على مرّ التاريخ، كان الفقر أو الإفقار هو الوسيلة الأنجع والأسهل لاستعباد الرعايا، مهما اختلف شكل الحكم، وعلى الرغم من فائض الأدبيات التي تناولت الأسس البنيوية لطبقات المجتمع والعدالة الاجتماعية، فإنها بقيت أسيرة مخطوطاتها، حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، وانقسام العالم إلى معسكرين، أسس كلّ منهما لمفهومه الأيديولوجي والاقتصادي للتفاوت الاجتماعي الذي ظلّ ساريًا، بالرغم من انهيار الاتحاد السوفيتي، وكلا المفهومين لم يقدّم تصورًا نهائيًا حول كيفية القضاء على الفقر، إنما قدّما أمثلة مختلفة (لدجاجة ستالين منتوفة الريش) [1].
معنى الفقر وتاريخه
بالرغم من الأدبيات المستفيضة حول الفقر وتوصيفات الفقراء، لم يشهد الفقر تعريفًا محددًا، إلا عقب التقدم التقني، وتغير الظروف المعيشية في البلدان المتقدمة ومساهمتها في ظهور تعريف يستند إلى خطوط الفقر المتعلقة بـ “متوسط الدخل”، للإشارة إلى حالات عدم المساواة الاقتصادية والسياسية بين الأفراد وبين المجتمعات. وهذا شكّل إطارًا مختلفًا لتوصيف الفقر وحالة “العوز المادي”، وربطها بالثروة أكثر من ارتباطها بتلبية الاحتياجات الأساسية أو ما يسمى “حدّ الكفاف”، الذي جعل الفقراء -عبر التاريخ البشري كله- موضوعًا لتقديم المساعدات المتواضعة التي تمنع الموت جوعًا، وقد التُفت إلى حدّ الكفاف، خلال الحرب العالمية الثانية، وجرى تكييفه، ولم يعد يقتصر على المساعدة الاجتماعية “الحدّ الأدنى من الكفاف” فقط، بل شمل “الحدّ الأدنى الاجتماعي” الذي يسمح بالاندماج في الحياة الاجتماعية والثقافية، فلم يعد الفقير ذلك المعدم الباحث عمّا يسدّ رمقه، والمهدد بالانحدار نحو الفقر المطلق المتمثل بسوء التغذية والمجاعة حتى الموت، ولم يعد الفقر تمايزًا بين الأشخاص بكميّة المال، بل تمايزًا بالغ التعقيد تتداخل فيه معطيات مختلفة.
إلا أنها لم تلغِ بأن مفهوم الفقر ملازم للأشخاص الذين يكسبون عيشهم من عملهم، وهم شريحة الكادحين، الذين تميزوا في المجتمعات الزراعية بالعيش على إنتاجهم الخاص من الغذاء والمسكن، “الاكتفاء الذاتي”، ولكنهم كانوا محرومين من امتلاك السلع المعمّرة والأصول المادية الأخرى، ويفقدون الضمان لمواجهة الحالات الطارئة، كالمرض والإعاقة والبطالة والكوارث والأزمات وغيرها [2]. وأضاف علم الاجتماع أن الفقر مستوى معيشي منخفض لا يفـي بالاحتياجـات الصحية والمعنوية المتصلة بـ “الاحترام الذاتي” لفرد أو مجموعة أفراد، وينظـر إلـى هـذا المصطلح نظرة نسبية، لارتباطه بمستوى المعيشة العام في المجتمع وبتوزيع الثروة ونسق المكانة والتوقعات الاجتماعية[3].
وقد حدد المؤرخون الأوروبيون الذين درسوا الفقر ثلاثة أنواع من الفقراء: الفقراء “البنيويّون” غير القادرين على كسب عيشهم، بسبب سنّهم أو أمراضهم أو إعاقتهم الجسدية؛ والفقراء “الدوريّون” أولئك الذين يعيشون على أجور زهيدة ووظائف غير مستقرة والذين يتأثرون بالتقلب الأول في “سعر الخبز”؛ والنوع الثالث يشمل جميع العمال الحرفيين والتجار الصغار والعمّال غير المهرة والعمال اليدويّين، يُضاف إليهم الأرامل والفتيات العازبات ممن ليس لديهن مهنة محددة جيدًا، هؤلاء جميعًا يدفعون الحدّ الأدنى من الضرائب للدولة، ويمكن أن يتعرضوا لأزمات اقتصادية كبيرة، تعيدهم إلى ما دون مستوى الكفاف[4].
