مقدمة مفتاحية:
تتسم العلاقات الدولية والدبلوماسية بأنماط تقليدية عامة من البروتوكول والإتيكيت المتعارف عليه في هذه الأوساط، فتكون جامدة في حدود تشريعاتها واتفاقياتها لعمومها الشامل في العالم، ومرنة متجاوبة في حدود طوارئ قسرية تلحق بهذا العالم، من فترة إلى أخرى، كظهور الأوبئة وفترات الحروب وسنوات الانكماش والانهيار الاقتصادي، في ظل ظروف محلية وخارجية وسياساتية بالغة التعقيد، ومما لا شك فيه أن ما يطرأ من تبدلات اقتصادية وصحية وسياسية في هذا العالم يؤثر إيجابًا وسلبًا في مسار العلاقات الدبلوماسية والدولية، وأحيانًا تأخذ هذه العلاقات وجهًا وبروتوكولًا جديدًا، حسب طبيعة تأثير الظرف الطارئ، لتصبح فيما بعد وجهًا من وجوه القانون والعرف والبروتوكول الدولي المتفق عليه.
أناقش في هذه المادة أثر فيروس كورونا على العلاقات الدولية والدبلوماسية بين الكيانات السيادية المختلفة، ومدى تجاوب العلاقات مع المتغيرات التي أحدثها هذا الوباء، وكيفية تلقي العالم -حكومات ومنظمات- لهذه المتغيرات، انطلاقًا من تحديد الوجوه السلبية والإيجابية في أثناء الجائحة المستمرة منذ أكثر من عام، مع التركيز على أن وسائل التكيف الافتراضية، في العلاقات الدبلوماسية والدولية مع الجائحة، لا تشكل حلًا مستدامًا في قضايا كثيرة، بالتوازي مع التشديد على أن الجائحة ستولد أعرافًا وبروتوكولًا وقوانين ونقطة بداية لنظام عالمي جديد، تقلّ فيه دبلوماسية العولمة واللبرلة بالاتجاه نحو انغلاق قسري مصيري في هذه العلاقات، لنؤكد ضرورة الحد من هذه العزلة، للوصول إلى عالم أكثر تشاركية وتعاونًا لتجنب الأزمات.
أولًا: الدبلوماسية من الواقع الحي إلى الواقع الافتراضي:
شكل ظهور فيروس كورونا في الصين، ومن ثم انتشاره في جميع أنحاء العالم عبر حركة السفر وسلاسل التوريد ونظام العولمة المفتوح في جميع المجالات، بالتزامن مع خطورته المميتة، حالة ركود وإغلاق وقائي وتشظ في منظومة العلاقات العالمية والداخلية بين الأقاليم القائمة على نظام العولمة والقيود الشكلية، لنكون أمام عالم موبوء، وفي الوقت ذاته أمام عالم مغلق وحركة متوقفة، مما يعمق إشكالات هذا العالم بصورة كبيرة ويوقف حركة العمل الدبلوماسي بين الأقطار كافة، فكان توجه الدول نحو الدبلوماسية الافتراضية حلًا قسريًا وخيارًا إجباريًا، بما تكتنفه الدبلوماسية الافتراضية[1] من قيود حقيقية في عملية التواصل، تتعلق بالسرية أو محاسن التواصل الحي أو آليات مراقبة الجهود وضبطها أو عمليات التفاوض المختلفة التي يشكل العالم الافتراضي عقبة أمام استمرارها ونجاحها بالشكل المأمول، ولا شك في أن الدبلوماسيين كانوا يفتقرون إلى معرفة جيدة بآليات عمل وسائل التواصل الاجتماعي ومراعاة الفوارق الناتجة عن عدم القدرة على العمل الحي والمباشر، كالترجمة وفارق الزمن وإيحاءات التواصل الحي ولغة الجسد وغيرها، ما يعني أن استجابة العالم لهذا التحول كانت بطيئة