منذ أن اختُتِم تنزيل آيات القرآن، وبدأ عصر التفسير في القرن الثاني للهجرة؛ شغلت المفسرين والعاملين في علوم القرآن مسألتان، لم يتم حلّهما بشكل قاطع جازم، حتى يومنا هذا. المسألة الأولى: معنى الأحرف المقطعة الموجودة مطلع السور الطوال مثل (ألم، ألر، كهيعص… إلخ…)؛ والمسألة الثانية: هل احتوى القرآن الكريم كلمات غير عربية؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب عن المسألة الثانية، فكيف نفهم قوله تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ}؟
في المسألة الأولى، بقي تفسير الأحرف المقطعة الذي قدّمه المفسرون القدامى والمعاصرون مُبهمًا غير واضح، وغير مقنع، حتى استطاع مستشرقان أوروبيان أن يفسّرا معناها تفسيرًا مقنعًا، عندما ألحقوها بالترجمة إلى لغات أخرى، وهما البروفيسور الألماني جيرد بوين (أستاذ اللغات السامية القديمة) الذي ألّف كتابًا صدر عام 2000 بعنوان (آرامية القرآن: قراءة سريانية)؛ والبروفيسور غابرين صوما (المتخصص باللغات السامية) الذي كتب كتابًا صدر عام 2006 بعنوان (القرآن الذي أسيء تفسيره)، وبغض النظر عما قالاه في أصل النسخة القرآنية، ولا نوافقهما عليه؛ نرى أنّ ما توصلا إليه، في مسألة الأحرف المقطعة، مقنعٌ إلى حٍّد بعيد، حيث بيّن كل منهما أن أصل الأحرف المقطعة لا يمكن فهمه إلا من خلال اللغة السريانية القديمة، وقد ضربا أمثلة في ذلك، نذكر بعضها:
- ألم: تعني بالسريانية (صمتًا لبدء التلاوة)، وهذا متناسب مع الآيات التي تليها في سورة البقرة.
- ألر: تعني بالسريانية (تأمل أو تدبر)، وهو متناسب مع الآيات في بداية سورة يوسف.
- كهيعص: تعني بالسريانية (هكذا يعظ)، وهو متناسب مع الآيات التي تليها في سورة مريم.
- طه: تعني (يا رجل) وكذلك متناسب مع الآيات التالية، وقد سبقهما بذلك الطبري شيخ المفسرين.
وعندما نأخذ بهذه المعاني في تأويل الأحرف المقطعة؛ نجدها متناسقة ومعقولة مع سياق الآيات التي تليها، بالنظر إلى ما قيل في تأويلها عند المفسرين السابقين والمعاصرين؛ حيث ذكر السابقون والمعاصرون، بحسب المدارس التي ينتمون إليها، آراءً متناقضة حول الأحرف المقطعة، فمثلًا قالت مدرسة المتطهرين عن الأحرف المقطعة بأن “الله أعلم بمراده من ذلك”؛ وقال فريق الأثر: هي أسماء السور التي بدأت بها، كما جاء في بعض الآثار. أما اللغويون فقالوا: لو نزعنا الأحرف المكررة من المقطعة، فسيبقى منها (14) حرفًا، وهي نصف أحرف العربية، وهذا يعني أنه تحدٍ لغوي للعرب الذين كانوا في أوج لغتهم آنذاك. فريق رابع قال: الأحرف تعني أسماء الله الحسنى، فمثلًا (ألم) تعني الله اللطيف المجيد. وأما الفريق الخامس من مدرسة التفسير الإشاري فقال: لو جمعنا الأحرف المقطعة ورتبناها من جديد؛ لأعطتنا هذه الجملة (نصٌّ حكيمٌ له سرٌّ قاطع). وهناك المدرسة الصوفية التي تقول بأن لكل حرف رقمًا، وبذلك قالوا إنّ معنى كلمة (طه) بداية سورة (طه) الطاء تساوي خمسة بحساب الأرقام؛ والهاء تسعة، وبذلك يكون معنى (طه) القمرَ ليلة يكون بدرًا. وهناك التأويل الطائفي، كما عند الشيعة، حيث أولوها تأويلًا طائفيًا أسقطوه على الصراع بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان.
ومن الواضح أن تلك التأويلات فيها تمحّل واضح وتأويل بعيد عن المعنى، بين المتطهرين الذين قالوا بأن الله أعلم بمراده من تلك الأحرف المقطعة، وبين من أراد أن يحل لغزها؟! فذهب بها مذاهب، التمحلُ فيها واضٌح جلي.
