لا يقتصر الفساد على الرُشى المقدمة لموظف صغير أو كبير، أو حتى رجل أمن ورجل تموين، ولو اقتصر الأمر على ذلك لهانت مأساة الفساد، ولبررنا لهؤلاء الرشوة، وقلنا إنها بسبب التفاوت بين الأجور والرواتب من جهة والأسعار والتكاليف من جهة أخرى، فقد اعتدنا على تبرير ذلك في معظم الدول العربية، حيث  يسعى قسم كبير من المواطنين إلى ردم الفجوة بين الرواتي والأسعار، وحل مشكلة احتياجات حياتهم اليومية، عبر تقاضي رُشى من مواطنين آخرين، ضاربين بعرض الحائط حقوق البشر ومخالفة القانون والنظام العام.

إلا أن أمر الفساد لا يقتصر على هذه الجزئية الصغيرة، بل يتجاوزها ليصبح العائق الأكبر أمام تطور قسم من البلاد العربية، ويساهم في إفشال التنمية وتدمير الحياة الاقتصادية، كما أن له دور رئيس في تحوّل السياسيين إلى مافيا تحلّل ولا تُحرّم، ليصبح الفساد أحد العوامل الأساسية التي تؤدي إلى تخلّف البلاد ويمنع تحديثها، ويُفشل كل عمليات الإصلاح، الاقتصادي والتربوي والسياسي، ويحرم الشعوب من الوصول إلى دول حديثة حضارية تحترم الحقوق والواجبات.

خرّب الفساد اقتصاد الكثير من البلاد العربية، وقيم الناس وأخلاقهم، وطرح مفاهيم جديدة وعديدة عن العمل والأجر والدخل والاستهلاك والحقوق والواجبات، وكذلك عن قيمة الأسرة والمجتمع والدولة، فلم يعد العمل جهدًا ومثابرة بل صفقات وخداع وابتزاز، ولم يعد الأجر مقابل لجهد و”عرق جبين”، بل احتيالًا ونهبًا ونفاقًا وتدليسًا، ولم يعد الاستهلاك يرتبط بالحاجة والمقدرة بل صار سفهًا ومظاهرًا واستعراضًا للغنى، وكل هذا مجتمعًا أودى بالطبقة الوسطى وقيمها ومواقفها وتقاليدها، وزاد فقر الفقراء وغنى النهابين، وصار الكل يقلد الكل في السباق الاستهلاكي، ويتهافت الناس على الكماليات بأي ثمن حتى لو على حساب الشرف والكرامة والاستقامة ونظافة اليد، وانتشر الجشع والحسد والسباق على النهب، وذهبت القناعة إلى الأرشيف (فمن يأكل الفضة لا يشبع) كما أشارت التوراة، ورسم الفساد نهج حياة الناس وأعاد تشكيلهم الاقتصادي والاجتماعي والقيمي، وكأنه فلسفة جديدة ومذهب جديد.

بدأ الفساد بهذا المعنى يُشكّل ظاهرة مع زيادة قوة وشكيمة الأنظمة الاستبدادية في البلدان العربية، وكان ملازمًا لها، ذلك أن الأنظمة الشمولية نفّذت خطط تنمية عرجاء وسياسات اقتصادية مملوءة بالثغرات، وفيها من الارتجال ما يؤسس لتنمية غير متوازنة، واعتمدت على عصبة أو كتلة أو مجموعة أو على قطاعات رسمية وشعبية انتهازية، وعلى أنصار وزعماء محليين متنفذين في مناطقهم وأوساطهم الاجتماعية، وكان بعض هؤلاء يسعون على الأغلب للحصول على الامتيازات والمكاسب دون حق، والفوز بالتفضيل على الآخرين من خلال دعمهم للنظام بدون شروط سوى المغانم، مما أسس ليس فقط للفساد السياسي، بل أيضًا للفساد الأخلاقي والاقتصادي والاجتماعي، وبالضرورة، وبسبب الرغبة في استمرار الفساد، إلى كبت الحريات، وإلغاء دور المؤسسات الرقابية التشريعية والقضائية ووسائل التعبير والإعلام وخاصة في مجال الرقابة والنقد، وتنحية الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني عن المشاركة في الحراك الاجتماعي والرقابة وفي حياة البلاد، وتفضيل المقرّبين في العطاءات والمناقصات والتعهدات، مقابل أن يُترك للنظام الحرية في اتباع الأساليب التي يريدها لتحقيق أهدافه الخاصة وعلى هواه، دون حوار أو مشاركة أو رقابة.