أما الأدبيات المعاصرة، فقد توصلت إلى الاستنتاج الآتي: “في عالم الفقراء، هناك أشخاصٌ لا يتمتعون بالأمن الغذائي، ويعانون سوء التغذية، ومبتلون بالمرض، لا يعيشون طويلًا، لا يمكنهم التعلم، “القراءة أو الكتابة”، ليس لديهم وصول سهل إلى الائتمان، غير قادرين على الإدخار، لا يستطيعون التأمين ضد قلة المحاصيل ومصائب الأسرة، يعيشون في بيئات غير صحية، وسوء الإدارة، ومعدلات المواليد عالية [5]. لتشكل هذه الاستنتاجات “دليل الفقر البشري” الذي شكّل نقلة مختلفة في تحديد الأسباب والمضامين والحلول للفقر، والخروج من المعالجات النظرية لظاهرة الفقر القائمة على أسس مادية تقليدية محدودة الأفق وشمولية لا تراعي شدّة التباين المختلفة، ولا تدخل في معالجتها تعدّد الأسباب والمعايير، لهذه الظاهرة.
الأمر الذي جعل من ظاهرة الفقر، على كونيتها، ظاهرةً بالغة التعقيد والأبعاد والسياقات “التاريخية، الجغرافية، المجتمعية”، تجعل مفهوم الفقر يختلف من فترة زمنية إلى أخرى، تبعًا لتغيّر الظروف وظهور متغيرات متسارعة في منظومات الحياة العلمية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ومن بلدٍ لآخر، في قياس “دخل الفرد” وتنوع قياسها وتجدد مضامينها، وكذلك بين الفقراء أنفسهم في البلد نفسه أو في بلدان مختلفة، والاختلاف الأيديولوجي في النظر إليه، كونه يتعلّق بـ “حدّ الكفاف”، الذي تتداخل فيه المسائل الشخصية والتقاليد الاجتماعية والثقافية والأديان التي رسّخت الفقر عبر التاريخ، وكذلك ظروف وعوامل اقتصادية وسياسية تعيد إنتاج دورة حياة الفقر والفقراء.
الفقر كإرادة إلهية
شكّل الفقر عتبته الأولى في المجتمعات، حين اكتشف البشر ضرورة أن يحسّنوا أوضاعهم على حساب الآخرين، لتفرض لعبة السيطرة والقوة وحقّ الملكية نفسها بين الغني والفقير، القوي والضعيف، السيّد والعبد، المستبدّ والرعية، كأصل للتفاوت بين الناس، غياب المساواة، حسب تعبير (جان جاك روسو). فمنذ تكون المجتمعات البشرية المستقرة والملكية الخاصة، وصولًا إلى ازدياد المتطلبات والحاجة إلى الرفاه، أُغلقت دائرة الفقر على كلّ الضعفاء المجرّدين من القوة أو من الثروة والقدرة على التملّك، حيث فرض التمايز البيولوجي في بداية الاستقرار معادلة “الغني والفقير” و”القويّ والضعيف”، التي أسست للعبة السيطرة وسلسلتها الممتدة إلى ميلاد الدول. ولكنها لم تقتصر على التمايز البيولوجي وحده “القوة والضعف”، باعتبارها مسألة قابلة للحلّ بتحالف الضعفاء ضد الأقوياء، إنما خضعت لآلية تنظيم البشر أنفسهم في شبكات تعاون جماعي وخلقهم أنظمة متخيلة وكتابتهم لنصوص تسدّ الثغرات البيولوجية وتحافظ على التعاون بينهم، كنظام حمورابي وتراتبيته، والنظام الأميركي سنة (1776) الذي خلق تراتبية بين الرجال الذين استفادوا منه والنساء اللاتي بقين مستضعفات، وخلق تراتبية هرمية بين البيض الذين تمتعوا بالحرية والسود والهنود الأميركيون الذين عُدّوا أدنى مرتبة أو جزءًا من قوانين الطبيعة الأبدية، التي جادل أرسطو على أساسها بأن للعبيد طبيعة عبدية، وللأحرار طبيعة حرة، فهي انعكاس لفطرتهم وليست اختراعًا بشريًا[6].
