زار سورية قبل أيام وفدٌ وزاري لبناني رفيع المستوى، وكانت هذه الزيارة هي الأولى منذ سنوات طويلة، كانت العلاقة الرسمية فيها بين البلدين مُجمّدة بسبب المقاطعة العربية والغربية لسورية، لكن نائبة رئيس الحكومة زينة عكر لم تقم بالزيارة لتحسين العلاقات السياسية، ولا لبحث سبل تطوير العلاقات أو فتح ثغرة عربية لإعادة دمج النظام السوري بالمحيط العربي والإقليمي، وإنما أتت لهدف واحد محدد، هو إجراء محادثات مع دمشق للحصول على موافقتها لتمرير الغاز والكهرباء، من مصر والأردن، عبر أراضيها، بعد أن أعطت الولايات المتحدة الضوء الأخضر للبنان للتحرّك بهذا الاتجاه.

ومع أن الزيارة لها هدف محدد، فقد أثارت كثيرًا من اللغط حولها، بداية من رفض بعض القوى السياسية اللبنانية لها، ممن عدّها تطبيعًا مع النظام السوري الذي يقتل شعبه، وصولًا إلى المعارضة السورية التي افترضت أن ما يجري في درعا من عمليات حربية هدفه السيطرة على المدينة، لتمرير خط الغاز المشار إليه.

قبل هذه الزيارة بنحو ثلاثة أسابيع تقريبًا، تبلّغ لبنان موافقة الإدارة الأميركية على مرور الغاز والطاقة الكهربائية من مصر والأردن، عبر الأراضي السورية، واستُثني لبنان من العقوبات المفروضة على النظام السوري، وهو ما سمح للبنانيين بالتحرك نحو دمشق، للحصول على موافقتها وبحث التفاصيل معها.

فسّر البعض الموافقة الأميركية، بالرغم من أنها تخرق قانون قيصر، بأنها محاولة لعرقلة جهود إيران في دعم لبنان بالمحروقات عبر “حزب الله”، وردٌّ على إعلان حسن نصر الله، الأمين العام للحزب، انطلاق أول باخرة نقل محروقات من إيران إلى بيروت، وأنها محاولة أميركية لإحراج الحزب وزيادة الضغط الشعبي عليه، خاصة أنها تعرف صعوبة تنفيذ هذا المشروع، على الصعيد الأمني والمالي واللوجستي والتقني.

يعاني لبنان مشكلة كهرباء وغاز، ولا يستطيع تأمينها إلا عبر الاستيراد بالبحر، لأن حدوده كلها مع سورية وإسرائيل فقط، وسورية تخضع لعقوبات أميركية صارمة لا تسمح لأي دولة بالتعامل معها، ولأن لبنان يعرف أن مفاتيح هذا الموضوع بيد الولايات المتحدة، فقد طلب من الأخيرة أن تسمح لسورية بمساعدة لبنان في تمرير الغاز المصري والكهرباء الأردنية، عبر الأراضي السورية، ففي 19 آب/ أغسطس الماضي، أبلغت السفيرة الأميركية في لبنان، دوروثي شيا، الرئاسة اللبنانية بقرار الإدارة الأميركية مساعدة لبنان لاستجرار الغاز المصري عبر الأردن وسورية، وصولًا إلى شمال لبنان.

أتى الطلب اللبناني من الأميركيين، بعد أن تواصل رئيس الوزراء اللبناني الأسبق سعد الحريري مع القيادة الأردنية لإقناع الأميركيين بالموافقة على نقل الغاز المصري إلى لبنان، عبر الأراضي الأردنية والسورية، وبعد زيارة قام بها إلى مصر، في 14 تموز/ يوليو الماضي، حيث طلب من الرئيس عبد الفتاح السيسي الحصول على الغاز المصري عبر الأراضي الأردنية والسورية، وهو ما يمكن أن يوفّر على لبنان بين 50 و60% من تكلفة المحروقات في لبنان.

