الاجتماعي انطلاقًا من الممارسة ومن وعي إنتاج الشغل”، بالإضافة إلى كونه (جملة علاقات وصلات ومبادلات داخلية). و “إن مبدأ الشغل هو ذاته مبدأ المعرفة والعمل”، و “المعرفة ميدان عمل العقل”، و “العمل الاجتماعي هو ميدان الأخلاق”،  و”السياسة هي مركب المعرفة والعمل والعقل والأخلاق”؛ فلذلك “يرتبط المجتمع المدني بالمجتمع السياسي ارتباط المضمون بالشكل والحرية بالقانون”. ويضيف: في اعتقادي إن مفهوم المجتمع المدني يندرج اليوم في الخطاب المناهض للعولمة الاقتصادية المتوحشة، ودكتاتورية السوق، وفي الخطاب المناهض للاستبداد، كما تجلى في الأنظمة الشمولية والتسلُّطية، على السواء. وليس ذلك من قبيل المصادفة أو تواقت الأحوال؛ فهو من ثَم من أهم مفهومات علم الاجتماع السياسي الحديث والمعاصر. وقد يكون الفارق بين مناهضة دكتاتورية السوق ومناهضة الاستبداد المقرون بالتأخر التاريخي، هو ما يعيِّن طابعه غير السياسي ظاهرًا، في الحالة الأولى، وطابعه السياسي الذي يكاد يكون صريحًا ومباشرًا في الحالة الثانية؛ إذ يندرج في مشروع استنارة وتحديث وإصلاح وفي عمل تاريخي، أو مشروع نهضوي. وأظن أن مفهوم المجتمع المدني والمفهومات الحافَّة به التي تربطها به علاقات ضرورية لم تندرج بعدُ، ولا بد لها أن تندرج، في نسق مقاومة الاستبداد ومقاومة الاحتلال في التجربة العربية.

ويتناول الكاتب في هذا الفصل أيضًا، تصدي “المنافحون عن الاستبداد من مثقفي الدولة الشمولية والأحزاب الشمولية للمجتمع المدني على أنه (عميل مزدوج)، فهم يرون أن المجتمع المدني -خارج أوربا- يلعب دورًا مشبوهًا مهمته إجهاض العمل السياسي”، فهو عندهم “معاد للسياسة باسم الديموقراطية، ثم يدير ظهره للديموقراطية باسم كونها معركة سياسية” وأمثال هؤلاء -بحسب ما يراه الجباعي- يمسخون المجتمع المدني إلى مجرد جمعيات غير حكومية مشبوهة وممولة من الخارج. ويرى الجباعي أن هذا “مظهر من مظاهر الحرب التي ما فتئت السلطات الشمولية تشنها على مجتمعاتها وشعوبها”. ومما يأخذه الجباعي على أصحاب تلك الرؤية للمجتمع المدني بوصفه (عميل مزدوج) يتجلى بـ “إن منتقدي تقليعة المجتمع المدني لا يفطنون أن الدولة أو المجتمع السياسي، حقل عام بصفتها تعبيرًا عن كلية المجتمع المدني، أو بوصفها دولة جميع مواطنيها، أو بوصفها تجريد العمومية، ولكنها في الوقت ذاته، حقل خاص بصفتها شكلًا سياسيًا للمجتمع المدني”.

وحول الثقافة ودورها، يقول الكاتب: المجتمع المدني هو وحدة الشكل والمضمون، ولكن هذه الوحدة لا تزال وحدة مادية مباشرة، غير موسَّطة؛ تحتاج، لكي تغدو وحدة فعلية إلى شكل جديد، هذا الشكل الجديد هو الثقافة، أي الطريقة التي ينتج بها المجتمع وجوده المادي، والطريقة التي يعبر بها عن هذا الوجود المشروط بشروط الزمان والمكان. الثقافة، بهذا المعنى، هي شكل التوسط بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، ولا سيما الدولة الوطنية. الثقافة تحديد ذاتي للمجتمع وشكل من أشكال وجوده.