أعطت الأنظمة الاستبدادية الامتيازات غير السياسية لهذه الفئات في المرحلة الأولى مقابل دعم النظام بالمطلق، وانتهت شيئًا فشيئًا إلى استيلاء المتنفذين من أهل النظام على كل شيء، سياسي ومالي وسلطة ونفوذ، واتكأت هذه الأنظمة على تلك الفئات دون غيرهم، أبقتهم في المرحلة لاحقة صورة وغطاء يعمل أهل النظام تحته، حتى غدا الفساد عماد هذه الدول وبنيتها وحاملها، وكادت محاربته تصبح متعذرة لدخوله في البنية الاقتصادية أو الآلية الاقتصادية كنهج وأسلوب، وعدم إمكانية الأنظمة الاستغناء عنه لأنه صار قادرًا بما هو ظاهرة على إعاقة أي إصلاح وخاصة الإصلاح السياسي، باعتبار هذا الأخير يُشكّل العدو الأول للفساد، من خلال اعتماده على احترام القانون وتكافؤ الفرص وحرية المواطنين وضمان الحوار الصريح والسماح بتأسيس الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام وإطلاق يدها في مجال العمل بالنقد والرقابة خاصة وأن الفساد هو المستهدف الأول في عملية الإصلاح السياسي، لذلك استنفر أرباب الفساد ليصبحوا العائق الأول أمام الإصلاح السياسي، واخذوا يستعيضون عنه بطرح شعارات وأهدافًا أخرى جزئية أو ذات أولوية ثانوية، أو السعي لتغيير الحكومات أو كبار العاملين في الإدارة، وكان المهم أن لا يُعطى الإصلاح السياسي الأولوية والجدية اللتين يستحقهما، وهكذا بقيت عملية الإصلاح تدور في حلقة مفرغة لا نهاية لها.

تنامت قوة أرباب الفساد في معظم البلدان العربية مع ضعف الأنظمة لأسباب عديدة داخلية وخارجية، بعد أن كانت بداياتهم متواضعة إبان فورة أموال النفط في السبعينات، وبعد أن كانوا في السنوات الأولى متسولين على أبواب مسؤولي النظام، أصبحوا شركاء لهم خارج إطار القرار السياسي، شركاء بالنهب والسطو على المال العام، وأخيرًا، ومنذ ثلاثة عقود، أخذوا يتسللون إلى المؤسسات السياسية مداورة أو مباشرة ويدخلون مجالس الشعب والحكومات هم أو أزلامهم، بدعم من بعض الأجهزة الأمنية أو المتنفذين، إضافة لاستخدام أموالهم لبلوغ هذا الهدف، ومع تطور الظروف، وثورة المعلومات، وبدء تحوّل العالم إلى قرية صغيرة، وبدء وعي الشعوب، ورغبتها بالإصلاح السياسي، أخذوا يهيئون أنفسهم ليكونوا فرسان الأنظمة المقبلة وأصحاب القرار السياسي فيها، فيما لو انتصرت إرادة الشعوب في التغيير السياسي لتلك الأنظمة.

معظم الأغنياء الجدد في البلاد العربية اغتنوا بسبب الفساد وبفضله، نهبوا شعوبهم وهرّبوا أموالهم وكدّسوها في بنوك أجنبية، وكأن مهمتهم ضخ هذه الأموال إلى بلاد الآخرين، ولم يهتموا حتى في الاستثمار في بلادهم، ولم يدفعوا الضرائب، واحتالوا على الأنظمة والقوانين، ولنتذكر أن أحد رؤساء حكومات الجزائر صرح أن ما سُرق من المال العام في بلاده يزيد على 26 مليار دولار، وأن وزير الاقتصاد السوري قدّر أموال السوريين في الخارج بين 75 و125 مليار دولار، وأن أغنياء مصر استدانوا مليارات الجنيهات من البنوك المصرية دون أن يسددوها، والأمر نفسه في الكثير من الدول العربية الأخرى، فقد استباحوا المال العام وحصلوا عليه بالاحتيال والنهب ومختلف الطرق غير المشروعة، والآن يعملون لاستخدامه للسيطرة على الحكومات والسلطات وربما الأنظمة السياسية.

تقع خطورة الفساد وأربابه حاضرًا في أمرين: أولهما إعاقته جزئيًا أو كليًا الإصلاح الذي تحتاجه البلدان العربية كحاجة الناس للهواء، وخاصة الإصلاح السياسي، ومحاولتهم تأجيله أو إلغائه أو تشويهه أو قلب أولوياته، وثانيهما أنه وأنهم يحلمون أن يكونوا فرسان المرحلة المقبلة وبديلًا عن الأنظمة القائمة.

مكافحة الفساد والإصلاح السياسي، أمران على نفس السوية من الأهمية، والكثير من الدول العربية التي يحكمها استبداد بحاجة ماسّة إلى الأمرين معًا بأسرع وقت، قبل أن تنهار البلاد اقتصاديًا بعد أن انهارت سياسيًا، وقبل أن تتحول الحركات والثورات السياسية إلى ثورات جياع، والتي بالتأكيد ستأكل الأخضر واليابس إن حدثت.