في الثامن والعشرين من أيلول/ سبتمبر 1982، انتشرت في شوارع دمشق الرئيسة نحو ألف فتاة مظليّة، بلباس “الوحدات الخاصة” المموّه، وأخذن ينزعن الحجاب عن النساء، تحت تهديد السلاح.
كانت تلك اللحظة، التي جاءت بعد نحو ستة أشهر من مجزرة حماة، في شباط/ فبراير من العام نفسه، النقطة المفصلية في علاقة السلطة بنوع من اللباس، يُعدّ في نظرها علامةً على تبني قيم رجعية يفرضها الدين على أتباعه، ورأت أن من واجبها “العلماني” إجبار النساء على السفور، بوصفه رمزًا من رموز التنوير والحداثة.
لم يحدث قبل القرن العشرين أن كان لباس المرأة مادة للتجاذبات السياسية، كما أصبح الأمر عليه بين مختلف التيارات الفكرية، بحيث يمكن أن نخمّن موقف أي تيار من خلال استحضار رؤيته للباس المرأة، وخصوصًا الحجاب. لهذا اختزن لباس المرأة جزءًا كبيرًا من الصراع السياسي، وغدا مؤشرًا على التوجه الأيديولوجي، ولا سيما أن الجماعات والأحزاب السياسية كانت لها مواقف واضحة من شكل اللباس، ولا سيما الحجاب، سواء أكانت تلك المواقف إيجابية أو سلبية.
بعيدًا عن السياقات والمواقف المختلفة من الحجاب، في عدد من الدول الإسلامية التي منعته كتركيا وتونس، أو التي فرضت ارتداءه كالسعودية وإيران، فإن الحالة السورية تستحقّ وقفة معينة، نظرًا لاختلافات التعاطي السلطوي مع الحجاب من جهة، وردة فعل المجتمع من جهة ثانية.
منذ أن بدأ الاحتكاك بالعالم الغربي في القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، تشكل لدى النخبة “العثمانية” وعيٌ مستجد قوامه التماهي مع التجربة الغربية، ونقلها إلى المجتمعات العربية. وسرعان ما بدأت نساء تلك الطبقة أو النخبة بارتداء الملابس الأوروبية التي يغيب عنها الحجاب. ومنذ تلك اللحظة أصبح الحجاب أو اللباس مجالًا للاختلاف السياسي والفكري.
على خلاف الدول التي فرضت السفور، لم تقم الدولة السورية بفرض زيّ معين على النساء؛ وإذا استثنينا إجبار طالبات المدارس على خلع الحجاب في ظل نظام البعث، فقد تركت السلطات المتعاقبة للمرأة الحرية في اختيار شكل اللباس الذي يناسبها، ولكن الموقف السلطوي من الحجاب كان موقفًا سلبيًا، إذ تذكر الدكتورة مهجة قحف، في أحد فصول كتاب “الحجاب: تاريخه وتقاليده وأبعاد السياسية” الذي أعدته جنيفر هيث، أن الحجاب تعرّض لحملة تهميش واسعة، ففي الصحف والمجلات، والكتب المدرسية، والنشرات الإعلامية، لا يعثر المرء على أي صورة لفتاة أو امرأة محجبة، بحيث يخرج القارئ الأجنبي بانطباع مفاده أن الحجاب عادة قديمة، انقرضت وأصبحت من منسيات الأجيال الجديدة. لكن هذا الانطباع خاطئ تمامًا، فما تبرزه وسائل الإعلام هو الصورة التي أرادت السلطة الظهور بها أمام العالم الخارجي، وأمام جمهورها الذي تريد أن تقدّم له نفسها بوصفها سلطة لديها مشروع تحديثي، يرى في السفور -كما أسلفنا- معيارًا من معايير التنوير والحداثة واللحاق بركب الحضارة الغربية.
