لم يعُد سرًّا يخفى على أحد، مماطلة روسيا والنظام السوري في تنفيذ القرارات الدولية الصادرة في إطار الجهود المبذولة لحلّ المعضلة السورية، وهذا أمرٌ لا مراء فيه، لأنّ أي تغيير في بنية النظام تعني انهياره، فما بالنا بالتغيير المتوافق مع القرارات الدولية! لقد اعتدنا على مواقف النظام وداعميه، التي تقول شيئًا وتفعل عكسه، لكننا الآن في صدد الحديث عن موقف بعض شخصيات المعارضة السورية من اللجنة الدستورية، الذي تجلّى بإصدار ورقة تحت عنوان “بيانٌ حول أعمال اللجنة الدستورية السورية”، وكان بمنزلة نعيٍ للعملية السياسية كلها، ولإطارها التنفيذي الجاري برعاية المبعوث الأممي الخاص.
قبل مناقشة هذا البيان ومسار العملية السياسية؛ علينا أولًا العودة إلى جوهر الصراع في سورية، لتأصيله وتثبيت بعض النقاط الجوهرية التي ستكون نوافذنا التي نطلّ منها على المشهد الراهن.
جاءت الثورة السورية استجابة لاستحقاقات الضرورة التاريخية أولًا، فبعد خمسين عامًا على حكم العسكر، وما جرّه من دمار هائل على بنى الدولة والمجتمع والاقتصاد، وبعد انتهاء كلّ ما يمكن تسميته سياسة أو حكم قانون في سورية، كان لا بدّ من هزّة عنيفة تعيد الأمور إلى نصابها. ثانيًا، صادف أن هبّت الثورة ضمن أجواء إقليمية مساندة ومشجّعة، إذ أتت في ظلّ ثورات الشعوب العربية من جهة، وعلى خلفية انتهاج الرئيس الأميركي باراك أوباما في ولايته الأولى، ومن خلفه الإدارة الديمقراطية، سياسة جديدة تنظر بعيون مختلفة إلى مطالب الشعوب في العالم من جهة ثانية. هذا يعني أنّ الظروف العامّة التي أحاطت بالثورة السورية كانت مشجّعة من حيث المبدأ على الانطلاق والاستمرار.
كانت المشكلة الرئيسة التي واجهت هذا الحراك الشعبي المتّقد -إضافة إلى القمع الهمجي الدامي والنهج العسكري الأمني للنظام السوري- نقص الكفاءة السياسية للأحزاب التقليدية، وللشخصيات السياسية التي تصدّرت واجهة العمل السياسي وقادت هذا الحراك الكبير، حيث كانت العوامل الخاصة لنجاح الثورة شبه معدومة، فما كان خلال الأيام والأسابيع الأولى للثورة ميزة، أي فقدان القيادة المركزية التي منعت النظام من قمع الثورة في مهدها، بات بعد ذلك عيبًا جوهريًا ونقيصةً أصابتها في مقتل.
الثورة فعل مجتمعي جامح، وقد قدّم السوريون رجالًا ونساءً شيبة وشبابًا، في أشهرها الأولى، أروع التضحيات والنضالات في سبيل استمرارها وتجذّرها، وأظهروا للعالم أجمع مقدار الطاقة الرهيبة التي يختزنها المجتمع السوري بين جنباته، وتوقهم العارم للتغيير. لكنّ الفعل الثوري يحتاج إلى إدارة لتحقيق نتائجه المرجوة التي يجب أن تكون قابلة للترجمة إلى وقائع على الأرض وإلى نتائج سياسية، وهذا ما لم يتوفر للثورة السورية، التي يحبُّ طيفٌ واسع من أهلها تسميتها بالثورة اليتيمة، وهي كذلك حقًّا، إذا أخذنا بعين الاعتبار ضرورة رعايتها من أهلها وأصحاب المصلحة فيها، لا من المحيط الخارجي الإقليمي أو الدولي.
