قبل عام ونيف من اليوم، خرج طلاب وطالبات الجامعات في مدينة السويداء، من جيل الشباب الباحث عن موقع قدمٍ له على سلّم الحياة والجدارة والاستحقاق لعلمه وحياته ومستقبله، خرجوا في تظاهرات سلمية عُمّمت على كل سورية، كان عنوانها “بدنا نعيش”، مطالبين الحكومة بتحسين الأوضاع المعيشية والخدمية، على أثر ارتفاع الأسعار غير المسبوق، في ذلك الحين، مع هبوط سعر صرف الليرة أمام الدولار من 500 لعتبة الألف ليرة!
ولغايةٍ في نفس يعقوب، ولدراية خبيثة بالمستوى السيكولوجي العام لدى عموم المجتمع المنهار، اقتصاديًا وقيميًا، تم استثمار حاجات الناس العامة، بالتعاون مع بعض المنتفعين من شريحة “محدثي النعمة” من تجار الأزمات والحروب، وأطلقت حملة إعلامية مضادة ممنهجة ومدروسة، عنوانها “الليرة عزتنا“، بحيث يمكن لأي شخص أن يشتري بليرة واحدة أيّ سلعة معروضة في أماكن معينة، خلال مدة محددة. وكانت النتيجة انزياح أنظار المجموع العام من المجتمع عن مطالب الشباب المتظاهر، حيث دفعت الحملة عموم البسطاء إلى الانفكاك من حول مطالبهم الحقة، والسعي لاقتناص فرصة شراء أي سلعة (أدوات كهربائية أو “بنطال جينز”..) بليرة واحدة فقط! من عند التجار المتفقين سلفًا على موعد إطلاق الحملة ونهايتها، للدلالة على قيمة الليرة “معنويًا” خلاف قيمتها السوقية! وكانت نهاية الحملة، كما هو متوقع، بانفكاك حملة “بدنا نعيش” ومطالب الشباب الحقة في تظاهرتهم السلمية التي تحمل في طياتها أبعاد التغيير السياسي، وما ينتج عنه من تحسين في الوضع المعاشي العام، وشعورهم بعدم جدواها!
الدلالة الأوضح، من تباين الحملتين ومستوى العمل الإعلامي عليهما، تبدّت اليوم، فعلى الرغم من الوضع المعيشي في الداخل السوري الكارثي، فإن عنوان الوضع العريض البحث عن حلول فردية للاستمرار على قيد الحياة فقط، بعد أن فقد المجموع العام الثقة في إمكانية التغيير على المستوى السياسي والاقتصادي بالضرورة. وهذه مفارقة ذات دلالات اجتماعية ونفسية عامة، تشير إلى مستوى الإرهاق النفسي والوهن العام المصحوب بالعجز والاستسلام الشعبي وانتظار الحلول السحرية، خاصة أن المجموع العام بات يعتقد قطعيًا أن الحل لم يعد بيد السوريين، بقدر ما هو بيد الدول الكبرى، هذا في مقابل تحمّل واقع معيشي بات كارثيًا، بحمله وتركته، نتيجة استمرار آلة الحرب والقتل والتهجير والدمار في عموم الأرض السورية منذ سنوات دون حلّ لها.
فقبل عام، كان الدولار بألف ليرة، وسعر كيلو السكر والرز وسطيًا 250 ليرة، والبرغل والفواكه والخضار الكيلو نحو 300 ليرة… وكان مايك فغالي، عرّاب تصدير وجبات الوهم للشعوب المقهورة، يتنبأ بعودة الليرة لعزها لما قبل 2011، وبأن اقتصاد سورية سيصبح من أقوى اقتصادات المنطقة، والأخبار تتحدث عن حجم الاستثمار الروسي في غاز البحر المتوسط السوري، وعن عائدات إعادة الإعمار القادمة إلى سورية! ولكن اليوم، واليوم بات مهزلة سياسية وإعلامية معًا، قد قارب سعر صرف الدولار 4000 ليرة، وتضاعفت أسعار السلع ثماني مرات عن العام السابق، وبات ما يزيد عن 85% من سكان سورية دون خط الفقر، والوقود من محروقات وغاز وبنزين، ومثلها مواد التموين الأساسية كالسكر والرز والخبز ونادرًا الزيت، تُصرف على بطاقة تسمى “ذكية”، تحدد للأسرة -بحسب عدد أفرادها- كمية احتياجاتهم اليومية والشهرية بطريقة متذاكية تسمى “القطّارة التموينية”. فمتوسط الراتب الشهري 60000 ليرة (15 دولار) لا يكفي لتأمين أبسط حاجيات الكفاف الأسرية لأيام معدودة! وما زال البعض يخاتل بمقولة “الليرة عزتنا”، ويبيع الوهم النفسي خلاف الواقع المعاشي السائد، والأهم من هذا كله الاستمرار في تخدير المجتمع، وكسر إرادة الشباب المعنوية أمام صخرة الواقع المعيشي!
