مقدمة
من المعلوم أن وظيفة البرلمان الرئيسية، كسلطة تشريعية في الدولة، هي سنّ القوانين المختلفة وفق الإجراءات التي نصَّ عليها الدستور، ومن هذه القوانين فئة لها طبيعة خاصة وحسّاسة أكثر من غيرها، تهدف إما إلى تنظيم السلطات العامة، وإما إلى تنظيم أحد الحقوق الأساسية التي أولاها الدستور عنايته، أو القوانين ذات العلاقة الوثيقة بحريات المواطنين، أو القوانين التي تهدف إلى تسيير المؤسسات والهيئات الدستورية في الدولة.
وإن آلية إنتاج القانون تسمح بإقراره في البرلمان بنسبة حد أدنى من النواب الموافقين عليه. وفي سورية، على سبيل المثال، لا تقل النسبة عن ثُلث النواب (المادة 122 من النظام الداخلي لمجلس الشعب لعام 2017). وإنّ طبيعة الحياة السياسية السليمة، في أيّ دولة طبيعية من الناحية الدستورية، تسمح بتنافس القوى والكتل السياسية فيها، للحصول على غالبية نيابية في البرلمان قد تمكّنها من الفوز بنسبة من المقاعد، تخولها سنّ القوانين على النحو الذي ترغب، وقد أدى ذلك إلى نشوء نظرية في القانون الدستوري تهدف إلى الحد من صلاحيات البرلمان وتقييد نشاطه، عند قيامه بسنّ هذا النوع من القوانين ذات الطبيعة الخاصة، بمجموعة من الضوابط والآليات تختلف عن آليات سنّ القوانين العادية. وبدأت هذه النظرية تنتشر في الدساتير المقارنة، حيث لجأ البعض منها إلى اعتماد قواعد خاصة لإصدار هذه القوانين، كما فعل الدستور الفرنسي عام 1958 والدستور الإسباني عام 1978 وبعض الدساتير العربية الحديثة، كدساتير تونس والجزائر والمغرب ومصر، وبذلك أصبحت الدساتير تميّز بين القوانين العادية التي تصدرها السلطة التشريعية وفق الإجراءات المعتادة، وبين هذه القوانين التي أطلقت عليها معظم الدساتير تسمية (القوانين الأساسية)، وتسمى في الجزائر “القوانين العضوية”، وفي المغرب “القوانين التنظيمية”، وفي مصر “القوانين المكملة للدستور”.إ
تعريف القوانين الأساسية:
يمكن تعريف “القوانين الأساسية” بأنها قوانين خاصة مكملة للدستور، تنظم مواضيع لها حساسية حددها الدستور، تقيّد المشرّع وتلزمه بإصدارها وفق ضوابط محددة في الدستور، خلافًا لإجراءات إصدار القوانين العادية.
نطاق القوانين الأساسية
من الصعب حصر المجالات التي تتناولها هذه القوانين، فهي تختلف من دولة لأخرى، وقد يتسع نطاقها في دستور إحدى الدول، كما فعل الدستور الفرنسي الذي حدد نطاقها في أكثر من خمسين مسألة، ويضيق في أخرى، كالدستور المصري الذي حدد نطاقها في خمسة مسائل. وإن واضع الدستور في كل دولة هو الذي يحدد القوانين التي لها حساسية خاصة، فيصنفها في فئة القوانين الأساسية.
وبتفحص دساتير فرنسا وإسبانيا وتونس ومصر والجزائر، كنماذج للقوانين الأساسية، نجد أنها تتفق على اعتبار (قوانين الانتخابات، والتنظيم القضائي، والقضاء الدستوري)، من صنف القوانين الأساسية، وتزيد عليها الدساتير العربية الثلاث (قوانين الأحزاب والجمعيات)، خلافًا للدستورين الآخرين اللذين لا يعتبرانها من فئة القوانين الأساسية، ولعل ذلك بسبب رسوخ الديمقراطية في هذين البلدين. ويعدّ قانون الإعلام في دستوري تونس (الفصل 65) والجزائر (المادة 123) من هذه الفئة، خلافًا للدساتير الثلاثة الأخرى، وتتفق دساتير فرنسا وإسبانيا وتونس والجزائر على اعتبار (قوانين الأمن والدفاع والقوانين المالية والموازنة) من فئة القوانين الأساسية، وتُعدّ (قوانين تمويل الضمان الاجتماعي) في الدستور الفرنسي (المادة 34)، و(قانون حالة الطوارئ) في الدستور الإسباني (116)، و(قانون الأحوال الشخصية) في الدستوري التونسي، من هذه الفئة أيضًا (الفصل 65).