ذلك اليوم الذي أشرنا إليه في بداية هذه الكلمات، من وجهة نظرنا، هو اليوم الذي انتهت فيه اللحظة الليبرالية في ما يتصل بحرية لباس المرأة، وقد تأخر موتها ما يقرب من عقدين، عن موتها السياسي والفكري، حين قام حزب البعث بالانقلاب عام 1963، مقفلًا إلى الأبد إمكانية تداول السلطة بالطرق التي تتيحها الآليات الليبرالية. ومع أن السلطة ممثلة برئيسها سارعت إلى الإعلان عن رفضها تلك التصرفات التي عزتها إلى فئة معزولة في النظام، فإن “الرسالة” المبطنة التي أرادت الأجهزة العميقة إيصالها وصلت إلى الفئات المستهدفة التي شرعت بممارسة الاحتجاج المضاد بطريقتها الخاصة.
منذ ذلك اليوم، شعرت الأكثرية بأن الموقف من اللباس لا يتعلق بمشروع تحديثي، ولكنه محاربة لقيمها وعقائدها، وهو ما أدى إلى عودة واضحة إلى الحجاب واللباس التقليدي: المانطو أو الجلباب.
في المراحل التي سبقت تلك الحادثة، كان اللباس الأوروبي للنخبة أو الطبقة الحاكمة هو اللباس المنتشر بين شرائح اجتماعية واسعة، كطالبات الجامعات والفئات المتعلمة، فيما كان لباس نساء الفئات المحافظة هو الجلباب الذي تلبسه شرائح أخرى من الفئات المتعلمة والطبقة الوسطى، أما الملاءة “الملاية” فقد كانت وما زالت لباس الفئات الشعبية والفقيرة. إضافة إلى الأصناف السابقة، آثرت شريحة اجتماعية واسعة المواءمة بين اللباسين التقليدي والأوروبي، بحيث كانت المرأة تلبس تنورة قصيرة تسمح لساقيها بالظهور، ولكنها في الوقت نفسه تضع “إشاربًا” يغطي جزءًا من شعر رأسها.
بكل تأكيد، كان الجلباب والملاءة أكثر انتشارًا في الشارع، وأقل حضورًا في وسائل الإعلام، ولكن مع تلك الحادثة، بدأ السفور يفقد حضوره الواسع في الفضاء العام، مقابل صعود واضح للحجاب والألبسة المحتشمة، وترافق هذا مع انتهاء لبس التنورة، وظهور “البنطال”. وهو تحوّل جاء في سياق هيمنة نمط معولم في اللباس، عززته حاجة المرأة إلى الانطلاق والعمل، بدلًا من التقوقع في عالمها الداخلي الذي يفرضه الجلباب التقليدي. وقد جرى تبني هذا الشكل الجديد مع دخول فئات جديدة إلى سوق العمل، فئات قادمة من خلفيات اجتماعية شعبية، أتاح لها نظام التعليم الصعود الاجتماعي والطبقي.
بقيت الدراما السورية تتجاهل وجود النساء المحجبات حتى نهاية التسعينيات، وحتى النساء من الفئات الشعبية التقليدية صورتهن الدراما “سافرات”. ولكن مع بداية الألفية لم يعد ممكنًا الاستمرار في تجاهل هذا التحول الواضح، فبدأ ظهور الفتاة المحجبة في الدراما، بعد أن كان مقصورًا على العجائز وبعض النساء الريفيات الفقيرات. وقد شجع على الظهور الإعلامي بكل تأكيد السوق الجديد للدراما في محطات البث الفضائي، وخصوصًا الخليجية منها، ودخول شركات خاصة تعود ملكيتها للطبقة البرجوازية السنية ذات النزوع الديني التقليدي.
مع بداية تبني النهج الليبرالي في بداية الألفية، وظهور فئة ثرية، تغير شكل الحجاب واللباس، ليتناسب ورغبة تلك الشريحة في إظهار اختلافها وتمايزها عن الطبقات والشرائح متوسطة الدخل والفقيرة، فظهرت أشكال جديدة للحجاب، وظهر أيضًا ميل واضح نحو الألوان الزاهية، بدلًا من الألوان المعتمة التي يتصف بها اللباس التقليدي: الجلباب “المانطو” والملاءة “الملاية”.