لكننا نجد أن ما ذهب إليه كل من جيرد بوين، وغابرين صوما، مقنعٌ من حيث السياق، ويحلُّ لنا لغز هذه الأحرف المقطعة، مع يقيني بأن العرب (مشركين ومؤمنين) قد فهموا المراد منها عندما نزلت، بدليل أنهم لم يعترضوا عليها، ولو كانت غير مفهومة لديهم، لقالوا: يا محمد قد قلتَ إن قرآنك بلسان عربي مبين، وهذه الأحرف لم نفهم معناها! أو لسأله الصحابة عن معناها لو لم يفهموها. وهذا لم يحدث إطلاقًا.
وما يجعلنا نرى هذا التفسير للأحرف المقطعة لـ (بوين وصوما) مهمًا، حتى الآن على الأقل، أنّ علماء اللغة العربية قالوا: إن هناك تشابهًا كبيرًا بين اللغتين العربية والسريانية. دون أن يجدوا في قولهم حرجًا. وإن كان (بوين وصوما) ذهبا إلى أشياء لا يمكن لمسلم أن يقبلها، ولكن هذا لا يعني أن ندع ما هو مقنع ومفيد في ما طرحا.
المسألة الثانية: هل احتوى القرآن الكريم كلمات غير عربية؟
هذه مسألة اختلف فيها السابقون كثيرًا، وكانوا على ثلاثة فرق:
الفريق الأول: يرى عدم وقوع المُعرب في القرآن، لأنه لو وُجِدَ فيه كلمات أعجمية، لما انسجم مع التحدي الإلهي لهم بأن يأتوا بمثله، وعلى رأس أصحاب الرأي من هؤلاء الإمام الشافعي والباقلاني وابن فارس وغيرهم. وقد اعتمدوا رأي الشافعي في كتابه الرسالة: “لا يحيط باللغة إلا نبيّ”.
الفريق الثاني: أكد وجود كلمات مُعربة، ولكنها قليلة، بحيث لا تُخرج القرآن عن عربيته، وقال بهذا الرأي ابن أبي شيبة والثعالبي وابن النقيب والسيوطي. وقد نُقل عن الثعالبي قوله: “ليس هناك لغة في الدنيا إلا وهي في القرآن”.
أما الفريق الثالث: فقد مال إلى التوفيق بين الرأيين السابقين، إذ قال: إن بعض الكلمات أصولها أعجمية، ولكنها عُرّبت حين تداولها العرب، وبذلك أصبحت عربية، وعندما نزل القرآن بمثل هذه الكلمات، لم تستنكر ذلك قريش التي تحتوي على اللغة العربية الأم آنذاك بين القبائل العربية.
وقد نقل الإمام الطبري في تفسيره عن ابن عباس أن هناك كلمات تم فيها توارد اللغات، فتكلمت بها العرب والفرس والأحباش بلفظ واحد.
فاللسان العربي المبين يعني أنّ لغةً آلية المخاطبة وأسلوب الإفهام الذي جاء به القرآن الكريم خالٍ من كل عيب ونقص، ولا تعني البعد القومي أو العرقي.
هناك كتبٌ كثيرة في هذا الباب، شرحت وأطنبت فيه، منها على سبيل المثال لا الحصر كتابُ (المهذب فيما وقع في القرآن من المُعرب) لجلال الدين السيوطي؛ وكتاب (المعرّب من كلام العرب على حرف المعجم) لأبي منصور الجواليقي؛ ومن المعاصرين الذين كتبوا في هذا الشأن الدكتور محمد سيد علي بلاسي، في كتابه (المُعرب في القرآن الكريم)، والأستاذ الشهير محمود محمد شاكر، في كتابه (مداخل إعجاز القرآن) وغيرها كثير.
يقول ابن عطية النحوي والمفسر الأندلسي في هذا الأمر، في تفسيره الشهير (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز): “إن هذه الكلمات وقعت نتيجة أن العرب العاربة خالطوا أقوامًا أعاجم نتيجة أسفارهم، فعلقت هذه الكلمات في لغتهم واستعملها العرب في أشعارهم، ثم نزل القرآن بها”.