ويتحكم في تقرير اتساع وماهية القوانين الأساسية في كل دولة طبيعةُ نظامها السياسي والاجتماعي، ومتانة القانون الدستوري فيها.
أسلوب الدساتير في تحديد القوانين الأساسية:
لا يوجد أسلوب معين للتفريق بين هذين الصنفين من القوانين العادية والأساسية، وإنما تُحدد الدساتير المسائل التي يجب أن يصدر بها قانون أساسي بطرق متعددة، فإما أن يخصص الدستور إحدى مواده لاستعراض المواضيع التي يجب تقنينها بقانون أساسي، كما فعل الدستور التونسي بالفصل 65 منه، والدستور المصري النافذ بالمادة 121 منه. وإما أن يسرد الدستور المواضيع التي يتناولها بالتسلسل، وكلما ارتأى أن هذا الموضوع يجب أن يصدر به قانون أساسي، ذكر ذلك صراحة في موضعه، كما فعل الدستور الفرنسي والدستور الإسباني والدستور المغربي، حيث يستعرض الدستور على كامل مساحته مسألة دستورية، ثمَّ يقرر بشكل صريح تنظيمها بموجب قانون أساسي. وهناك من يمزج بين الطريقتين، كما فعل الدستور الجزائري، إذ قام بتحديد المسائل التي يحتاج تنظيمها إلى قانون أساسي في موضعه، كلما احتاج الأمر في سياق سرد مواضيع الدستور، وخصص المادة 123 منه لبقية المواضيع التي يحتاج تنظيمها إلى قانون أساسي (عضوي).
وهناك دساتير لا تميز بشكل صريح بين قوانين عادية وأساسية، ولكنها أوجبت عند إقرار قوانين معينة تصويت نسبة عالية من أعضاء البرلمان عليها، كما فعل الدستور الهولندي، في مواضع عدة، حيث أوجب تصويت ثلثي أعضاء البرلمان عند إقرار قوانين معينة بالذات، كالقوانين التي تتعلق بوراثة العرش أو مصروفات الملك، أو عند التصديق على أي معاهدة قد تتعارض مع الدستور (المواد 29 و30 و40 و63 و91 و137 و138).
إجراءات إصدار القوانين الأساسية:
تلجأ غالبية الدساتير التي تأخذ بهذا التقسيم للقوانين إلى النصّ على أحد الإجراءات التالية، يجب على المشرع فعل أحدها -على الأقل- لإصدار القانون الأساسي:
1. نسبة الاقتراع:
تفرض الدساتير نسبة اقتراع تؤيد القانون الأساسي أكثر من تلك التي تتطلبها القوانين العادية، وعادة ما تكون هذه النسبة أغلبية النصف زائد واحد من النواب، كما ينصّ الدستور الجزائري -على سبيل المثال- في (المادة 123) منه على أنّه تتم المصادقة على هذا القانون بالأغلبية المطلقة للنواب، وبأغلبية ثلاثة أرباع أعضاء مجلس الأمة. وكذلك الدستور التونسي يتطلب مصادقة الأغلبية المطلقة لأعضاء مجلس النواب على هذا القانون (الفصل 64).
2. مراقبة القضاء الدستوري:
تفرض بعض الدساتير رقابة القضاء الدستوري المسبقة على هذه القوانين، وتطلب مصادقته على موافقة هذا القانون للدستور قبل إصداره، كالدستور الفرنسي (المادة 46) والدستور المغربي (الفصل 132) والدستور الجزائري (المادة 123).
3. مهلة زمنية قبل النظر بالقانون:
تنص بعض الدساتير على وجوب مضي مدة معينة بين ورود مشروع أو اقتراح القانون إلى البرلمان، والبدء بإجراءات نظره، كالدستور التونسي الذي ينصّ على أنه لا يعرض مشروع القانون الأساسي على مداولة الجلسة العامة للبرلمان إلا بعد مضي خمسة عشر يومًا من إحالته على اللجنة المختصة (الفصل 64).
القوانين الأساسية في سورية:
لم يتطرق أي من دساتير سورية، حتى دستور 2012، إلى هذه القوانين قط، وبذلك تعدّ جميع القوانين التي يصدرها البرلمان في سورية من فئة القوانين العادية، ولكن عندما صدر النظام الداخلي لمجلس الشعب في 30 تموز/ يوليو 2017، جرى استدراك هذه الناحية بموجب المادة 122/ 2 منه التي قالت: (يُقرُّ المجلس القوانين الأساسية بموافقة الأغلبية المطلقة لعدد أعضائه).
