المحتويات

مقدمة

أوّلًا: الفدرالية الكردية على المحك

ثانيًا: نحو بلورة عقد وطني جديد 

ثالثًا: اللامركزية الموسّعة لسورية المستقبل

خاتمة

المراجع

 

مقدمة

بعد ما يقرب من ست سنوات يمكن القول: إنّ مفاعيل تعقيدات الثورة السورية لا تزال تنطوي على احتمالات عدّة، فقد يفضي الحراك الدولي والإقليمي إلى حل سياسي ما، لكنه سيرفع الستار حينئذ عن سورية مختلفة، تتنازعها الخلافات المتنوعة بين مكوّناتها. فقد كان التشكيل التاريخي للدولة السورية عند بدايات القرن العشرين مهلهلًا وضعيفًا في إثر تفكّك الإمبراطورية العثمانية، وبقيت منذ سنة 1946 تحمل جملة هائلة من التناقضات الاجتماعية والسياسية والثقافية، من دون أن تلتفت إليها نخبها السياسية والفكرية لتعترف بمعضلاتها كي لا تُتهم في وطنيتها، فضيعت فرصًا ثمينة لإيجاد حلول عملية خلّاقة.

لقد فشل نظام حزب البعث، على مدى 50 عامًا، في بناء دولة لكل مواطنيها. وبالتالي، فإنه مسؤول مسؤولية مباشرة عن تشويه صورة الدولة المركزية إلى حد جعل شرائح واسعة من المجتمع السوري تتطلع إلى صيغ حكم بديلة، قاسمها المشترك تقليص دور السلطة المركزية. وقد تكون الأنظمة اللامركزية، بما فيها النظام الكونفدرالي، أحد خيارات المشروع. مستلهمين الشعارين اللذين رفعتهما الثورة السورية: ” واحد واحد واحد الشعب السوري واحد “، و”سورية بدها حرية”.

 

أوّلًا: الفدرالية الكردية على المحك

منذ اندلاع الثورة السورية في آذار/ مارس 2011، نجد أنّ أنصار فكرة الفدرالية الكردية، ضمن حدود سورية موحدة ومستقلة، ترفرف عليها رايات الحرية والديموقراطية، في تزايد مستمر. ما يستوجب الانخراط في إنتاج نظرة سورية راهنة إلى سائر القضايا السورية، وما يعنيه هذا من ضرورة الانتقال من الصراع القومي إلى الحوار الوطني، ومن المواجهة بين أيديولوجيتين قوميتين، لكل منهما أوهامها وانحيازاتها وتعصباتها إلى فضاء الحوار الوطني الهادف إلى بناء الدولة الوطنية الحديثة، دولة لجميع مواطنيها المتساوين في الحقوق والواجبات.

إنّ توزّع الأكراد الديموغرافي على قسم كبير من الجغرافيا السورية، خاصة في مدينتي دمشق وحلب، واختلاطهم الكثيف في مناطق الجزيرة السورية وشرق نهر الفرات بالعرب وغيرهم من القوميات الأخرى، يجعل الخيار الوطني السوري خيارًا مفروضًا موضوعيًا بقوة الجغرافيا والديموغرافيا.

ومن هنا فإنّ ما أقدم عليه حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في مطلع العام 2015، بإعلانه ” الإدارات الذاتية ” في شمالي سورية، والتي ضمّت ثلاثة أقاليم: (الجزيرة، وعين العرب/ كوباني، شرق نهر الفرات، وعفرين غربه). وكذلك في اجتماع المؤتمر التأسيسي لـ ” نظام الإدارة في روج آفا ” (غرب كردستان)، حيث اجتمع في 17 آذار/ مارس الماضي 200 مندوب، يمثلون 31 حزبًا كرديًا وأشوريًا وسريانيًّا، في مدينة الرميلان الخاضعة لسيطرة “وحدات حماية الشعب” الكردية، تحت شعار “سورية الاتحادية الديمقراطية ضمان للعيش المشترك وأخوّة الشعوب ” إيذانًا بإعلان “الفدرالية الكردية”.

واستعدادًا للقاء، الذي ترتبه إدارة الاحتلال الروسي، جاء اجتماع رميلان في أواخر العام الماضي لـ 165 شخصية حزبية وسياسية سورية كردية، ليعلن عن إلغاء مصطلح “روج آفا”، والإعلان عن فدرالية شمالي سورية، حيث تكون الفيديرالية “قائمة على الجغرافيا وليس الديموغرافيا أو المكوّنات” كما كان سابقًا، عادّين أنّ الفدرالية مشروع الحل الديمقراطي للأزمة السورية. وواضح أنّ هذه المؤتمرات لا تعدو أن تكون إلّا استكمالًا للصفقة بين سلطة آل الأسد وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي.