أمثلة على الكلمات المُعربة
صنَّف بعض الكتّاب من الفريق الثالث المذكور آنفًا عدد الكلمات الأعجمية، فـ (الكرماني) بكتابه (المعرب في القرآن) حول الموضوع أحصى (124) كلمة أعجمية تم تعريبها. منها على سبيل المثال لا الحصر: كلمة الأسباط باللغة التي كان يتكلم بها أبناء يعقوب تعني “القبائل”؛ وكلمة أوّاب كلمة حبشية تعني “المسبِّح”؛ ودَرَسْتَ: أي “القراءة” بالعبرانية؛ وسجّيل تعني بالفارسية “الحجر الطيني”؛ وسيناء بالنبطية تعني “الحُسن”؛ وصُرهُنَّ بالنبطية تعني “شققهنَّ”؛ وطوبى هو اسم “الجنة” بالأوردية؛ وعدن هي “الأعناب والكرم” بالسريانية؛ والقسطاس بلغة الروم هو “الميزان”؛ والقسيس هو الرجل “العَدِل التقي” بالرومية؛ والقيوم هو “الذي لا ينام” بالسريانية؛ ويثرب بالسريانية “الله موجود”؛ أما مكة فهي “الأرض المنخفضة”؛ وليِّنة هي “النخلة” بلغة يهود يثرب؛ والوَزَر هو “الجبل” بلغة حمير؛ ويحور أي “الرجوع” بلغة الحبشة؛ ومقاليد أي “مفاتيح” بالفارسية؛ ومناص بالنبطية تعني “فرار”؛ ومرقوم أي “مكتوب” بالعبرية.. وهكذا هناك أسماء كثيرة.
وما يؤكد وجود هذه الكلمات المُعربة -بحسب رأينا- هو أسماء الأنبياء والرسل والأماكن التي وردت في القرآن، فهي يقينًا ليست عربية، وما دام الأمر فيه خلاف، فهذا يعني أن فيه سعة، واعتماد أحد الأقوال لا يضر صاحبه.
ما المقصود بالعربي في الآيات التالية؟
يحضرنا هنا اعتراض من بعضهم، مفاده أن القرآن كما جاء في آياته:
﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ يوسف:٢
﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ فصلت:٣
﴿وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ الأحقاف:١٢
وكيف نفهم قوله تعالى: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ﴾ الشعراء:١٩٥
يُخطئ كثيرٌ من المسلمين، حين يعتقدون أن المعنى في هذه الآيات قوميّ، وهذا ليس صوابًا، فاللسان العربي المبين يعني أنّ لغةً آلية المخاطبة وأسلوب الإفهام الذي جاء به القرآن الكريم خالٍ من كل عيب ونقص، ولا تعني البعد القومي أو العرقي، وأما (عَرَبَ) في المعجم، فتعني التمام والكمال والخلو من النقص، وهذه المفردة -كما في الآيات المذكورة آنفًا- لم يتعلق سياقها بالبشر، بل بالمعنى البلاغي، وكثير من المفردات الأعجمية كانت مستخدمة لديهم، نتيجة تلاقحهم مع الشعوب الأخرى، وتم تعريبها وفُهم معناها.
وعندما يقول تعالى ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ لا يعني أن القرآن قبل نزول على الأمين محمد كان مكتوبًا بالعربية؟ لكن يعني أن وجوده المسبق قبل النزول غير مدرك الصيغة والكيفية بالنسبة إلينا، ولما نزل جعله الله بلغة العرب، فالجعل هو التحويل. حيث نقول اليوم الصناعات التحويلية أي التغيير في مآل المادة لنجعل منها مادة أخرى. وحول هذا المعنى يقول الجرجاني: “الألفاظ خادمة للمعاني، وإن المعاني هي المالكة سياستُها”.
وهذا ما بيّنه الرسول الكريم بقوله: “إنما العربية اللسان”. فالعربية لا تعني العِرق أو القومية، رغم استعمالها اليوم قوميًا على هذا النحو، ولذلك حينما نجد تفسيرًا يقارب الحقيقة والعقل، لا داعي للخوف كون القائل ليس بمسلم، ورسولنا يقول: “الحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحق بها”.
الخلاصة
نستطيع القول، بعد هذا العرض المقتضب لهذا الموضوع القديم/ الجديد، وما يثار حوله من معارك (دونكيشوتية): إن الشعوب قديمًا وحديثًا عندما يتم اختراع أو إيجاد شيء ما، تكون لغة المخترع الأول ومصطلحه هي الأكثر شيوعًا، كما يحدث اليوم في كلمات معاصرة كـ (كمبيوتر، موبايل، أنترنت… إلخ)، واللغات السامية خصوصًا كانت تستعير من بعضها المصطلحات، نتيجة تقارب تلك الشعوب والأقوام والتجارة والمصاهرة بينها، ومع مرور الزمن؛ تصبح كأنها من أصل اللغة التي استعارتها. فالكلمة -بغض النظر عن أصلها وجذرها- هي المسألة التعبيرية المدركة، وكما قال أهل اللغة: “الاستخدام يخصص اللغة”. والله أعلم.
بتوفيق دايمن إن شاء الله