ينهي الكاتب هذا الفصل بالحديث عما أُسس المجتمع المدني عليه، وعن تحديداته الأساسية، فيقول: كون المجتمع المدني مؤسسًا على مبدأ الإنسان، فإنه مؤسس على التعدد والاختلاف والتعارض، ومادام هذا الثالوث مركوزًا في العالم الواقعي، فإن تجاهله أو محاولة القفز من فوقه مجافاة للواقع والطبيعة، ومن ثَم مجافاة للعقل، ومما يراه الجباعي من أهم تحديدات المجتمع المدني:

  1. المجتمع المدني يقوم على مقاصد بشرية خالصة، والمؤسسة الدينية فيه واحدة من مؤسساته، ولكنها غير حاكمة. وهو يستبعد دولة الأقلية الأوليغارشية، أو دولة الطغمة، أودولة العشيرة، أودولة الحزب الواحد، بقدر ما يستبعد الدولة الدينية، أي إنه: يستبعد الدولة الاستبدادية بجميع مظاهرها وآليات عملها.
  2. يقوم المجتمع المدني على مبدأ المجموعات “الحديثة” التي تحدد انتماء الفرد إلى أي منها جملة من العلاقات والروابط الضرورية والإرادية. ومضامين حداثة هذه المجموعات أنها لا تقوم على روابط أولية كالدم والنسب والطائفة وغيرها (وهو لا ينفيها) بل على علاقات يقررها العمل وعملية الإنتاج الاجتماعي، بالإضافة إلى العلاقات الإرادية، كانتساب الفرد إلى حزب ما. وإن الصفة الملازمة للمجموعات تلك هي الحرية.
  3. المجتمع المدني هو الحالة الاجتماعية التي تحقق للأفراد اندماجًا أعمق في وسطهم الطبيعي والاجتماعي، فضربًا من المستحيل اندماج الفرد في المجتمع وبقائه أسير الروابط الأولية، أي لا يمكن أن يكون الفرد طائفيًا ووطنيًا في آن معًا.

ويختتم الجباعي هذا الفصل، بالحديث عن “راهنية المجتمع المدني”، فيقول: هي تنبع في أوضاعنا من بلوغ التناقض بين الدولة الشمولية والمجتمع ذروة لم يعد ممكنًا معها سوى حذف أحدهما أو انهيارهما معًا، وأن الدولة الشمولية هي المعادل السياسي للمجتمع التقليدي (…) وأن الحديث عن المجتمع المدني عندنا اليوم هو حديث عن مستقبل ممكن وواجب.

 الفصل الثاني

1. النهضة والمناخ النهضوي

يتحدث الجباعي عن بوادر النهضة من خلال سرد تاريخيتها، منذ عام 1500 وحتى أوائل القرن 16، وما انطوت عليه من ظهور نقّاد ورسامين وفلكيين ومفكرين وسياسيين وأدباء ومسرحيين وفلاسفة أوربيين، وعن “الطفرة” المتمثلة في اختراع (غوتنبرغ) الطباعةَ، وبواكير إنشاء المطابع في كل مدينة أوروبية ذات شأن، وعن تكوّن طبقة القراء، ونشاط حركة الترجمة والتأليف، وكيف عاشت “فلسفة عصر النهضة” بداياتها بترجمة جديدة لأعمال وأفكار أرسطو وأفلاطون وأفلوطين وابن رشد وابن سينا.

يوجه الجباعي أسئلة للقارئ، منها: هل ثمة علاقة بين فكر النهضة وفكرة المجتمع الحديث، والمجتمع المدني، والدولة الوطنية، وما معنى الهوية القومية بدون مقولة الشغل والإنتاج؟ ليصف الجباعي عصر النهضة بعصر الأنسية، معرّفًا الأنسية بـ: لا تقتصر على إعادة الاعتبار للإنسان بصفته مركز العالم، ومعيار القيم جميعها فحسب، بل بصفته ذاتًا حرة فاعلة ومسؤولة، وهي عملية دنيوة للحق والحقيقة.