إنّ الربط بين المسألة الكردية في سورية، وممارسات وتوجهات الـ ب ي د، لا يخدم الجهد الساعي إلى تقديم حلول واقعية وطنية للمسألة الكردية. فمشروعه مشروع إقليمي، دخل إلى سورية بناء على توافقات وتفاهمات مع النظامين الإيراني والسوري، بهدف المصادرة على الورقة الكردية السورية، تمامًا مثلما فعل حزب الله في لبنان بالنسبة إلى ورقة المقاومة، والمشاريع التي يطرحها هي مشاريع للتعمية وخلط الأوراق. والسوريون الكرد يدركون قبل غيرهم الطبيعة التضليلية لهذه المشاريع. ولكن، في غياب مقاربة واقعية متماسكة مطمئنة لهذه المسألة من جانب المعارضة السورية، يكتسب مشروع الـ ب ي د، المزيد من التأييد، على الرغم من اقتناع الأغلبية بأنه مشروع، الغاية منه تسجيل النقاط في مكان آخر (2).

وكان الأستاذ صلاح بدر الدين، منذ شباط/ فبراير 2014، قد أشار إلى أنّ البديل من هذه الإدارة في نظر أغلبية الوطنيين الكرد “إيلاء الأولوية لإسقاط النظام، والانخراط الكامل في الثورة والتنسيق مع قواها وعدم القيام بأي خطوة انفرادية إلا بالتنسيق مع شركائنا في الوطن من العرب والمكوّنات الأخرى، والآن هم قوى الثورة وليس النظام”. وكما قال عضو المكتب السياسي للحزب الديموقراطي الكردي في سورية (البارتي) وعضو المجلس الوطني الكردي في سورية محمد إسماعيل إنّ “هذه الإدارة تعزل الحركة الوطنية الكردية عن المعارضة الوطنية السورية وقوى الثورة السورية، والتي تمثل جزءًا أساسيًا من الشعب السوري، فلا يمكن إقامة إدارة في المنطقة الكردية من دون تفاهمات معها حول خصوصية هذه المناطق، لأنّ احترام خصوصية كلّ مكونٍ واحترام خياراته السياسية من الأهداف الرئيسة للثورة السورية وتطلعات الشعب السوري”.

 

ثانيًا: نحو بلورة عقد وطني جديد

إنّ الأمر يتطلب بلورة عقد وطني جديد، يخلق مساحة لمشاركة قوى سياسية واجتماعية واقتصادية في العملية السياسية الوطنية. وهذا يستدعي أن يتناول الحل السياسي المقبل المواضيع والمسائل الأساسية كافة التي تهم جميع المكوّنات السورية الرئيسية، من خلال انخراط الجميع في عملية صوغ العقد الوطني الجديد. على أن تواكب هذه العملية السياسية ضمانات دولية وإقليمية في إطار الأمم المتحدة، توفر الضمانات لإنجاحها وتثبيت نتائجها وحماية هذه النتائج.

 

ثالثًا: اللامركزية الموسّعة لسورية المستقبل

إنّ الخيار ليس بين المركزية الطاغية، أو التقسيم، أو الفدراليات الطائفية والقومية، بل هو بين هذا كله وبين نظام ديمقراطي حقيقي، تُضمَن فيه صلاحيات الحكومة المركزية، في المجالات الكبرى كالخارجية والدفاع والعملة وإدارة الموارد الاقتصادية الرئيسة، حكومة قادرة على حل القضايا المعلقة والشائكة. إنه أيضًا النظام الذي يضمن، في الوقت نفسه، أوسع الصلاحيات للمحافظات والمناطق والنواحي.

ولعلَّ الأمر المهم هنا، هو أنّ الثورة وضعت سورية أمام مرحلة جديدة لم تعد تقبل بصيغة الدولة التسلطية التي قامت على المركزية وسلطة الحاكم الأوحد، ووضعت جميع السوريين أمام امتحان الديمقراطية والحرية والتعددية، وهذه مفاهيم ينبغي أن تتجسد في العقد الاجتماعي الجديد المقبل والقوانين الكفيلة بحفظ الحقوق وممارستها في إطار دولة المواطنة.

 

وفي الواقع، تتطلب العقلانية التعامل مع الجدل السوري الجاري بشأن حدود النظام اللامركزي من زاويتين مهمتين: أولاهما؛ على أنه يقدم الحل لمشكلة مزمنة هي مشكلة المكوّنات القومية والدينية ضمن الدولة السورية الواحدة. وثانيتهما؛ أنه يقدم الحل لإشكالية الحكم في دولة يصعب قيادتها مركزيًا. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو: إذا كان نظام اللامركزية الإدارية الموسّعة يقدم الحل لهاتين المشكلتين المزمنتين سوريًّا؛ فـ “ألا يستحق من الجميع التوقف عنده وإعطاء الفرصة له بعيدًا عن الشعارات الجاهزة والتي تساويها بالتقسيم والخيانة”؟

وقد اقترح الأستاذ جمال قارصلي أن يكون نظام الحكم برلمانيًّا ديمقراطيًّا، مع الاعتماد على اللامركزية الموسّعة في إدارة شؤون المحافظات والمدن، وإعطائها صلاحيات واسعة، وفي كل المجالات، إضافة إلى تطبيق مبدأ البرلمان بحُجرتَين، وذلك على غرار ما هو موجود الآن في ألمانيا، أي أن يكون هنالك إلى جانب البرلمان الأساسي (البوندستاغ) برلمانٌ خاصٌّ للمحافظات (البوندسرات)، والذي يتم فيه تداول كل شؤون المحافظات فيما بينها، وعلاقتها بالحكومة المركزية (3).