السؤال المطروح اليوم: هل يمكن للإرادة وحدها أن تحقق إجماعًا شعبيًا قادرًا على إحداث مفارقة مجتمعية كما في العام 2011؟ وهل يمكن لإرادة الشباب منفردة أن تعيد الروح السورية للانتفاض من خدرها، إذا ما فكّروا في تنظيم حملات مدنية سلمية لرفض الواقع الحياتي المدقع والمطالبة بتغييره اليوم، دون أن يكون هناك جدول عمل سياسي مرافق لقواه السياسية والمجتمعية بالضغط بذات الاتجاه؟
كمقدمة للإجابة على هذه الأسئلة، من الضروري العودة للمفارقة المحدثة بين حملة “بدنا نعيش”، والحملة الإعلامية المضادة “الليرة عزتنا”؛ فثمة دلالات دقيقة تشير كلّ منها إلى اتجاه سلوكي ونفسي، يمكن أن يؤخذ منهجيًا بعين الاعتبار في أي عمل شعبي تغيري. فقيمة الليرة تعني قيمة الدخل الوطني، و”الليرة عزتنا” دلالة أولى على ارتباط كرامة المواطن بقيمة دخله العملي والإنتاجي المعبّر عنه بسعر قيمة عملته المحلية، وهذا بالمبدأ أمرٌ جوهري مهمّ وضروري، لكن تحوّله إلى بيع الوهم وتخدير الشعوب، واستثمار وجدانهم البسيط وحاجتهم الطبيعية، ليصبحوا أفرادًا يبحثون عن حلول فردية فقط بلا إرادة جمعية، هو الدلالة الإعلامية! وهذا يعني -وفقًا لمعطيات الواقع الراهن وهبوط قيمة الليرة لهذا المستوى المتدني اليوم-أنها ليست سوى شعار بلا مضمون، كما شعار الوحدة والحرية والاشتراكية. فالواقع السياسي السوري قد عرف طوال عقود بأن كل من يحاول الخروج عن منظومة الاستبداد هذه وزيف شعاراتها، ولو كان ذلك برأي مختلف، يٌتّهم بالعمالة والخيانة الوطنية ووهن نفسية الأمية والعمل ضد الاشتراكية، ويكون مصيره المعتقلات! ويصبح عبرة لغيره من بقية شرائح المجتمع حتى لا تجرؤ على الخروج عن سياسة الخوف التي حكمت المجتمع بالحديد والنار عقودًا! فكيف الحال اليوم وتُهمة الإرهاب سهلة التداول، وتكفير وتهجير جيل الشباب هو العمل المنهجي المعمول به سلطويًا، بعد أن حطم السوريون حاجز الخوف هذا العام 2011، فكان مصيرهم التهجير والموت في المعتقلات والدمار العام، ليصبح من تبقى في سورية بين خيارين ليس إلا: إما أن يجد المصير الذي أحاق ببقية السوريين، وإما أن يكتفي بحدود ما تقدمه له الحكومة ونظامها من فتات قوته اليومي دون التفكير بأي تغيير ممكن!
في مقابل هذا، كانت حملة “بدنا نعيش” دلالة على استمرار إرادة الحياة والحقوق الشبابية، ورفض الشباب الاستسلام لمصيرهم الذي رسمته لهم سلطة وحكومة الأمر الواقع، وعلى ارتباط المعنى الحقوقي والحياتي بأبسط أشكاله المطلبية الجمعية كحلٍّ للمعضلة السورية الداخلية، بعد طول استعصائها السياسي. ولكن أتت النتائج خلاف ما هو متوقع، حيث كان الأثر الإعلامي لحملة “الليرة عزتنا” الواهية قادرًا على إيقاف المعنى الحقوقي والسياسي لإرادة الشباب! وهذا دلالة على المستوى النفسي المجتمعي العام الذي بات بأدنى مستوياته الإرادية، إضافة إلى استمرار تكريس الحالة السورية على وضعها الراهن لمصلحة قلة من المنتفعين، من متنفذي السلطة والحكومة وأجهزتها التابعة لها والتجار المرتبطين بفلكهم، لتبقى الأزمات تغذي جيوبهم، وليذهب الشباب إلى الجحيم من خلال تحويلهم إلى مرتزقة في ليبيا وغيرها، و/أو عمّال في تجارة الممنوعات والمخدرات!