ويُقصد بالقوانين الأساسية القوانينُ الناظمة للانتخابات، والأحزاب، والسلطة القضائية، ومجلس الدولة، والمحكمة الدستورية العليا، والإدارة المحلية. ولا شك أن هذه النص غير دستوري، بسبب عدم النص على هذا التصنيف بمتن الدستور ولا يجوز لسلطة أن تقيد صلاحيتها بقيود لم ترد في الدستور.
القوانين الأساسية المطلوبة في الإصلاح الدستوري المقبل في سورية
لا شكّ في أننا نحتاج، في أي إصلاح دستوري مرتقب، إلى إقرار هذا النوع من القوانين في صلب الدستور، وإحاطتها بضمانات كافية، من حيث نسبة التصويت العالية، والرقابة القضائية المسبقة من المحكمة الدستورية، والتوسع في إقرار هذا الصنف من القوانين على كامل مساحة الدستور، أسوة بدساتير فرنسا وإسبانيا والجزائر، حتى لا تستطيع كتلة سياسية، تهيمن على البرلمان وتسيطر على وظيفة التشريع فيه، العبثَ بمنظومة التشريعات ذات الطبيعة الحساسة في الدولة، ونرى أن يتم ذلك على الوجه الآتي:
1. أسلوب تحديد القوانين الأساسية:
بما أنه لم يسبق في التاريخ الدستوري السوري أن تبنى أي دستور هذا التصنيف من القوانين سابقًا، ويقتضي الحال أن يفعل ذلك في الإصلاح الدستوري الذي ترنو الأبصار إليه، فمن المستحسن أن يقوم الدستور القادم بسرد المواضيع التي يتناولها، وكلما ارتأى أن هذا الموضوع يجب أن يصدر به قانون أساسي؛ ذكر ذلك صراحة في موضعه، ثم يشير صراحة في مادة مستقلة إلى القوانين التي تعدَّ أساسية.
2. إجراءات إصدار القوانين الأساسية:
نرى أن يتبنى الدستور في إصدار القوانين الأساسية الضمانات والإجراءات الآتية:
- – قصر إصدارها على السلطة التشريعية حصرًا، دون أن تُخوّل السلطة التنفيذية ذلك عبر مراسيم تشريعية.
- – أن يتم الاقتراع عليها بنسبة أغلبية تتجاوز نصف عدد النواب (الأغلبية المطلقة للمجلس)، وفي حال اعتُمد نظام البرلمان بغرفتين لمراعاة تمثيل كل المناطق، فبأغلبية 75% من نواب الغرفة الثانية التي تمثل المناطق.
- – أن يسبق التصويت على القانون أخذ رأي المحكمة الدستورية العليا، وأن يكون رأيها ملزمًا للسلطة التشريعية.
ما هي القوانين التي يجب تصنيفها كقوانين أساسية؟
نظرًا للخلفية التاريخية في استخدام التشريع على نطاق واسع، كوسيلة تسهم في تكريس هيمنة حزب واحد على السلطة، حيث لم ير المشرع غضاضة في إصدار قانون يفرض عقوبات جسيمة لأي فعل يُخلُّ بأمن الحزب الحاكم (القانون 53 تاريخ 8 نيسان 1979) لدرجة أنه فرض عقوبة الإعدام، إذا جرى اعتداء على أحد مقرات الحزب، إذا تمَّ بتحريض أو تدخل من جهة خارجية (المادة 10/ ب – أولًا)، وهو قانون ما زال نافذًا حتى الآن، فإننا نرى ضرورة التوسع في هذه الفئة من القوانين، لتشمل في الحد الأدنى التشريعات التالية:
- – قوانين التصديق على المعاهدات والاتفاقيات الدولية.
- – قوانين الأحزاب والجمعيات والمنظمات (باستثناء قوانين الجمعيات السكنية والاستهلاكية والخيرية وما يماثلها) ونقابات العمال والمهن العلمية.
- – القوانين الناظمة لانتخابات رئاسة الجمهورية والبرلمان ومجالس الإدارة المحلية.
- – النظام الداخلي للبرلمان وكافة القوانين الناظمة لعمله.
- – قوانين الإعلام والصحافة والنشر والمطبوعات والتواصل على الشبكة، وأي قانون ناظم لوسائل التعبير عن الرأي.
- – قانون الإدارة المحلية.
- – قوانين الطوارئ والتعبئة.
- – قانون الميزانية العامة لدولة.
- – القوانين الناظمة للسلطة القضائية بكافة فروعها (القضاء الدستوري، والعادي، والإداري).
- – قوانين الجيش والشرطة.
- – قانون الجنسية.
- – قوانين العفو العام.
- – القوانين الناظمة للهيئات التي يقرها الدستور.