بعد مراسلات لبنانية رسمية مع سورية، وافق الجانب السوري على الطلب، واتفق مع الجانب اللبناني على متابعة القضايا الفنية عبر فريق فني مشترك، وتأتي زيارة الوفد اللبناني إلى سورية استكمالًا لهذا المسار التقني البحت، فيما يعوّل النظام السوري على أن تكون هذه الزيارة بوابة له لعودة العلاقات العربية معه، بعد قطيعة أوشكت أن تدخل عامها العاشر.

هذه الزيارة، على الرغم من أنها تقنية بحتة، قسمت اللبنانيين، وحذّر قادة أحزاب لبنانية من استئناف لبنان علاقاته الرسمية مع النظام السوري، فيما أكّد قادة أحزاب معارضة لـ “حزب الله اللبناني” ولسورية أن الأزمة الحالية التي يمرّ بها لبنان، الاقتصادية والسياسية، سببها سورية و”حزب الله”، أو ما يُدعى “محور الممانعة”، وتغييب الدولة من قبل “حزب الله” وحلفائه، وطريقة إدارتهم الفاسدة للدولة اللبنانية.

يهدف المشروع إلى جرّ كميات من الغاز المصري إلى الأردن، ليتمكن من إنتاج كميات إضافية من الكهرباء لوضعها على الشبكة التي تربط الأردن بلبنان عبر سورية، كذلك يقضي بنقل الغاز المصري عبر الأردن وسورية إلى شمال لبنان، من أجل تشغيل محطات الكهرباء اللبنانية العاملة على الغاز والمتوقفة عن العمل منذ 11 عامًا، ويمرّ أنبوب الغاز العربي برًا من مصر عبر الأردن إلى سورية، من حمص وسط البلاد، وكان قد تعرّض لتفجيرات عدة في مساره، من إرهابيين في مصر، ومن جماعات مسلحة في سورية، ويحتاج القسم السوري إلى أعمال صيانة وتوسيع حتى يتمكن من نقل الغاز إلى لبنان.

استاءت المعارضة السورية كثيرًا من هذا المشروع، وعدّت أن ما حصل في درعا من قصف غيرُ مبرر، وأن هناك رغبة كبيرة من قبل روسيا والنظام في بسط سيطرتهما على المدينة، للدخول ضمن هذا المشروع الذي رسمته الدول المشاركة فيه، كي تضمن الأطراف ألا تشكل المعارضة السورية في درعا خطرًا على المشروع الذي سيمرّ خط الغاز الرئيسي به من درعا، وكي يتم تنفيذ المشروع الذي سيدرّ كثيرًا من الأموال على النظام السوري.

وفق محللين، فقد وافق النظام السوري على المشروع لاعتبارات عدة، أهمّها أن النظام السوري سيستفيد من كميات مجانية من الكهرباء، نتيجة نقل الكهرباء عبر شبكته إلى لبنان، وهو بأمس الحاجة إلى هذه الكميات الإضافية من الكهرباء، بسبب العجز الذي يدفعه إلى قطعها عن المواطنين ساعات طويلة، ومن خلال عملية نقل الغاز إلى شمال لبنان، سيحصل كذلك على كميات تسمح له بتشغيل محطات كهربائية في مناطق سيطرته، وسيؤمن هذا المشروع لسورية ضرائب من التمويل الذي يُقال إن البنك الدولي سيتولاه، إضافة إلى أن شبكة الكهرباء الأردنية تمرّ عبر درعا جنوب سورية، وهذا يحتاج إلى إنتاج تفاهم إقليمي – دولي حول درعا، يشارك فيه الأميركيون والروس والإيرانيون والإسرائيليون، ويسمح للنظام السوري بالسيطرة عليها بالقوة، وسط صمت دولي وإقليمي من أجل هذا المشروع، وأخيرًا، إن هذا المشروع -بنظر الجانب السوري- هو جسر عبور إلى العلاقات العربية العربية من جديد، بعد قطيعة عقد من الزمن.