المفارقة الأشد وضوحًا هي استمرار المنهجية السلطوية التي عملت على تزيف مقولات الحرية والإرادة الشعبية وإفراغها من مضمونها تاريخيًا، وإفلاس الاقتصاد والليرة حاليًا بحلولها الممارسة للعام العاشر على التوالي، بينما لم تزل إرادة الشباب التواقة للحرية والحياة الكريمة تحاول استعادة معناها وفكرها وثقافتها الدالة على استحقاق الحياة بجدارة، مصرة على التواصلية الحوارية واللغوية، من دون تراجع أو استسلام مع المحيط المجتمعي العام على أرضية أحقية تأمين الحاجات الأولى في الحياة الكريمة والآمنة! وأيضًا ممارسة وجدانها الوطني بالتمسك بحقهم بالتجمع السلمي المطلبي، بالرغم من خطر الاعتقال والملاحقة الأمنية، والإشهار برفضهم لممارسات السلطة وعدم انصياعها لأي حل مقترح للمعضلة السورية! فإن كانت عين السلطة ما زالت ترقب بحذر أي حراك في الشارع، وتعمل على تفنيده بألف طريقة وطريقة، فإن أطيافًا سياسية سورية معارضة عريضة ما زالت غارقة في خلافاتها المكررة إلى اليوم، مكتفية بوهم حلولها ومسلماتها الأيديولوجية المفترضة، دون النظر إلى متغيرات الواقع الحالي ومراجعة سياساتها وخطط عملها، وهذا افتراق ومغايرة!
إذا كانت السيميائية (السيمولوجيا) تعدّ دراسات حديثة وعصرية تدرس في أحد أوجهها دلالة ترابط اللغة، ومنها الإعلام، مع الحدث والمجريات الواقعية، لتقيم الرابطة الفعلية بين معطيات الواقع بشموله السياسي والاقتصادي والفكري والثقافي، وبين اللغة منطوقًا وكتابة وإعلامًا، فهل يمكن أن نتساءل عن دور الإعلام السوري وكتله السياسية المعارضة وعن خططها ومنهجيتها في كيفية تعاملها مع الداخل السوري، في مقابل وموازاة إعلام السلطة؟ وهل يحق لنا أن نحمّل المتبقي في الداخل، وخاصة الشباب، تركة وعبء قساوة المرحلة الحالية، دون مشاركة مسؤولة من خبراء السياسة عن حلّ سياسي يُفضي إلى إمكانية استعادة الروح السورية تضامنها وقواها الذاتية، بدلًا من ارتهانها للسكون النفسي الجمعي هذا، أو للمشاريع الخارجية المشبوهة، أو لسياسة الإفلاس المحلي للسلطات بمقولات بلا مضمون، كالمقاومة والممانعة و”الليرة عزتنا”؟ وهل يحقّ لنا اليوم، بعد هذا الانهيار العام، أن نكرر خلف “الماغوط”، على لسان أحد أبطال قصصه، الذي يبيع الجرائد المحلية مناديًا: “الوطن بليرة”، كدلالة لا على قيمة الوطن المتخم بالكوارث بذاته، بقدر الإشارة إلى قيمة المواطن فيه؟ والوطن برمته مرتهن لمن يريده مفلسًا وطنيًا من قبل صنّاع السياسة وتجار الأزمات والمتحكمين في وجدان الناس إلى اليوم؟ والسؤال الأوضح: هل واقعٌ، بهذه المعطيات، يحتاج إلى علوم حديثة كالسيميائية لدراسته واستخلاص نتائجه الممكنة للعمل؟ أم يحتاج إلى قليل من المسؤولية الوطنية، معارضة و/أو سلطة!
عجبي! … فالإفلاس لا دلالة عليه سوى الإفلاس بذاته.