نتيجة لفقد الإدارة الواعية القادرة على قيادة الحراك الثوري أولًا، وعلى تحويل الانتصارات الجزئية إلى ثوابت سياسة ثانيًا، ونتيجة لغياب الإستراتيجية الواضحة للانتقال بالبلاد من حالة الاستبداد إلى حالة المشاركة المجتمعية الفاعلة، ونتيجة لغياب مفاهيم أوليّة مثل الوطن والمواطنة والمصلحة الوطنية العليا، ولعدم القدرة على الاتفاق عليها بين الفرقاء المتنازعين جلد الفريسة قبل اصطيادها، كانت الكارثة الكبرى التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه الآن.
بعد تحوّل الثورة عن مسارها السلمي الذي تفوّقت فيه -باعتباره ميدانها ومكمن قوتها- إلى مسار عسكري بحت؛ بات العمل الثوري المدني وبالنتيجة السياسي، رهينة بيد القادة الميدانيين القابضين على زمام القرار في الداخل، بحكم فائض القوة التي امتلكوها عبر السلاح، وبالتالي، بات رهينة لإرادة غير سورية، لأن هؤلاء القادة كانوا بطبيعة الحال تابعين لمموليهم في الخارج. سبّب هذا كلّه انعدام الوزن الفعلي للثورة السورية، على الرغم من التكاليف الهائلة التي دفعها الناس، والبسطاء منهم خاصّة، وباتت الثورة تخدم مصالح الدول الفاعلة بالملف السوري، بدلًا من أن تكون الطريق لتحقيق أهداف السوريين ومصالحهم.
على هذه الخلفية كلها، جاء تنفيذ تفاهم جنيف وقراري مجلس الأمن 2118 – 2254. من هنا، يبدو أنّ مصدّري البيان المذكور أعلاه قد تجاوزوا في موقفهم كلّ هذا السياق التاريخي، وأثقلوا كاهل اللجنة الدستورية، أو بالأحرى الفريق المحسوب على الثورة منها، بما لا وزر لهم به ولا يمكن أن يُسألوا عنه أساسًا. لقد كان خيار “المعارضة السورية” بقبول مبدأ التفاوض مع النظام أولًا، ثم المشاركة في اللجنة الدستورية ثانيًا، الخيار المنطقي لتسلسل الأحداث ومسار الأمور عبر هذه السنوات الطوال.
وبالمناسبة، وإذا أردنا الإنصاف، لم يعترف النظام السوري بالثورة ولا بالمعارضة وهي في أوج قوتها، وعندما كان محاصرًا في دمشق وبعض مراكز المدن التي بقيت تحت سيطرته، لكنّه اضطرّ مجبرًا تحت وطء الضغوط الدولية الواقعة عليه، وخاصة من حليفه الروسي، إلى أن يعترف بها ندًّا له من خلال قبوله المشاركة معها في اللجنة الدستورية. ومن ينسى هذه الوقائع أو يتناساها عليه أن يشحذ ذاكرته قليلًا بالرجوع إلى تصريحات النظام العلنية منذ اليوم الأول للثورة.
يقول الدبلوماسي السوري الأستاذ بشار الحاج علي: “لقد كانت مشاركة النظام في اللجنة الدستورية، النصر السياسي والقانوني الأبرز لقوى الثورة والمعارضة السورية، ولا نبالغ إن قلنا ذلك أبدًا، لأنها تمثّل الاعتراف الوحيد -قانونيًا وسياسيًا- بوجودها ندًّا له وشريكًا معه في الحل النهائي”. يجب ألا ننسى أنّ النظام لم يفقد صفته التمثيلية الشرعية في أي مؤسسة وازنة في المجتمع الدولي، فهو حتى الآن الممثل القانوني الشرعي والوحيد للدولة السورية. وبقبوله صاغرًا بتقاسم هذه الشرعية مع من وصفهم سابقًا بالإرهابيين، يعني بالضرورة اعترافه بهم وإضفاء الشرعية عليهم، رغمًا عن أنفه.