نظر جميع الفقراء إلى التراتبية التي ثبتها حمورابي بأنها من عند الآلهة، وآمن الهندوس -وفقًا لإحدى أساطير الخلق الهندوسية- بالنظام الطبقي وتفوّق طبقة على أخرى، وتمايز البشر بين (الكهنة، والمحاربين، والجمهور العام، والخدم). ويؤمن الصينيون بأن الآلهة (نووا) خلقت البشر من الأرض، صنعت النبلاء “الأرستقراطيين” من تربة صفراء ناعمة بأيديها، بينما جرّت خيطًا في الطين لتشكيل بقية البشر [7]. ويبقى الحال غالبًا أن الأغنياء يبقون أغنياء، لأنهم وُلدوا في عائلات غنية، والفقراء كذلك.
والأهمّ من هذا أن الأغنياء والفقراء لم ينزعجوا من اللامساواة، باعتبارها استحقاقًا إلهيًا، إذ تؤيدها الأساطير والأديان أيضًا، حيث حافظت- رغم محاولة معالجتها للفقر- على فكرة أن الغنى والفقر هما إرادة إلهية تؤيدها العديد من النصوص. فكان في العهد القديم “الْخَيْرُ وَالشَّرُّ، الْحَيَاةُ وَالْمَوْتُ، الْفَقْرُ وَالْغِنَى مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ” (سفر يشوع بن سيراخ 11: 14)، و”الصِّيتُ أَفْضَلُ مِنَ الْغِنَى الْعَظِيمِ، وَالنِّعْمَةُ الصَّالِحَةُ أَفْضَلُ مِنَ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ” (سفر الأمثال 22: 1)، وأن النسل القوي والرغد والغنى بركة من الرب يعطيه لمتقي الربّ، كما يقول (مزمور 112: 1،2،3). واستُهل العهد الجديد، بعد تكملة الوصايا وشريعة العهد، بالتطويبات أو “لائحة الأمور التي يمنحها الله الأفضلية”، وتخصّ غالبية سبل المعاناة للبشر، ومنها الجوع والعطش “طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ، لأنهم يُشبعون” (إنجيل متى 5: 3 – 12)، ورفض المسيح عقب أربعين يومًا من الجوع أن يصير الحجر خبزًا “مَكْتُوبٌ: أَنْ لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ مِنَ اللهِ” (لوقا: 4-4). وكلمة الحق التي قالها يسوع لتلامذته أنه من العسير أن يدخل غنيّ ملكوت السماوات، فمرور جمل مِنْ ثَقْب إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ (متى 19: 23، 24. مرقس 10: 23، 25). وكذلك قدّم القرآن العديد من الآيات التي تخصّ الفقراء والأغنياء: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} (٦ النساء). {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا} (١٣٥ النساء) {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (٣٢ النور).
لقد اتفقت الأديان الثلاث على أن الفقر والغنى شأنٌ إلهي، وأن معالجة الفقر تتم بالتضرع والدعاء، وبتقديم الصدقات من الأغنياء إلى الفقراء للتقرّب إلى الله، ونيل الجزاء في الآخرة، كما وردت في العديد من النصوص الدينية (الأسفار، والأناجيل) والآيات والأحاديث [8].
“اقتصاد الخلاص” وثقافة الفقر
بغضّ النظر عن المعنى الروحي للصدقة، وأثرها في تثبيت أُطر التكافل الاجتماعي، فإنها لم تُثبّت آلية للقضاء على الفقر في حينها، وكانت مساهمتها في مكافحة الفقر تدور حول “حدّ الكفاف” ومتغيراته بين الماضي والحاضر، واختلافه بين الأفراد الفقراء، وفقًا للبلد ومكان الإقامة (حضري/ ريفي)، والأصل الاجتماعي وتشكيلات الأسرة وطبيعة حالة الأزمة، فمسألة النظر إليه، كحلّ أو جزء من حلّ، ليست أكثر من إعطاء الفقر قيمة “روحانية”، نتيجة صعوبة حساب (الصدقات) كجزء من استراتيجيات البقاء التي يعتمدها الفقراء، لكنها جزء من استراتيجيات تشجيع الفقراء على قبول وضعهم، بأن الفقر شأن إلهي لا يمكن مقاومته، بل يفترض قبوله طوعيًا والتكيّف معه في الصلاة، لإدامة النظام الاجتماعي، الذي جهدت الكنيسة وآباؤها في العصور الوسطى على تثبيته، وإن تخلّي الفقراء عن دورهم الاجتماعي هو عمل “فخور”، وليس مليئًا بالتواضع. هذا ما سعت لجعله حقيقة لا يمكن التخلّي عنها، كونها تُفقد الكنيسة سيطرتها على البطالة المقنعة وانتظار الفقراء الإعانات منها، وتجتاز خطط الخلاص الارستقراطي، فالفقراء شفعاء لتنجية الأغنياء، باعتبار الإحسان يشكل أضمن وسيلة للحصول على الخلاص، ويسمح في الوقت نفسه للمتبرع بزيادة مكانته الاجتماعية [9]. ويسمح للكنيسة بزيادة مدخراتها المادية والبشرية، القائمة على “اقتصاد الخلاص” الذي لا ينتشل الفقراء إنما يدخل الأغنياء إلى الجنة.