2. الأسس الليبرالية

فكرة المجتمع المدني مؤسسة على فكرة الحرية، في معارضة الحتمية الطبيعية والقدرية اللاهوتية على السواء، وعلى فكرة العلمانية التي تقيم فكرة المجتمع والدولة على فكرة العقل، وعلى فكرة التاريخ بوصفه حركة انبثاق الأشياء والظاهرات من (الإمكان) إلى الواقع. وتوقيع ممكنات على حساب ممكنات أخرى.  ويورد الكاتب في هذا الفصل مآثر العلماء والفلاسفة وأصحاب الفكر الاقتصادي والسياسي وإسهامهم في النهضة وفي “رفض السلطة المزدوجة لكل من البابا، فيما هو روحي، والإمبراطور فيما هو زمني، أي رفض وجود سلطتين متعارضتين: روحية وزمنية، وحصر السياسة بما هي تدبير شؤون المجتمع والدولة في الثانية”.

ويتناول الكاتب قضية المجتمع المدني عند كل من ماكيافل وبودان، وحسم “هوبز” لدنيوية الدولة وعلمانيتها، وفكرة الإنسان الصنعي عند ماركس، ويتناول أيضًا تأسيس كانط لوحدة الأخلاق والسياسة على وحدة المعرفة والعمل ووحدة العلم والعمل.

3. بوادر الديمقراطية

أجمع علماء الفكر السياسي في عصر النهضة، على أن السيادة المطلقة هي للسلطة التشريعية، ونشبت صراعات، كتب “لوك” في خضمّها موقفه على مناهضة الحكم المطلق، وميّز “لوك” السلطة التشريعية -وهي التي تعبر تعبيرًا فعليًا عن كلية الدولة وعموميتها، ومشاركة جميع المواطنين في الحياة السياسية- عن السلطة التنفيذية الخاضعة للسلطة التشريعية التي تمثل الشعب. وأكد على حق المواطنين في الثورة على الحاكم الفاسد. وتناول الجباعي الاختلاف الحاصل بين لوك وهوبز، كما تناول “الدول عند مونتسكيو” وهي (ديموقراطية، أو أرستقراطية، أو استبدادية)، وتناول الكاتب أيضًا “الجمهورية الديمقراطية” من حيث طبيعتها ومجتمعها ومبدئها، ليتناول بعدها الثورة الفرنسية وفلسفة “فولتير” والديمقراطية والمساواة عند “توكفيل” فأفكاره “مهّدت للثورات الديموقراطية في أوربا، مهّدت لربيع الشعوب الذي بدأ عام 1848.

4. في العقد الاجتماعي، نحو إعادة التفكير في الحداثة

“…المجتمع المدني والدولة الوطنية، مقولتين مركزيتين في نسق الحداثة” وإن “مضمون اعتراض المعترضين على فكرة المجتمع المدني ينصب على نفي فكرة الإرادة العامة، لمصلحة إرادات خاصة لا تزال تسيطر على الحقل السياسي العربي، وعلى العقل السياسي العربي”. من هاتين الفكرتين ينطلق الجباعي في تناوله لعنوان هذه الفقرة من الكتاب، فيتناول كتاب “روسو” الشهير “العقد الاجتماعي” مشيرًا إلى إشكالية هذا الكتاب التي تتمثل في السؤالين الآتيين: هل في مستطاع المجتمعات أن تهتدي إلى قاعدة شرعية أكيدة للحكم؟ قاعدة تنطلق من الواقع كما هو، وعلى ما يمكن أن تكون عليه القوانين التي تنظم شؤون حياتهم؟ لينتقل الكاتب إلى تناول مسألة “حرية الإنسان” هل ولد الإنسان حرًا طليقًا؟ ليخوض الجباعي في الإجابة عند كل من “هوبز” و “روسو”، مميزًا ما بين الحرية والتحرر، كما يخوض الكاتب في “الأسرة عند روسو، وهيغل، وماركس، على اعتبارها الأساس الطبيعي للمجتمع المدني”، وفي المجتمع المدني أيضًا “أفراد الشعب ولدوا متساوين وأحرارًا لا ينزلون عن حريتهم إلا لمنفعتهم جميعًا” “فغاية العقد الاجتماعي هي النفع العام”، كما “لا يمكن أن نفسر الانتقال من الحالة الطبيعية إلى الحالة المدنية سوى بتطور الحاجات وتحسين شروط إشباعها، فالمجتمع هو منظومة الحاجات”. وإن شروط العقد الاجتماعي “واحدة في كل زمان ومكان، تُرد جميعها إلى شرط واحد، هو التعاقد على نظام عام/قانون عام يضمن حقوق جميع المتعاقدين ومصالحهم ويصون حريتهم وكرامتهم”. ويتناول الجباعي في هذا المقام، مفهوم السيادة، بوصفها مفهومًا “غير قابل للتجزئة والانقسام”.

