من أجل فض مصطلح الفساد، لابد من استعراض الأدبيات السياسية والاقتصادية والفلسفية، بغية الإحاطة بأبعاده الأخلاقية والقانونية، فالفساد من حيث المبدأ يعني فيما يعنيه إساءة استخدام السلطة لتحقيق منافع خاصة بطريقة غير مشروعة ودون وجه حق، أي استخدام المنصب الحكومي لقوننة مكاسب خاصة، وتندرج في الفساد الرشوة والابتزاز، وهما يتطلبان بالضرورة مشاركة طرفين على الأقل، مع العلم أن بعض أشكال الفساد يمكن أن يُمارسه طرف واحد.
لقد عرَّف هينتجتون الفساد على أنه “أحد المعايير الدالة على غياب المؤسسة السياسية الفاعلة التي شهدها عصرنا الحالي، وعليه فإن الفساد ليس نتيجة لانحراف السلوك عن الأنماط السلوكية المقبولة فحسب، بل إنه نتيجة لانحراف الأعراف والقيم ذاتها عن أنماط السلوك القائمة والمعهودة”(1).
أما اوسترفيلد فقد عرّف الفساد على أنه “تلك الأعمال التي يمارسها أفراد من خارج الجهاز الحكومي، تعود بالفائدة على الموظف العام، من خلال السماح لهم بالتهرب من القوانين والأنظمة النافذة، سواء باستحداث قوانين جديدة أو بإلغاء قوانين قائمة تمكنهم من تحقيق مكاسب مباشرة وفورية، وبعض العاملين في الجهاز الحكومي يقدمون على أعمال تحقق لهم ولأسرهم أو لأصدقائهم مكاسب، عبر طلب أو قبول منافع لهم من الأفراد لقاء تقديم خدمات مباشرة وفورية عبر استحداث قوانين أو سياسات تتحقق عن طريقها مكاسب مباشرة لهم”(2).
تأسيسًا على ما تقدّم من تعريفات للفساد، والتي بدت لنا متداخلة مع بعضها بعضًا، يمكن تكثيف مصطلح الفساد بالتالي: “الفساد هو إساءة استخدام السلطة لتحقيق مآرب نفعية مادية وأدبية في غياب أو تغييب المؤسسة السياسية الفاعلة بالمعنى المعاصر، مع ضعف الرقابة من جانب مؤسسات المجتمع المدني، ناهيك عن أن الفساد يعد بحق تجاوزًا صارخًا للقوانين، وانتهاكًا فظًا لمنظومة القيم والمعايير الأخلاقية”.
إن إشكالية الفساد تشير بصريح العبارة إلى جرائم الاتجار بالوظيفة العامة والتعدي السافر على المال العام.
تعد مؤشرات الفساد ومعاييره مؤشرات عامة لا تميّز بين مستويات الفساد العليا التي يمارسها كبار المسؤولين والمتنفذين، ومستويات الفساد الدنيا التي يمارسها صغار الموظفين، كذلك فإن هذه المؤشرات لا تميز بين الفساد العارض والفساد المُنظّم، والفساد الوظيفي وغير الوظيفي، وبين الفساد العلني والفساد الخفي.
لكن، وبغض النظر عن مظاهر الفساد وملامحه، ومهما تباينت مستوياته وطريقة تنظيمه، فإن جميع أشكال الفساد تساند بعضها بعضًا، وتؤثر منفردة أو مجتمعة على معدلات النمو الاقتصادي والاجتماعي، بل وتتسبب في عرقلة الاستثمارات، وتخفض إيرادات الدولة من الضرائب والرسوم، وترفع من تكلفة النفقات الإدارية، كذلك يضعف الفساد من شرعة النظام السياسي وعدم استقراره، علمًا بأن مصالح الفئات الفاسدة تقتضي حماية النظام السياسي الفاسد والدفاع عنه حفاظًا على مكاسبهم غير المشروعة.
على الرغم مما يلحقه الفساد، بأشكاله جميعها، من أضرار مدمرة في المجتمع، هناك من يتحدث عن البعد الوظيفي للفساد ودوره الإيجابي في ظل الدولة البيروقراطية، إذ يُسهم في تحسين كفاءة الأداء الإداري، كتبسيط الإجراءات وتيسير المعاملات وتحسين مستوى الخدمة وحسن المعاملة من جانب الموظفين البيروقراطيين للمواطنين، وفي هذا المنحى يعتقد اوسترفيلد بأن السوق الحرة تعد عاملًا أساسيًا في دفع عجلة التنمية قدمًا إلى الأمام، عبر التصرفات الفاسدة التي تحرك الاقتصاد باتجاه آليات السوق، ولهذا فإن التصرفات الفاسدة هي تصرفات مفيدة على نقيض التصرفات المشروعة التي لا تحرك السوق الحرة، فهي ضارة ومعيقة اقتصاديًا، وهذا النوع من الفساد الذي يصفه “اوسترفيلد” بالفساد الواسع، أي الفساد الوظيفي، يمكن الدفاع عنه من الناحية الأخلاقية ما دامت الغاية هي الدفاع عن ممتلكات الفرد وحقه في ممارسة أعماله بإرادته، وعليه فإن الفساد بهذا المعنى هو دالة للقيود على الحرية، وعندما تزول هذه القيود يتلاشى الفساد.
