نقصد بمصطلح “الفضاء الثقافي لهزيمة حزيران” الحركةَ الفكرية الواسعة التي تفاعلت مع هزيمة حزيران 1967، وأخذت تتفكر في أسباب تلك الهزيمة الصادمة وتُحلل تبعاتها، وتبحث كيف يمكن للعرب استعادة قوتهم لمواجهة نتائج هذه الهزيمة المدوية. يمكن القول إن جميع المفكرين والأدباء والمثقفين، في ذلك الوقت، شاركوا في تلك النقاشات، وقدّموا نظريات وأفكارًا تحاول تشخيص أسباب الهزيمة، وهو ما نتج عنه “نزعة ثقافوية ” واسعة ترفض إرجاع الهزيمة إلى أسباب مباشرة أو آنية أو عسكرية، لأن الهزيمة كبيرة، ولا يمكن إرجاعها إلى أسباب صغيرة، أو تحميلها لهذا شخص أو ذاك الحزب.
ونقصد بالنزعة الثقافوية تلك الكتابات الفكرية التي أرجعت هزيمة حزيران، أو “الرضة الحزيرانية”، كما يسميها جورج طرابيشي، إلى أسباب ثقافية تعود إلى التراث التقليدي، أو غياب العلمانية، أو تجزئة الوطن العربي، أو تخلي العرب عن التمسّك بدينهم الإسلامي، أو فشل مشاريع النهضة. أما الحلول، فراوحت بين ضرورة الوحدة، والعودة إلى الدين، والعمل من جديد على مشروع النهضة، بمختلف جوانبها الحضارية والعلمية، من دون أن ننسى الحلول التي طالبت بالحرية والعدالة والمساواة، للوصول إلى مجتمع يستطيع مواجهة إسرائيل. هكذا أرجع الشاعر أدونيس الهزيمة إلى ما أسماه “الإنسان العربي”، وأكد ياسين الحافظ أن المهزوم في حزيران لم يكن جيشًا، بل كان مجتمعًا، وأن المسألة ليست هزيمة عسكرية، لا من قريب ولا من بعيد، كما أرجع جورج طرابيشي هزيمة حزيران إلى “سبات العقل في الإسلام”، وأرجعها حسن حنفي إلى تخلينا عن التراث وعدم تجديده. ومن جهة ثانية، أرجعها منير شفيق إلى عقوبة حتمية كان لا بد للأمة من أن تدفعها لتخليها عن دينها. حتى إن حافظ الأسد أعجب بهذه النزعة، فطرح مشروعه بإقامة “التوازن الاستراتيجي مع العدو الإسرائيلي”. ولا نريد أن نستعرض عشرات المفكرين الذين تفننوا في إيجاد أسباب كبرى، أحيانًا تكون تاريخية أو تراثية، وأحيانًا تكون دينية أو قومية، أو حتى نفسية وذهنية، وكلها تُجمع على أن الهزيمة لم تكن عسكرية، وليست مشكلة صغيرة تتعلق بفساد وعدم كفاءة قادة عسكريين.
إن مراجعة بسيطة لحرب حزيران ومجرياتها اليومية تُبيّن أن النصر العسكري الإسرائيلي لم يكن مفاجئًا إلا للعرب، لأن ميزان القوة الجوية كان لصالح إسرائيل بشكل واضح، وإن العودة إلى مذكرات الخبراء العسكريين البريطانيين والأميركان -آنذاك- تبيّن أنهم كانوا يعرفون ذلك جيدًا، ومتأكدون من قدرة إسرائيل على النصر. الإسرائيليون إنما تفاجؤوا بالسرعة القياسية لا أكثر.
وتشير وقائع الأسابيع الأخيرة التي سبقت الحرب إلى أن طائرات الإسرائيليين كانت تصول وتجول في سماء المناطق السورية والأردنية القريبة من حدود الكيان الإسرائيلي، وأن عبد الناصر لم يُقدّم أي مساعدات لعرب المشرق، ويبدو أن ذلك يعود إلى فصل البعث السوري للضباط الناصريين من الخدمة العسكرية، وارتفاع درجة العداء لعبد الناصر. وهو الأمر الذي سينعكس على مجريات حرب حزيران، إذ لم يُقدّم أي من الطرفين السوري والمصري أيّ مساعدة للآخر، في تلك الحرب، على الإطلاق.