 الفصل الثالث

1. جدل الحرية والقانون

يقول الكاتب: وظيفة القوانين السياسية أو الحقوق السياسية، هي توحيد المجتمع، ووظيفة القوانين المدنية أو الحقوق المدنية هي المحافظة على وحدة المجتمع، وثمة روابط ضرورية بين الحقوق المدنية والحقوق السياسية، تجعل من المتعذر قيام إحداهما بمعزل عن الأخرى. ولعل أبرز معالم الاستبداد عدم وجود هذه الصلة بين الحقوق السياسية والحقوق المدنية، وذلك لعدم استقلال المجال الاجتماعي/الاقتصادي عن مجال السلطة.

يتطرق الكاتب إلى الدين في الدولة المستبدة، وما يحاوله المستبدون من أن يستمدوا بعض احترامهم ومشروعيتهم منه، وإنه يحل في هذه الدول محل القانون، على تأويل يرضي المستبد ويحمي دولته. ويضيف: القانون والحرية صنوان (…) القوانين قوة كبح ومنع، وكل ما لا تحظره القوانين مباح (…) والدولة هي مملكة القوانين، والمواطنة هي صفة أخلاقية وسياسية. وإن “وحدة الحرية والقانون الجدلية هي ذاتها وحدة الحرية والضرورة”. و”للحرية في الدول وجهان متلازمان، الأول يتصل بالنظام العام، ويتصل الآخر بالمواطن”، و”الضمانة الأساسية للحرية في النظام العام هي فصل السلطات”.

2. في الحرية

في الحرية عامة وحرية الفرد خاصة: “إن اختلاف الأفراد وتعارض مصالحهم هو ما يوجب العقد الاجتماعي، وإن ما هو مشترك بينهم جميعًا على اختلافهم، هو ما يجعل العقد ممكنًا، وإن العقد الاجتماعي هو التجريد القانوني والحقوقي لما هو مشترك بين جميع الأفراد وجميع القوى والفئات الاجتماعية”. “وما من شك في أن مسألة الحرية هي مسألة وعي”. بهذا يعرّف الكاتب حديثه حول الحرية، ويضيف: سنتناول الحرية في تعارضها المزدوج مع المجتمع من جهة، ومع السلطة السياسية من جهة أخرى. ويُعقب: يبلغ الطغيان السياسي والاجتماعي مداه حين ينتهك الحياة الخاصة للأفراد، فيعصف باستقلال الفرد ويقمع ذاتيته، ويذيب فرديته وفرادته في سديم اجتماعي سياسي، فتنحل عرى الاجتماع السياسي، وتنحل معها الثقافة والقيم الأخلاقية، ويغلب الهوى على العقل.

ويؤكد الكاتب وجوب “أن تقوم العلاقات الاجتماعية والسياسية على مبدأ الدفاع عن الحرية، حرية الآخر أولًا”. ويؤكد على وجود “علاقة ضرورية بين الحرية والضمير تجعلنا نرى في الحرية، في أي مجال من مجالات الحياة الاجتماعية فعلًا من أفعال الضمير”. ليتناول الكاتب في ما بعد، موضوع “النظام الاجتماعي وسلطاته الاستبدادية” ولا سيما “السياسية عندنا، حرصه على تربية العقول على الطاعة والإذعان، ويتوسل لذلك بتعاليم الدين وآدابه”.