وبالنسبة إلى المجتمعات العربية، فإن إعادة النظر في المخزون الفكري الذي بقي حيًا، وما تأصّل في الأذهان حول الفقر كإرادة إلهية عبر آلاف السنين، وما مرّ فيها من حقب الحكم والاقتصاد والدين “التديّن”، تضعنا أمام العديد من الإشكاليات المرتبطة بالفقر وبتأصيل “ثقافة الفقر” في بعض فئات المجتمع، التي جرى التطرق إليها منذ منتصف القرن العشرين، في دراسة أساليب الفقراء وسبل عيشهم، و “أن الفقراء يعيشون للحاضر، ولا يخططون للمستقبل، ويؤمنون بالقدرية والحظ دون بذل الجهد”؛ فمفهوم ثقافة الفقر يمثل العلاقة الجدلية بين الفرد والمجتمع وتوقعه المستقبلي لأمور حياته وحياة أبنائه من بعده، وقد درسها الباحث والأنثروبولوجي لويس أوسكار Lewis Oscar، الذي انطلق من منظور وظيفي في تحليل ظاهرة الفقر ومدى تأصّلها، وتوصل من خلال العديد من الدراسات إلى أن الفقراء يصيرون فقراء، لأن لهم ثقافة خاصة، أطلق عليها ثقافة الفقر، مقدمًا تصورًا لتصنيف الفقراء في أربعة مجموعات، ولهم حياة خاصة تختلف عن حياة من سواهم من الفئات الأخرى، ولهم قيم واتجاهات تزيد من الإحساس بالنقص والتهميش، وانخفاض متطلبات جودة الحياة بالنسبة إليهم، وأن ثقافة الفقر تنمو وتزدهر حتى ولو عولجت الأسباب التي أدّت إليها، ويظل المنتمون إلى هذه الثقافة ملتزمين بها، ويؤدي ذلك إلى عزلتهم الاجتماعية، وغياب المشاركة الفعلية للفقير في المجتمع. وإن معالجة الفقر أسهل من معالجة ثقافة الفقر [10].
وعلى الرغم من أن ثقافة الفقر والفقراء شكّلت الجزء المُغيّب من تاريخنا الذي غالبًا ما يتحدث عن القوة والمجد والازدهار، والبنى المتفوقة لتنظيم البشر في الإمبراطوريات القديمة، فإن التاريخ والحاضر نفسه لا يُخفي إمكانية رصدها، التي تُحيلنا نحو مستوى آخر للتحليل يقوم على ملامح الفقر، وردّها إلى مُكوّنها الرئيسي، مثل المكون الديني والاقتصادي والاجتماعي، وتجلّياتها في التعبير عن ذاتها في العادات والتقاليد والملبس والمأكل واللغة، التي يستخدمها الجميع، وأكثر ما تبرز في المقولات الشعبية المستمدة من كل ماسبق، مثل: الإيمان بالقدرية، وأن توزيع الأرزاق بين الناس قضية غيبية مثلها مثل الموت والكوارث. وأن حلّها في امتلاك القدرة على الصبر فهو مفتاح الفرج، وهي تدفع للتكيّف مع الفقر والكوارث. وضرورة التحصّن ضدّ الفقر “خبي قرشك الأبيض ليومك الأسود”، بما يحمله من مسؤولية للفقراء عن قروش كفافهم، ليرضخوا للأمر الواقع إن أهدروها.