بدأ عبد الناصر الاستعداد للحرب فعليًا، يوم 14 أيار/ مايو، بحشد القوات العسكرية في سيناء، وبعد أربعة أيام، طلب رسميًّا من قوات الطوارئ الدولية أن تنسحب من المنطقة. ووقّع في الثلاثين من أيار/ مايو اتفاقية دفاع مشترك مع الأردن، أصبح بموجبها الجيش الأردني تحت القيادة العسكرية المصرية. بدأت الحرب بهجوم جوي إسرائيلي خاطف ومفاجئ على الجيوش العربية، في صباح 5 حزيران، أسفر عن تدمير 25 مطارًا و85% من القوات الجوية المصرية، وتدمير قسم كبير من القوة الجوية السورية. وما هي إلا 6 أيام حتى استولت القوات الإسرائيلية على القدس الشرقية والضفة الغربية وهضبة الجولان وشبه جزيرة سيناء، في عملية أشبه بالانهيار العسكري منها بالحرب الحقيقة. في 10 حزيران، توقفت الحرب وقبل الجميع بوقف إطلاق النار.
في 9 حزيران، أصبحت القاهرة في متناول الجيش الإسرائيلي، إذا أراد ذلك، وأخذ عبد الناصر يتخوف من حصول انقلاب من الضباط الغاضبين، بدعم من الاتحاد السوفيتي، لذلك سعى للاتصال بالأميركان، عن طريق مدير المخابرات، ليخبرهم بأن عليهم أن يعدّلوا من موقفهم من إسرائيل، وإلا؛ فإن هناك خطرًا من نشوء حكم شيوعي في مصر.
في آخر يوم من الحرب، قدّم عبد الناصر استقالته، غير أنه عاد عنها بعد ذلك. وقد وصف السفير الكندي في مصر -آنذاك- خطابَ استقالة عبد الناصر المشهور بأنه “ضربة بارعة، بكل ما فيها من سحر وخصائص عجيبة يتقنها عبد الناصر.. قلبت بسرعة طاولات الهزيمة المهينة إلى نصر”.
أما احتلال إسرائيل لهضبة الجولان، فله قصة بسيطة تقول إن عدم قبول حافظ الأسد بوقف إطلاق النار في 7 حزيران (قبِلت مصر والأردن وإسرائيل بذلك الوقف) دفع وزيرَ الحرب الإسرائيلي آنذاك موشي دايان، للتفكير بأن هذا الرفض يمكن أن يكون فرصة ثمينة قد لا تتكرر لاحتلال هضبة الجولان كاملة، حتى يجبر السوريين على القبول بوقف الحرب، والمساومة عليها مستقبلًا، ولا سيما أن الجيش السوري بلا غطاء جوي، وأن قَسَم حافظ الأسد -عبر راديو دمشق- على “متابعة المعركة ضد العدو الإمبريالي الصهيوني”، ليس سوى كلام في الهواء، وخوفًا من أن يضعه السوريون في السجن ويحملونه أوزار الهزيمة. وبحسب ميشيل ب. أورين، صاحب أهم كتاب عن حرب حزيران، وهو كتاب “ستة أيام من الحرب – حرب حزيران 1976 وصناعة شرق أوسط جديد”؛ فإن الذي شجع القيادة الإسرائيلية على احتلال كامل مرتفعات الجولان أمران: الأول ورود صور جوية إلى قيادة الجبهة الشمالية الإسرائيلية، تبيّن أن الجيش السوري انسحب من الجولان وتركها “مهجورة تمامًا”، أما الأمر الثاني فهو التقاط الاستخبارات الإسرائيلية رسالة من عبد الناصر إلى هاشم الأتاسي، ينصحه فيها بقبول وقف إطلاق النار فورًا، وأن هذه هي “الطريقة الوحيدة لإنقاذ الجيش السوري”.
وبالفعل، أصدر دايان أوامره بالهجوم على الجولان الساعة الرابعة فجرًا، من يوم 9 حزيران، وما هي إلا 48 ساعة حتى أصبحت مرتفعات الجولان تحت سيطرة إسرائيل بالكامل، على الرغم من تأكيد مراكز الدراسات العسكرية على قوة المقاومة الشرسة للقوات البرية السورية للهجوم الإسرائيلي، ببسالة قلّ نظيرها، إلا أن تفوق الطيران في النهاية يفرض نفسه، حتى إن قادة الجبهة السورية، ومنهم عوض بهاء (رئيس العمليات) وعزّت جديد (قائد اللواء 70)، رفضوا الاستجابة لقرار القيادة العسكرية السورية بالقيام بهجوم معاكس في نهاية يوم 9 حزيران، بعد أن تمكنوا من صد الهجوم الإسرائيلي في اليوم الأول، لأن المهمة هي بكل بساطة “أمر انتحاري”. أما راديو دمشق، فقد وصف الهجوم الجوي الذي مهد للاستيلاء على الجولان بأنه مجرد “جهد إنكلوأمريكي لإنقاذ الإسرائيليين من الدمار”.