مع العلم أنّ هناك اتفاقًا عامًا بين علماء السياسة على أنه لا يمكن الاعتراف بأنّ نظامًا سياسيًا ما أنّه نظام ديمقراطي إذا لم يتوافر فيه شكل أو آخر من أشكال الحكم المحلي. بل إنّ الديمقراطيات تقارَن على أساس مدى نضج نظام الحكم المحلي فيها، وإن كان الحكم المحلي سمة للنظم الديمقراطية فإنّ القيم المتجذرة في عقول الأفراد ونفوسهم داخل الوحدة المحلية هي التي تحكم على ما إذا كانت هذه المسألة لها معنى حقيقي أو مزيف، فلا يمكن أن نكتفي -قولًا- بأنّ “المحليات هي مدارس الديمقراطية “، أو مرحلة التعليم الأساسي لها، والتي تؤهل الفرد لممارسة السياسة على المستوى الوطني، بل ينبغي أن تكون القيم السياسية السائدة داخل الوحدة المحلية قيمًا إيجابية في اتجاه الديمقراطية. ذلك أنّ العمل المحلي يحتاج إلى قدر كبير من المشاركة، سواء في انتخاب أعضاء المجالس المحلية، أم المساهمة في المشاريع التنموية التي يتم إنشاؤها داخل الوحدة المحلية، أو الرقابة على الأعضاء ومحاسبتهم على أدائهم ومطالبتهم بتقديم كشف حساب إلى هيئة يكوّنها الناخبون، تناقشهم في الأعمال المزمع القيام بها وتراجعهم في أوجه القصور، وتساعدهم على تلافيها، وقيمة المشاركة تتطلب وجود قدر مرتفع من قيمة الحرية. والحرية والمشاركة تضمنان قدرًا من العدالة في توزيع الموارد والأعباء المحلية، وتحفظان للمواطنين حقهم في المساواة أمام المجالس والنظم المحلية.

وإذا كان للنظام المحلي هذا الدور المهم في تحقيق الوحدة الوطنية الطوعية، فإنّ القيم السياسية الحديثة هي بيت القصيد في هذه العملية، فالمشاركة السياسية مثلًا تقوّي الوحدة الوطنية السورية، والمشاركة عن طريق اللامركزية تسمح للولاءات الفرعية بأن تعبّر عن نفسها من دون كبت، ما يؤدي إلى التخفيف من وطأتها فلا تصبح معضلة في سبيل تحقيق الوحدة الوطنية.

 

خاتمة

في ظلّ صراع الهُويات القائم اليوم، وكذلك الحرب التي عصفت بسورية، أصبح السوريون في حاجة ملحّةٍ إلى عقدٍ اجتماعي جديد، ينقلهم إلى الحالة الوطنية الأرحب. وفي طبيعة الحال، فليس المدخل إلى ذلك مشروع “الفدرالية الكردية” في شمالي سورية وشرقيها، ومشروع “سورية المفيدة” في غربيها، بحسب ورقة لـ “وحدة دراسة السياسات” في مركز حرمون للدراسات المعاصرة.

إنّ مشروع اللامركزية الإدارية الموسّعة سيكون مساهمًا في وقف النزف السوري، وبناء مستقبل سورية الغد في إطار التعددية والديمقراطية، وسيساهم مثل هذا المشروع في ازدهار البلاد اقتصاديًا، وتماسكها في وحدة جغرافية تقطع السبيل أمام التقسيم والتشتت.

 

المراجع

  • في الأصل مقاربة أعددتها لمجلة ” اليراع الحر” – العدد (6) – آب/ أغسطس 2016.

(2) د. عبد الباسط سيدا، موقع الكرد من الثورة السورية وتفاعلهم معها، ورقة قدمت إلى اللقاء الحواري الأول في صالون هنانو/ مركز حرمون للدراسات المعاصرة، برلين 13-14 آب/ أغسطس 2016.

(3) جمال قارصلي، مقترحات من أجل الوصول إلى تصورات مشتركة لحل عادل ومتوازن للقضية الكردية في سورية، ورقة قدمت إلى اللقاء الحواري الأول في صالون هنانو/ مركز حرمون للدراسات المعاصرة، برلين 13-14 آب/ أغسطس 2016.