وتظهر كذلك في الممارسات كإكثار النسل وتوسيع الأسر بالرغم من الفقر “الولد رزقه معه”، التي تعود تاريخيًا لإيجاد أيد عاملة زراعية، وإلى تأكيد الفقراء لذاتهم، التمييز بين الذكور والإناث في قدرة العمل والإعالة، الذي سبّب تفاوتًا كبيرًا في التحاق النساء بالتعليم والتدريب، مقارنة بالرجال، ولم يُتح فرصًا كبيرة للمرأة للعمل والحصول على أجر مناسب يُخرجها من دائرة الفقر وتنمية القدرات والمهارات، وارتفاع نسبة الأمية بين الفقراء أكثر من الأغنياء أو المقتدرين، وغيرها مما يسبب أزمات كبيرة، بعد أن أصبحت قضية الفقر مجال تَدخل تحتكره السلطات العامة.
الفقر كفشل اقتصادي:
الفقر، التفوق، القوة القدرة، التملّك، وغالبية المصطلحات التي رافقت البشر وترسّخت في الأذهان كأُطر “قدرية، إلهية” لا فرار منها، شهدت انكسارات مختلفة مع قيام الدول الحديثة؛ فمفارقة وجود الفقراء والأغنياء باتت محكومة بنظريات سياسية واقتصادية، يُنظر إليها في صراع الطبقات وتأسس البُنى الرأسمالية، واحتكار الدول للقوة و”الأعمال الخيرية” في المجتمعات المنظمة حداثيًا على جملة حقوق منها حقّ العمل والحقّ في المساعدة لأي شخص غير قادر على العمل، بعد أن تطور مفهوم الفقر، وصار تعبيرًا عن اختلال في إدارة قوى العمل، وتعبيرًا عن فشل للدولة، التي من مهامها تأمين الحماية للمواطنين من الاستبعاد الاجتماعي. فالفقر ليس صنيعة الفقراء، لكنه نتيجة لحالات فشل هيكلية ونظم اقتصادية واجتماعية عديمة الجدوى، وهو نتاج للاستجابات السياسية غير الملائمة، وضحالة القدرة على رسم السياسات العامة واستراتيجيات القضاء على الفقر[11].
وقد قُدّمت العديد من الدراسات حول الفقر وأسبابه ونجاعة السياسات في الحدّ منه، وكيفية تحقيق الاستقرار والأمن الغذائي للشعوب، وما زال الفقراء يتزايدون، ليشكلوا مؤشرًا على الفشل الاقتصادي على مستوى العالم والدول. حيث أخذت الدول القوية والمسيطرة على عاتقها محاولات الحدّ من الفقر في العالم وتحقيق العدالة، وأعلنت ذلك في مؤتمرات الأمم المتحدة، ففي مؤتمر القمة العالمي للتنمية الذي عُقد في كوبنهاجن عام 1995، واجتمع فيه 117 من رؤساء الدول والحكومات، تم وضع الفقر والبطالة والاستبعاد الاجتماعي كتحديات أساسية في طريق وضع استراتيجية عالمية للعدالة، وأعلن المجتمع الدولي لأول مرة التزامه -على أعلى مستوى- بالقضاء على الفقر كهدف عالمي[12].
وفي مؤتمر قمة الأمم المتحدة للألفية المعقود في عام 2000، أعلن الزعماء السياسيون في العالم التزام الأسرة الدولية بالقيام بحملة متضافرة ومنسّقة، من أجل الحدّ من الفقر المدقع والقضاء عليه في نهاية المطاف. وعقب مؤتمر القمة، حددت الوكالات التابعة للأمم المتحدة بصورة جماعية مجموعة موجزة من الأهداف، تضمنت ثمانية أهداف إنمائية للألفية، على رأسها (القضاء على الفقر المدقع والجوع، توفير التعليم الابتدائي للجميع..) وأعطى أولوية التركيز على العمل اللائق للشباب، ووضع وتنفيذ استراتيجيات تمنح الشباب في جميع أنحاء العالم فرصة حقيقية للعثور على العمل اللائق والمنتج. وما زالت تقدّم التقارير حول الفقر وارتفاع مؤشرات الفقر حتى اللحظة [13].