ليس من السهولة بمكان رسم خريطة تفصيلية للتحولات التي طرأت على اللباس في العقود الماضية، ولا سيما في مقال، غير أن الثابت في الأمر هو أن العلاقة بين السياسي والثقافي كان لها إسهام واضح في تبني هذا الشكل من اللباس أو ذاك.
على صعيد الاختلاف بين الريف والمدينة، تبنت الفتاة الريفية تقريبًا الجلباب، ولا سيما في أثناء نزولها إلى المدن الكبرى، فلباسها الريفي كان مجالًا للتنمر أو الاستهجان، في كثير من الأحيان، فحاولت المرأة إزالة الغرابة بالتخلي التام عنه، إلا في إطار بيئتها الاجتماعية الضيقة، حيث تفضل عادة اللباس التقليدي الذي أصبح لباسًا شبه موحد في الريف السوري، ذلك أن الأرياف العشائرية تخلت كليًا عن اللباس البدوي التقليدي الذي لم يعد مناسبًا للفتاة العصرية. إلا أن ثنائية البيت/ الشارع ما زالت تفرض نمطًا معينًا من اللباس؛ ففي القرى، حيث البناء المفتوح على الخارج، تلتزم المرأة بلباس واحد منذ الاستيقاظ حتى النوم، ولكن الأمر مختلف في البيوت المغلقة التي يحتاج الضيف إلى أخذ الإذن قبل الدخول إليها، لأن البيجاما هي لباس المرأة في المنزل بين محارمها.
للحالة الكردية خصوصية يجب إيلاؤها بعض الانتباه، فعلى النقيض من الانتقال إلى مواقع المحافظة لدى أغلبية النساء في سورية، فإن الوضع كان مختلفًا لدى المرأة الكردية، فقد تبنت أغلب الفتيات الكرديات اللباس العصري: البنطال والقميص القصير، وأصبح الحجاب قليل الظهور في الأحياء والقرى الكردية. ثمة من يعلل هذا التحول بالرغبة في إظهار الاختلاف عن الأغلبية العربية المحافظة، الأمر الذي يعطي المرأة الكردية تميزًا ما تحافظ به على خصوصيتها، وهي خصوصية تبدو في مشاركتها في حلقات الرقص بلباسها التقليدي الطويل ذي الألوان الحارة.
غير أن من الواضح وجود صراع رمزيات في الحالة السورية، فبالنسبة إلى الأغلبية العربية، تمثل عودة الحجاب استدارة نحو الجذور والعمق التاريخي الذي حاول النظام تهميشه، ومن ثم محاربته في الفضاء العام. ولا يخرج تأويل الحالة الكردية على هذا الصراع الرمزي، وإن كان يتخذ طابعًا أعمّ؛ فالقومية العربية، في المخيال السياسي والثقافي للأحزاب الناشطة على الساحة الكردية، هي خصم سياسي يقف عائقًا أمام قيام “كردستان التاريخية”، ولذا لا بد من صراع مع القومية العربية على المستوى الرمزي، يتخذ طابعَ المغايرة والاختلاف عن النمط السائد لدى العرب؛ وفي هذا السياق، عُدَّ الحجاب، لدى الأجيال الجديدة التي تغذت على خطاب الأحزاب ذات النهج القومي اليساري، رمزًا عربيًا، لا رمزًا إسلاميًا، يجب التخلي عنه.
ليس من السهولة بمكان رسم خريطة تفصيلية للتحولات التي طرأت على اللباس في العقود الماضية، ولا سيما في مقال، غير أن الثابت في الأمر هو أن العلاقة بين السياسي والثقافي كان لها إسهام واضح في تبني هذا الشكل من اللباس أو ذاك، وهو ما يحتاج إلى فحص أكثر عمقًا. ولعل هذه الكلمات القليلة تفتح باب الولوج إلى البحث في التاريخ الاجتماعي والثقافي، وتقدم قراءة أخرى لحقبة معينة، ينظر إليها على أنها حقبة جامدة سياسيًا، ولكنها في ما يبدو كانت حافلة بحراك اجتماعي مضمر، سرعان ما وجد طريقه إلى التعبير المباشر عن نفسه، بعد قيام الثورة.