المفارقة التي يمكن أن يلاحظها المراقب، من مقارنة الحراكين الشعبيين في لبنان والعراق مع الحراك الشعبي الذي سبقهما بسنوات في سورية، هي أن الحراك الشعبي في “لبنان الطائفي” جاء علمانيًا ومضادًا للطائفية وتوحيديًا على المستوى الاجتماعي والسياسي، والحال كان مشابهًا في الحراك الشعبي في العراق “الطائفي” أيضًا، فيما انزلقت الثورة في سورية “القومية العلمانية” في مسار طائفي صريح، لا يبدو أنه كان من السهل تفاديه؟ كيف يمكن تفسير ذلك؟ وهل ينطوي هذا على دلالة خاصة؟
يمكن أن يقال إن هذه مفارقة شكلية أو زائفة ولا قيمة دلالية لها، لأن أيديولوجيا التمرد والثورة تأتي دائمًا معاكسة لأيديولوجيا النظام الذي تخرج عليه. غير أن هذا التفسير التلقائي يبدو، بقليل من التدقيق، قاصرًا. إذا كان النظام السياسي في لبنان منذ الميثاق الوطني غير المكتوب للعام 1943، وفي العراق منذ دستور 2005 الذي ينص على “توازن المكونات” من خلال المحاصصة، لا يخفي طائفيته حين يجعل المنبت الديني والمذهبي محددًا أوليًا للفرد، وعليه من الطبيعي أن تأتي الانتفاضات في كلا البلدين لتعلي الرابطة الوطنية على ما عداها في معاكسة لهذا التقسيم الطائفي؛ فإن الأيديولوجيا السياسية للنظام السوري (يسارية قومية علمانية مناهضة للإمبريالية) كانت، بشكل خاص بعد 1970، مجرد ستار شفاف على ممارسة أخرى غارقة في القطرية والتوافق مع الإمبريالية والطائفية (استثمار في العصبيات الطائفية وتوزيع ضمني للمناصب على أساس طائفي)، وهو ما لم يكن خافيًا عن عموم السوريين، دع عنك النخب السياسية منهم. فهل تقوم الثورة بمعاكسة الأيديولوجيا المعلنة للنظام، أم بمعاكسة المنطق الفعلي الذي يحكم سلوكه؟ في تصورنا، لا تبدو المفارقة المذكورة أعلاه شكلية، وقد يكون التفكير فيها مدخلًا لفهم تعقيد آليات التغيير الممكنة في بلداننا.
كيف يفشل النظام الطائفي اللبناني الصريح في تطييف الشعب اللبناني، فيما ينتهي النظام السوري الذي يجرّم الطائفية، إلى تكريسها في الواقع، ويدفع الشعب السوري إلى الغرق في انقساماته الطائفية؟ كيف يخرج اللبنانيون الذين نشؤوا على توزيع للسلطات طائفي محسوب ومعلن يبحثون عمّا يجمعهم ضد “نخبة الحكم الطائفي”، فيما ظهر أن السوريين يميلون، بقوة تصعب مقاومتها، إلى الانقسام على أسس دينية ومذهبية وقومية؟
في لبنان، كما في العراق، يتوضع نظام سياسي يعترف بالطوائف والمذاهب على أنها كيانات، ويقسم الدولة بينها على أساس الحجم، ويسمح بانتخابات دورية تقود إلى تغيير الطاقم السياسي الحاكم دون أن يهتز النظام. لا يوجد في النظام السياسي الطائفي شخصية ثابتة تشكل مركز ثقل النظام، ولا يقود تغيير الطاقم الحاكم إلى تغيير في العلاقة بين السلطات والمحكومين. النظام السياسي في العراق أو في لبنان لا يتجسد في شخص محدد، ولا يمكن له ذلك، فيما يتجسد النظام السوري في شخص مركزي كان هو المقصود الأول في هتاف الثورة السورية بإسقاط النظام. من المعروف أنه كانت أهم صفحة على فيسبوك تمثل الثورة السورية، وتختار أسماء أيام الجمع، هي صفحة “الثورة السورية ضد بشار الأسد”. النظام يتجسد في شخص، لا يمكن لمثل هذا أن يوجد في لبنان أو العراق، لأنه لا يمكن لشخص محدد أن يجسد النظام، فالنظام هنا يستطيع إعادة إنتاج نفسه باستقلال كامل عن مسؤولي الدولة الذين ليسوا أكثر من عناصر في خدمته، ومن العبث البحث عن مركز ثقل للنظام الطائفي في هيكلية الدولة.