حرية الفكر وحرية العمل: يعرّف الكاتب العمل بقوله: هو نتاج العلاقة الجدلية بين الإنسان والعالم، قوامه: قوة العمل، ومادته، وأدواته، وأساليبه، وغاياته. وينوّه الكاتب إلى أن “المعيار الأساسي لحرية العمل هو المعيار الأساسي لحرية الفكرـ وهذا المعيار هو عدم المساس بحرية الآخرين أو الإضرار بمصالحهم. ويضيف: العمل حق من حقوق الفرد لا واجب عليه، ومن البديهي أن يكون حر التصرف في حقوقه على النحو الذي يوفر له فرص التعبير عن ذاتيته وفرادته، ويحقق له السعادة.

3. الخوف من الحرية

يمثل هذا الفصل مقاربات أجراها الكاتب  بين كتاب “إيريك فروم” الذي يحمل عنوان هذا الفصل ذاته، والواقع العربي، ولا سيما إشكالية “انشغال الفكر العربي المعاصر بوجه عام والفكر السياسي بوجه خاص عن قضية الحرية بقضية التحرر، ومآلات هذه الإشكالية  وتجسدها في واقعنا العربي اليوم. ويتناول الكاتب ثنائية (الحاجة إلى الانتماء، والنزوع إلى الاستقلال والحرية). كما يتناول “التوتاليتارية” ببعدها السيكولوجي، والسياسي، كما تناول جماهير الحركة التوتاليتارية تناولًا تحليليًا مستشهدًا بـ “حنة أرندت”: النظام التوتاليتاري، هو نظام قائم عن سابق وعي وتصميم، وهو ليس أحادي البنية قطعًا، وأن هذه البنية العديمة الشكل على نحو منفر تظل صامدة بفضل المبدأ الذي التزمه “الفوهرر” “عبادة الشخص”. كما تحدث الكاتب عن أركان النظام التوتاليتاري: الأيديولوجية، والإعلام، والإرهاب.

الفصل الرابع

1. الديموقراطية والمجتمع المدني

يعرّف “الجباعي” الديموقراطية بوصفها: “حقيقة جميع أنظمة الحكم، باستثناء الأنظمة الاستبدادية، على مبدأ النظام العام قبل أي شيء آخر، النظام في معارضة العشوائية والفوضى من جهة، وعلى مبدأ مشاركة جميع المواطنين في الحياة العامة، في معارضة احتكار السلطة والثروة والقوة من جهة أخرى”. ويشير إلى المقدمتين الأساسيتين للمجتمع المدني (الفرد المدني، وحقوق الإنسان).

يبدأ المجتمع المدني بالتشكل عند الجباعي “عندما تحل الحقوق المرتبطة بالعمل أو بالحياة العملية التي تعطي العمل مضمونه وأطره، وتحدد أهدافه وغاياته، محل الروابط المثالية المفترضة، لحمة اجتماعية قامت عليها الجماعات المغلقة ما قبل الوطنية. فالمجتمع المدني يقوم “على مبدأ المنفعة مفهومة فهمًا صحيحًا، وعلى الحقوق”. ليتطرق الكاتب هنا إلى “التعارض الجدلي بين النفع الخاص والنفع العام” مشيرًا إلى أن “حلول القانون مبدأ موحدًا للمجتمع والشعب ومنظمًا للدولة، محل آلهة  العدالة، كان نقلة كبيرة في الفكر السياسي وفي حياة المجتمع”.  ومنوّهًا “أنه لا يجوز إغفال أثر الدين في نشأة الاجتماع البشري ونشأة النظام والقانون”.