على مستوى الدول، فإن الفقر هو مسؤولية الدولة أولًا وأخيرًا، مثلًا:
الفقر السوري أسبابه ومآلاته
لا يمكن قراءة الفقر في سورية إلا بكونه نتيجة لتداخل جملة أسباب، على رأسها عجز سياساتها التنموية الاقتصادية والاجتماعية، واتباع سياسات الإفقار لضبط الرعية. حيث أدى قصور السياسات التنموية عن تحقيق “العمالة والحقوق” إلى مزيد من الكوارث، فالسياسات التنموية الفاشلة تجلّت في: عدم تمكن الاقتصاد من خلق فرص للاستثمار، وتنظيم المشاريع، وخلق الوظائف، وتوفير سبل الرزق المستدامة، بعيدًا عن “البطالة المقنعة” التي تشكل فائض التشغيل بلا جدوى اقتصادية. وعدم إقرار الحقوق للفقراء، بدءًا من التعبير عن أنفسهم لكي يُعترف بحقوقهم ومطالباتهم، إلى التمثيل والمشاركة لإيجاد الوسائل للنهوض بمصالحهم، وصولًا إلى القوانين التي تعمل لصالحهم ولحمايتهم، كما أدى إلى إحكام حلقة الفقر وتوسيع دائرة الفقراء، لتسهيل النهج العام في السيطرة على المواطنين.
الأمر الذي أدى إلى مزيد من الكوارث، عقب عمليات الإصلاح منذ الثمانينيات، حيث عمدت في سياستها الاقتصادية إلى تحقيق توازن اقتصادي ومالي للحدّ من عجز ميزانية الدولة وتحرير الاقتصاد، علمًا أن اتباع نهج الإصلاح الاقتصادي، لإيجاد توازن ميزان موارد الدولة، يكون بحدّ ذاته مسألة سياسية خطيرة، في تخطي قدرة الدولة على ضبط النمو الاقتصادي، وازدياد مخاوف النخبة الاقتصادية من التراجع في المضمار الاقتصادي، وقد يفضي إلى سحق الضوابط السياسية. وفي الوضع السوري، حيث أُنيطت الأولوية المطلقة بالأمن الوطني واستقرار النظام، فإن المخاطر التي انطوت عليها عملية الإصلاح وتحرير الاقتصاد عززت نزعة النظام للقيادة وفقًا لبرنامجه، للحفاظ على تحكّمه في موارد البلد والسعي إلى تفادي أي تدخل خارجي في صنعه لقراره، والحفاظ على صيانة قاعدته الوصائية في البيروقراطية والقطاع العام، وعلى توسيعهما بدلًا من فقدانهما.
وبالنتيجة، إن التحسّن الذي طرأ على مجمل المؤشرات الاقتصادية، في سياسات الإصلاح الاقتصادي، انطوى على “السمّ بالدسم”، فخسائر الإصلاح والتحرير الاقتصادي كانت معمّمة على المجتمع في حين المرابح كانت مخصّصة، والتفاوت والتناقضات الاجتماعية زادت وضوحًا، وتنامي الخدمات الاجتماعية العامة تلكأ عن مواكبة النمو السكاني، لتبقى سياسة الإفقار تراوح حتى العام 2011، بعيدًا عن الإفقار المطلق لمستخدمي الدولة، وحدود التكيف الهيكلي الذي يبعد عنها زعزعة الاستقرار، واستثناء القلاقل من جراء “الخبز أو التكيف” الذي عاشته بلدان مثل تونس ومصر [14]. حيث يمكن القول إن طروحات الإصلاح لا تخصّ زيادة التنمية، إنما زيادة الاستحواذ على المقدرات، وعلى ترويض السوريين، خصوصًا عقب 2011، واتباع نهج “الخبز أو الموت” حتى لو لم يكفِ هذا الخبز حدّ الكفاف.
خاتمة
الفقراء عبر التاريخ هم في الأساس الأشخاص الذين يضعهم ضعف إمكانياتهم تحت رحمة كلّ فرد في المجتمع، وتحت رحمة أي مستبدّ يستطيع تبرير فقرهم بأسباب خارجة عن إرادته، لمنعهم من التفكير بحقوقهم، وتحرير الناس من الفقر ليس متعلقًا بالرهان على “صبر البشر”، ودفعهم إلى تبنّي مُنعكسات الفقر والشعور بقلّة الحيلة والمهانة، وعدم القدرة على التفكير أو التخطيط إلى ما يتجاوز واقع الكفاح اليومي، فهذا ليس توصيفًا للفقر والفقراء، إنما توصيف لفشل الدولة، وسياسات الإفقار التي تدفعهم إلى الدوران في حلقة الفقر كقدر أو استحقاق، نتيجة ضعف قدراتهم أو كفاءاتهم واجتهادهم، واستمرار القبول به هو اعتراف بخسارة كثير من القيم الإنسانية الأساسية.