مركز ثقل النظام السياسي الطائفي يقع خارجه، أي في الطوائف المكرسة ككيانات تؤطرها زعامات شخصية مركزية ثابتة، في كل طائفة شخصية مركزية ثابتة أو أكثر. يغيب التجسيد الشخصي على مستوى الدولة ليظهر على مستوى الطوائف بعيدًا عن النظام الرسمي. نحن أمام تطويب الطوائف بدلًا من تطويب البلد. وكأن مركزية وأبدية رئيس الدولة في النظام السوري توزعت في العراق ولبنان على زعماء طائفيين أبديين وغير رسميين، والديمقراطية السياسية المعتمدة في البلد لا تهدد ديمومة زعامتهم بل تحميها. وفي حين أن دكتاتورية صدام حسين في العراق سحقت ظاهرة الزعيم السياسي الطائفي، باسم العروبة والحداثة، فإن هذه الظاهرة ازدهرت في المرحلة الديمقراطية التالية التي يمكن تسميتها ديمقراطية المجتمع الأهلي.
لا يمكن للثورة ضد النظام الطائفي (ديمقراطية المجتمع الأهلي) إلا أن تكون ضد كل الزعماء الطائفيين (الركائز الفعلية للنظام)، أي لا يمكن أن تكون إلا علمانية أو لا طائفية. أما في النظام السياسي الذي يتجسد في مركزية شخص واحد، كالنظام السوري، فإن السعي إلى إسقاط النظام يتجسد في إسقاط الشخص المركزي فيه، ويمكن تبرير اللجوء إلى أي سبيل يوصل إلى ضرب نقطة ارتكاز النظام، حتى لو كان سبيلًا طائفيًا. وسوف يتم اللجوء إلى هذا السبيل، لما يمتلك من طاقة سهلة الاستجرار. المصادفة التاريخية التي جعلت من المسار الطائفي مهيمنًا على حركات التمرد ضد النظامين البعثيين في العراق كما في سورية، هي انتماء نخبة الحكم الفعلي في البلدين “العلمانيين” إلى أقلية مذهبية في البلد، الأمر الذي يخلق لدى الأكثرية المذهبية في البلد، ولا سيما في غياب آلية لإنتاج أكثرية سياسية، شعورًا بالغلب وبسرقة الشرعية منها.
في نظام الاستبداد الحديث، كما في نظام ديمقراطية المجتمع الأهلي، تحتلّ العصبية الطائفية مكانة عليا كمخزون للطاقة. النظام الطائفي الصريح كما النظام “العلماني” يستمدّ طاقة استمراره من العصبية الطائفية. وفي كلتا الحالتين، تبقى الهوية الوطنية معاقة أمام الطائفية، ويبقى الرابط المدني معاقًا أمام الأهلي.
علمانية التمرد ضدّ الأنظمة الطائفية في لبنان والعراق مرشحة غالبًا للفشل، أمام غموض وثبات النظام الطائفي المتعدد الركائز، فيما يميل التمرد ضد النظام “العلماني” في سورية إلى أن يتخذ بعدًا طائفيًا بتأثير عاملين: الأول هو الطائفية المضمرة أو غير الرسمية للنظام، والثاني هو انتماء الجزء الأقوى من نخبة النظام إلى أقلّية مذهبية، ما يوفر مدخلًا سهلًا وفعالًا للنخب المعارضة التي تنتمي إلى الأكثرية المذهبية للحشد الطائفي ضد النظام. وفي كلتا الحالتين، تبقى الرابطة الوطنية هي الضحية، ونبقى في حالة فشل وطني مستمر.