وبالعودة إلى البيان المذكور أعلاه، نجده يستهلّ الحديث عن اللجنة الدستورية السورية باعتبارها خاضعة “للإشراف الروسي”، وهذا أمرٌ يجانب الصواب تمامًا، لأن الإشراف على تسيير أعمال اللجنة، دون التدخّل في مجريات الأحداث وما يتفق عليه الفرقاء، هو حصرًا بيد الأمم المتحدة، وهذا أمر واضح في قرار تشكيلها. ويتابع البيان القول: “لم يفوّض الشعب السوري أحدًا بتسمية لجنة دستورية ووضع دستور. كما لم تفوّض القرارات الدولية روسيا الاتحادية أو غيرها من الدول أو المنظمات بما فيها الأمم المتحدة بفرض لجنة تضع دستورًا للسوريين”. والحقيقة أنّ موقّعي البيان تناسوا أنّ المجتمع الدولي الذي أصدر القرارات الخاصة بالقضية السورية هو ذاته الذي يضبط إيقاع عمل اللجنة الدستورية وغيرها من مسارات التفاوض أو مسارات الحل الميداني، وأنّ ظروف الشعب السوري لم تسمح له في أي يومٍ من أيام الثورة بإيجاد الآلية المناسبة لاختيار ممثليه، ومنهم أغلب موقعي البيان الذين كانوا في الصف الأول من مواقع صنع القرار في مؤسسات الثورة والمعارضة.
وأخيرًا يخلص البيان إلى وصف عمل اللجنة بالقول: “إنّ ما يجري تحت اسم اللجنة الدستورية يعطي رسالة زائفة وينشر الوهم الكاذب عن استمرار العملية السياسية، في وقت يتم فيه تشويهها والتطاول عليها لحرفها عن مسارها، وإيجاد بديل عن العملية السياسية الحقيقية التي رسمتها القرارات الدولية وأقرتها الإرادة الدولية، ووافقت عليها قوى الثورة والمعارضة”. ويتحدّث عن وجوب عودة “الحل السياسي إلى مسيرة العملية السياسية التي تمّ تحديدها في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 262/67 وقراري مجلس الأمن 2118 – 2254” وهذا القول يعيدنا مجددًا إلى ذلك الخطاب المعتاد لممثلي قوى الثورة والمعارضة الذين ما فتئوا يطرحون الشعارات دون الآليات المناسبة لتنفيذها على أرض الواقع.
ليس هناك أدنى شكّ في أنّ مشكلة السوريين لم تكن مشكلة دستورية، وأنّ ثورتهم لم تكن لكتابة دستور جديد، لكنّ وجود لجنة مؤلفة من سوريين ممثلين عن جانبي الصراع -الثورة والنظام- لم يمنع في أي يوم من الأيام بقيّة القوى الوطنية من استكمال نضالها الثوري، سواءٌ المدني منه أم العسكري. على العكس من هذا، يجب أن يكون المنطق السائد هو ذاك الذي يحاول تعزيز المؤسسات السورية التي تشارك فيها المعارضة والتي تحظى باعتراف ودعم دوليين. القول بغير ذلك يعني أننا لم نخرج من إطار الشعبوية والبروباغاندا الإعلامية، ولم ندخل في إطار العمل السياسي الحقيقي. بل أكثر من ذلك، كانت انتقادات المجتمع الدولي تنصبّ باستمرار على فشل المعارضة في بناء مؤسسات حقيقية قادرة على قيادة العملية السياسية والانتقال إلى العهد الجديد، وهذا يصب حقيقة في مصلحة قوى الثورة والمعارضة السورية، التي عليها أن تستغلّ جميع الفرص المتاحة لبناء المؤسسات الوطنية المدعومة دوليًا، والمشاركة في الموجود منها، مثل اللجنة الدستورية، لا التخلي عنها وتركها للنظام كي يفرغها من مضمونها.
إنّ استمرار نهج التغيير الذي اختطّه السوريون لا يعني أبدًا هدم ما تمّ إنجازه من مؤسسات، بل إصلاحها إن عابها فسادٌ أو خلل، وتصويب مسارها إن شابَهُ انحرافٌ أو زلل. لم تشكّل اللجنة الدستورية بديلًا عن أي مؤسسة ثورية أخرى، ولم تكن عائقًا أمام تشكيل مؤسسات قويّة تمثل الثورة ومطالبها، ولكنّها قد تشكّل في المستقبل نواة مؤسسة يمكن البناء عليها لإنشاء جمعية وطنية تأسيسية، وهذا بحدّ ذاته كافٍ لبقائها ودعمها. من هنا، وجب علينا أن نقرأ بكلّ البراغماتية والواقعية الممكنة وضع اللجنة الدستورية السورية وآفاق تطورها.