[1] – هذه القصة منسوبة إلى الروائي جنكيز أيتماتوف: دعا ستالين أقرب رفاقه في السلاح، وقال لهم: “أفهم أنكم تتساءلون: كيف أحكم الناس حتى يفكر كل واحد منهم … فيّ كإله حي”. وكي يعلمهم الموقف الصحيح تجاه الناس، أمر بإحضار دجاجة، ونتفها حيّة، وصولًا إلى آخر ريشة، وصولًا إلى اللحم الأحمر. وقال: “الآن انظروا”، وترك الدجاجة تذهب. لكنها لم تذهب إلى أي مكان. ثم ألقى عليها بعض الحبوب، وبدأ يتجول في الغرفة، فتبعته الدجاجة أينما ذهب. “هذه هي الطريقة التي تحكمون بها شعبنا”. هل التقط ستالين دجاجة حية كدرس لأتباعه؟
[2] – قبرصي عاطف عبد الله. التنمية البشرية المستدامة في ظل العولمة. نيويورك: سلسلة دراسات التنمية البشرية 2000.
[3] – محمد عاطف غيث. قاموس علم الاجتماع، الهيئة المصرية العامة للكتاب ط1 (1979) ص: 341- 342.
[4] – Laurence Fontaine .Une histoire de la pauvreté et des stratégies de survie https://doi.org/10.3917/rce.004.0054
[5] – الخلاص من الفقر. مؤتمر العمل الدولي الدورة 91، التقرير الأول (ألف) مكتب العمل الدولي جنيف. ط1(2003)
[6] – يوفال نوح هراري. العاقل: تاريخ مختصر للنوع البشري. ترجمة: حسين العبري، صالح علي الفلاحي. بوك لاند. نسخة إلكترونية. ط1 (2018). ص: 156- 158
[7] – كيف بدأ الخلق: قصص بداية الكون في الروايات الدينية المختلفة https://bit.ly/3CaaAeY
[9] – موريس بيشوب. تاريخ أوروبا في العصور الوسطى. ترجمة على السيد علي. المشروع القومي للترجمة ط1 (2005) ص 140 و 165 – 176
[10] – ثقافة الفقراء دراسة في بنية وجذور الثقافة المصرية. مركز دراسات قناة النيل الثقافية. الهيئة المصرية للكتاب 2007. ص 15- 26
[11] – الخلاص من الفقر. مؤتمر العمل الدولي الدورة 91، التقرير الأول (ألف) مكتب العمل الدولي جنيف. ط1 (2003)
[12] – انظر، إعلان مؤتمر القمة العالمي للتنمية الاجتماعية في كوبنهاغن، وبرنامج عمل مؤتمر القمة العالمي للتنمية الاجتماعية في الأمم المتحدة: تقرير مؤتمر القمة العالمي للتنمية الاجتماعية، نيويورك، الوثيقة (9A/Conf.166/ .1995). كان مؤتمر القمة العالمي للتنمية الاجتماعية أحد العناصر في مسعى رئيسي للأمم المتحدة خلال فترة التسعينيات يستهدف العمل المنظم للتصدي لأشد القضايا الإنمائية إلحاحًا، من خلال مؤتمرات عالمية. وكان من بينها مؤتمرات عن الطفل، والتنمية المستدامة، وحقوق الإنسان، والسكان، والمساواة بين الجنسين، والأغذية، والمستوطنات البشرية، والبلدان الجزرية، والبلدان غير الساحلية، وأقل البلدان نموًا. وعلى وجه العموم، شكلت استنتاجات هذه المؤتمرات أكبر قدر من الاتفاق توصلت إليه الحكومات بشأن احتياجات النساء والرجال وأسرهم والمجتمعات.
[13] – الخلاص من الفقر. مرجع سابق.
[14] – فولكر بيرتس. الاقتصاد السياسي في سورية تحت حكم الأسد، ترجمة: عبد الكريم محفوض، مكتبة رياض الريس. ط1(2012) ص 444 – 450