يبيّن السوسيولوجيي المعروف حنا بطاطو، في كتابه الشهير “فلاحو سورية” أن اللجنة العسكرية التي كان حافظ الأسد أحد قادتها النافذين، والتي شكلت المطبخ العسكري في سورية منذ عام الانفصال 1961، قامت بفصل وإبعاد وتهميش جيوش من الضباط المناصرين لعبد الناصر، و”مع اندلاع حرب حزيران/ يونيو 1967 كان ما لا يقل عن 700 ضابط وأكثر من ثلث سلك الضباط بكامله قد طرد، واستبدل باحتياطيين، كانوا إلى حد بعيد معلمي مدرسة ريفيين، أو بطلاب ضباط غير مدربين تدريبًا كافيًا، وغالبًا من أصل ريفي. وأسفر ذلك، على المدى القصير، عن سلك ضباط مسيس بقوة، ولكنه ضعيف الانضباط وغير فاعل عسكريًا، وهذا ما أظهرته الحرب على نحو موجع”.
لا توجد دراسات نفسيّة عن القادة العرب شبيهة بالدراسات التي أجريت في الغرب عن قادته، من قبيل دراسات إريك فروم عن قادة مثل ستالين وهتلر وغيرهم. لقد أكد عبد الناصر في خطاب استقالته على “الضغط الذي مارسته الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي على مصر، كي لا تطلق النار أولًا، الأمر الذي أتاح لإسرائيل أن تشن هجومها المفاجئ”. وإذا صحّ ذلك، ولا سيما أن عبد الناصر يقوله بنفسه، فإنه يعني أنه شخص “متردد” لا يقدّر عواقب أفعاله، إذ كيف يقوم بخطوات فعلية للبدء بالحرب، ويحاصر مرفأ إيلات الإسرائيلي، ثم يترك العدو يفاجئه! هذا إذا لم نقل إنه قبل بنصائح الآخرين، على الرغم من أنها أدت إلى تدمير جيشه، مما يعني أنه لم يكن يخطط للحرب في حقيقة الأمر، وأنه كان يتوقع أن الأمر مجرد استعراض ومناورات ستؤدي إلى تسويات وتوجيه رسائل، وأنه ليس حربًا حقيقية. ثم كيف لا يعرف أنه سيخسر الحرب، علمًا أن تقارير الخبراء البريطانيين والأميركيين، قبل أسابيع من الحرب، تقول إن خسارة العرب للحرب أمرٌ شبه مسلّم به؟!
هنا يمكن أن نستنتج، من وراء عدم توقع عبد الناصر للهجوم الإسرائيلي، أمرين في غاية الأهمية: الأول أن حديث إدارات التوجيه المعنوي، في الجيشين السوري والمصري، الممجوج والممل عن “الإرادة العسكرية” ودورها في النصر في المعارك العسكرية، لم يكن أكثر من ذرّ للرماد في العيون، لعدم رؤية الغباء العسكري للقيادات وقلة خبرتها، أو للتمويه على قلة إرادة القادة في حقيقة الأمر. أما الأمر الثاني، فيبين أن تركيز واهتمام وانشغال القيادات العسكرية، في سورية ومصر، كان موجهًا ومركزًا باتجاه الداخل وحسابات السلطة والسيطرة على الحكم، وليس باتجاه إسرائيل وجيشها ومطامعها. فعدم توقع هجوم إسرائيلي خطأ تكرر مرات عدة (في حرب الـ 82 أيضًا لم تعرف الاستخبارات السورية بنيّات إسرائيل في شن حرب شاملة على لبنان إلا في اليوم الثالث، وكانت تظن أن الأمر لا يتعدى قصف بعض المواقع الفلسطينية الموجودة في جنوب لبنان”.
أن تفسير هزيمة حزيران بأنها هزيمة حضارية وثقافية وقومية ودينية، وما إلى ذلك، يعني، من جملة ما يعني، أنها ليست عسكرية بالدرجة الأولى، وأن المسؤولين العسكريين المباشرين عن الهزيمة ليسوا المسؤولين الحقيقيين عنها، ومن ثم لا يجوز تحميلهم وزرها، ويمكن أن يستمروا في الحكم، على الأقل لكي يثأروا من العدو، ولم يكن كل من حافظ الأسد وعبد الناصر يريد، على أي حال، أكثر من ذلك، وهذا ما كان لهم.