بغض النظر عن صحة ما ذهب إليه اوسترفيلد من أن للفساد “وظيفة إيجابية”، فإن هذا الافتراض حتى وأن كان صحيحًا، فإن الفساد على المدى البعيد سرعان ما يتحول إلى كابوس مخيف يهدد السلم الاجتماعي بالخطر، فالفساد إذا ما تحول إلى ظاهرة واتسع نطاقه، فإنه يتحول إلى كارثة يتعذر السيطرة عليها، لاسيما إذا ما تحول الفساد إلى ظاهرة مزمنة يصعب التحكم بنتائجها، وعندها تتطلب مكافحة الفساد تكاليف باهظة في ظل ضعف أداء أجهزة الإدارة الحكومية.
إن الشعور السائد بأن الفساد عند المستويات العليا أكثر تعقيدًا وخطورة من الفساد السائد عند المستويات الدنيا، وإذا ما استمر الفساد على المستوى السياسي، فإن من الصعوبة بمكان تطويقه على المستوى الإداري البيروقراطي.
وهكذا فإن الفساد في حدوده الدنيا يشتمل على الرشوة السائدة والرشوة الطارئة، والفساد في حدوده العليا هو الفساد المنظم الذي يمارسه بعض كبار مسؤولي السلطات الثلاث “التشريعية والتنفيذية والقضائية” في ظل تغييب السلطة الرابعة “الصحافة”.
في كل الأحوال، ومهما تفاقم أمر الفساد وصار ظاهرة مزمنة أم ظاهرة مؤقتة، فإن هناك حدودًا لا يستطيع المجتمع أن يتعايش معها، ولا تستطيع الدولة بدورها الاستمرار في أداء وظائفها، ومن هنا تبرز ضرورة مكافحة الفساد وإنتاج آليات الحد منه لتحويله من حقل الظاهر إلى حقل الارتكابات الفردية المحدودة.
ومن اللافت للنظر ذلك الاهتمام المفاجىء في أي دولة بالفساد مصحوبًا بضجة إعلامية كبيرة، فهل هذا “مرتبط بثورة داخلية للإصلاح؟ أم هو مرتبط بانتهاء الحرب الباردة وما رافقها من تكتم متبادل على قضايا الفساد؟ وهل الفساد مرتبط بتطور المجتمع المدني داخل كل دولة؟ أم أن هناك تيارًا دوليًا يخشى الفساد في ضوء ازدياد حجم التجارة وظهور جماعات فاسدة تسعى لغسيل الأموال؟ وهل إماطة اللثام عن الفساد ينم عن صحوة وطنية أملتها الموجة الثالثة للديمقراطية؟ أليس مطلوبًا التوقف على آلية تكيف المجتمعات مع الفساد؟ وبالتالي معرفة الطرق التي سلكتها الحكومات في تجاوزه وتلافي أضراره؟ ثم لماذا يرتبط تحول المجتمعات إلى الرأسمالية بشيء من الفساد؟ ولماذا تعاني بعض المجتمعات الديمقراطية من قدر الفساد؟ وأخيرًا هل تحتاج الدولة البيروقراطية لقدر من الفساد للتخفيف من ضغوط البيروقراطية؟ ولماذا شيء من الفساد الوظيفي مفيد كما ذهب بعض علماء الإدارة الأميركية “قدر من الفساد ضروري لأداء سياسي جيد”؟. حقًا أنها لمفارقة عجيبة، شعوب تكافح الفساد وتسعى لاجتثاث مسبباته، وأخرى تبرر الفساد وتتأقلم معه، ومهما كانت مبررات الفساد ومسوغاته، فلابد من مكافحته ومحاربته على قاعدة: فكر عالميًا ونفذ محليًا”(3).
__________
1 – حمدي عبد العظيم “عولمة الفساد وفساد العولمة” – الاسكندرية – الدار الجامعية – 2007 – ص 16.
2 – السلوك المنحرف في مجال الإدارة – الماهية، والنماذج، والتفسير – عبد الله المصراتي 2012.
3 – تحرير د. مصطفى كامل السيد ود. سلام سالم زرنوقة – الفساد والتنمية – مركز دراسات وبحوث الدول النامية – كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة 1999 – ص8.