ويطرح الجباعي “إشكالية نظرية وعملية عندنا، تتمثل في: كيف نكسب المجتمع المدني الحديث ونعارض النظام الرأسمالي في صيغته المتوحشة، في الوقت ذاته؟ وتشكل هذه الإشكالية المتن الرئيس لهذا الفصل.

وفي معرض التناول، يقول الكاتب: لا يمكن أن تقوم الديموقراطية بلا مساواة سياسية (…). في النظام الديموقراطي، المواطنون متساوون لأنهم كل شيء، أما في نظام الاستبداد فهم متساوون في كونهم لا شيء (…) فالديموقراطية: هي الخضوع للقانون مع المساواة”.

2. مقولة الشعب مقولة سياسية

ينطلق الجباعي هنا من تحديد الدلالات والقيم التي ينطوي عليها ركنا الديموقراطية الأساسيان: الشعب، والحكم. فالشعب هو “الصبغة الأساسية للمجتمع المدني” والشعب ليس مقولة “بديهية ولا واقعًا ناجزًا، بل هو نتاج تطور تاريخي وارتقاء من التشظي والتحاجز إلى الوحدة، وهو ناتج تطور الفرد الطبيعي إلى كائن اجتماعي ومن ثَم إلى مواطن”. وعليه “فقوام الشعب -في سياق تعريف الديمقراطية- بأنها حكم الشعب، هو المواطنون الأحرار المتساوون أمام القانون”، “فمفهوم الشعب يتضمن الحرية والاستقلال والمساواة”.

  1. 3. الحكم وجدلية الاستلاب

في ضوء مفهوم الشعب، الذي وضحه الجباعي، يمكن النظر إلى مفهوم الحكم “على نحو يتجاوز مفهوم الولاية على البشر (…) ويتجاوز جدلية “الراعي والرعية” إلى مفهوم الجمهورية”.

وحول “الاستلاب” يقول الجباعي: إن محاولة تأسيس الديمقراطية في الوعي والضمير تقتضي الانطلاق من مبدأ يستمد قيمته ومشروعيته ومسوغاته من ذاته.

4. الفكر والأيديولوجية

“إن علاقة الفكر والأخلاق والسياسة هي مظهر من مظاهر العلاقة بين الفكر والواقع التي ينزع الفكر بموجبها أن يصير واقعًا”. و”جذور الاستبداد متأصلة في العقائد والأيديولوجيات المغلقة، وفي الوعي الأيديولوجي المنسوج حول نواها الصلبة”. ليخلص الكاتب إلى نتيجة مفادها: إن عدم تمييز الفكر من الأيديولوجية، وغلبة الوعي الأيديولوجي هما، على صعيد الوعي، سبب ما نتخبط فيه اليوم.

الفصل الخامس

وضعية الدين في المجتمع المدني

يقول الكاتب: فصل الدين عن السياسة هو فصل من أجل وصل، وما يسوغه اليوم ويجعله ضروريًا وملحًا، كون الدين الوضعي المؤسسي، المتحالف مع السلطات الاستبدادية، قد تماهى بها وغدا الوجه الآخر لعملتها الرديئة، وبات مثلها نسقًا مغلقًا مولدًا للعنف.  والدولة “حين ترفع يدها عن الدين، ويكف الدين عن كونه خادمًا ذليلًا لها، وغطاءً لظلمها وفسادها، يغدو شيئًا إنسانيًا ينمو ويتطور في المجتمع المدني، يؤنسن علاقاته الاجتماعية ويعزز قيمه الأخلاقية”. ودولة القانون “لا تحرر الإنسان من الدين، بل تمنحه حرية الدين”.

بدلًا من الخاتمة

يضع الجباعي فصلًا آخر تحت عنوان “المجتمع المدني والدولة الوطنية، هنا والآن”، يتحدث فيه عن مفهوم المجتمع المدني بوصفه تعبيرًا عن الحاجة إلى تجاوز أوضاع قائمة في مجتمعنا العربي الحالي، شارحًا توظيفات المجتمع المدني في سبيل ذلك؛ أي: المجتمع المدني نحو الدولة الوطنية، دولة الحق والقانون.