أصل خط الغاز العربي الذي تم الاتفاق على إنشائه عام 2000، هو أن يكون عند إتمامه خطًا لتصدير الغاز المصري إلى دول المشرق العربي، ومنها إلى أوروبا، ومن المفترض أن يكون طوله 1200كم، وكلفة مدّه نحو 1.2 مليار دولار، وقد تعثّر عام 2012 بسبب تفجيراتٍ طالت الأنانبيب التي تنقل الغاز إلى الأردن وإسرائيل، قام بها -وفق تقديرات- بدو سيناء الذين يشكون إهمال الحكومة المصرية لهم، واستأنف الضخ عام 2013، وتم نقل الغاز إلى الأردن فقط، بسبب نقص الغاز في الحقول المصرية، ويُدار الخط في سورية من قبل شركة روسية “ستروي ترانس كاز”، وهي التي مدت الخطوط حتى حمص، ثم توقف المشروع عام 2010 بسبب خلافات مع الشركة الروسية، وبعد بدء الثورة السورية، حصلت الشركة الروسية عام 2018 على حق استغلال الفوسفات السوري لمدة 50 سنة، بعقود مُجحفة جدًا بالنسبة للسوريين.

في الغالب، ستستمر اللقاءات حول هذا الملفّ بين الدول المعنية، مصر والأردن وسورية ولبنان، لكن من المستبعد أن تصل في المدى القريب إلى نتائج ملموسة في هذا الملف، خاصة أن سورية ما زالت في حرب، وأوضاعها الاقتصادية متدهورة لدرجة لا تسمح لها بأن تُسهم في مشاريع اقتصادية، فضلًا عن أنّ لبنان شبه مفلس، ولا يستطيع تأمين الموارد المالية المطلوبة لهذا المشروع الكبير، وأن تفعيل هذا الملف يحتاج إلى وقت طويل جدًا لبحث المواضيع الفنية والتقنية والمالية، ووضع برنامج عمل وجدول زمني، وتحديد جاهزية البنى التحتية لهذا المشروع ومدى سلامتها، وتأمين كوادر وفريق عمل تقني، ومعدات ربما غير متوفرة في سورية ولبنان، للكشف على كل المواقع في البلدان الأربعة.

كذلك، فإن نقل الغاز يستغرق -برأي الخبراء- بين 8 أشهر وسنة، ولبنان في واقع الأمر يحتاج إلى خطط إسعافية، لا إلى مشاريع استراتيجية بعيدة المدى، إضافة إلى أن لبنان غير قادر على تأمين التمويل، خاصة أن الدين اللبناني يبلغ 96 مليار دولار، وهو 164% من الناتج المحلي، وبالتالي التمويل غير متوفر، ويأمل لبنان أن يتوفر عبر البنك الدولي، ولكن هذا يحتاج إلى جولات طويلة من المفاوضات والاجتماعات مع البنك الدولي، لمنح لبنان قرضًا كبيرًا يُضاف إلى القروض الكبيرة التي منحها البنك الدولي للبنان، وما زال لبنان يدفع أقساطها وفوائدها.

في النهاية، وفق هذا العرض، يبدو أن العملية سياسية أكثر منها اقتصادية، وتقودها الولايات المتحدة لهدف غير واضح المعالم، حتى الآن، ومن المرجّح أن تكون جزءًا بسيطًا من عملية أوسع للشرق الأوسط، تتشارك فيها الولايات المتحدة وحلفاؤها، ومن الصعب أن يكون شريكها فيها النظام السوري وإيران، الذي تصر الولايات المتحدة على تطبيق قانون قيصر والمقاطعة عليه، حتى يقبل بإجراء تغيير سياسي حقيقي وواسع، وهو الأمر الذي يصعب توقع حدوثه على المدى المنظور.