في البدايات، إلا أن هذا التحول البطيء تركز حول سياسات حكومية وعالم متشظ إلى حد ما، لنشهد تخفيضًا كبيرًا في جدول أعمال البعثات الدبلوماسية وعدد أفرادها، وحاجة ماسة إلى دورات دعم تقني للطبقة الأولى والثانية من الفرق الدبلوماسية، للقدرة على متابعة الشؤون الخاصة بصورة مصغرة، ريثما تظهر علامات سير الفيروس عالميًا، ويبدو أن الدبلوماسية الافتراضية أعاقت التعددية المطلوبة في حياة البعثات والهيئات الدبلوماسية، وقلّ -بشكل أو بآخر- اعتماد الحكومات على حجم البعثات، مقارنة بما قبل كورونا، وهذه التخفيضات في عدد الفرق الدبلوماسية تخفف من الأعباء المالية الناتجة عن عمل الهيئات، وبالتأكيد لا يمكن القول بنجاح الدبلوماسية الافتراضية المصغرة في تأدية المطلوب منها تمامًا والحصول على النتائج الطبيعية المرجوة من عمل الهيئات الدبلوماسية، ففي فترة ظهور الفيروس وتفشيه، اقتصر عمل الدبلوماسيين على حصر مواطنيهم المشتتين وتأمينهم لإعادتهم إلى بلدانهم، والسعي إلى أداء مهمة استثنائية في هذا الخصوص لا تتعلق غالبًا بعمل الدبلوماسي بشكل دقيق، فأعمال البعثات تحدد ضمن إطار دبلوماسية مختلطة تجمع بين الدبلوماسية الحية والافتراضية، فلا يمكن، مع كل عقبات الأتمتة والافتراضية القسرية وفوارق الزمن وضعف أو جودة عامل التكنولوجيا ومدى خبرة الدبلوماسيين في ذلك، أن نستغني عن الدبلوماسية الحضورية أو وجود البعثات ومكاتبها، لما له من تبعات لا يمكن أن تغطيها الدبلوماسية الافتراضية في مجال العمل القانوني والمفاوضات ومتابعة الأعمال ميدانيًا، فالحاجة إلى شكلي الدبلوماسية مزدوجة وضرورية لأداء الرسالة الدبلوماسية على أكمل وجه[2]، وهذا البطء القهري في عمل الدبلوماسية يشير إلى قدرات الدول والحكومات البسيطة في مواجهة الظروف الاستثنائية، وفي الوقت ذاته يدفع باتجاه مراجعة كل السياسات الدبلوماسية، لتكون أكثر قابلية للاستجابة لطارئ مماثل، ولا شك في أن تحسين هذه الأنماط يأخذ وقتًا ليس باليسير، ريثما تستقر دفة التجاذبات حول شكل العلاقات بالتفاهم بين الدول بعد كورونا.
ثانيًا: مزيد من أزمات الجغرافيا السياسية بمقابل دبلوماسية منهكة بطيئة:
في عالم محكوم بسلسلة متصلة من الصراعات الجيوبوليتيكية وبطاقة دبلوماسية تبشيرية عالية، شكل فيروس كورونا نكسة كبيرة، في سياق الصراع الدولي، ومن ثم توقفت سلاسل التوريد وانكفأت الدول عن كثير من خياراتها، وتعطلت حركة التجارة العالمية بشكل شبه كامل، لنكون أمام أزمة حقيقية عدّها البعض أشد من الأزمة المالية عام 2008، وهذا يعني تعطّل النشاط الدبلوماسي الدولي، ونشاط حركة من تبادل التهم بين الدول الكبرى التي تستولي على الحصة الأكبر من الأنشطة الاقتصادية والمزايا الاستراتيجية، لنشهد أزمة صحة عامة بدءًا من ظهور كورونا، ومرورًا بتقاعس الدول أو حالة الاستجابة التقليدية للفيروس، بالمنطق الاستراتيجي القديم لشكل العلاقات قبل كورونا، وظهر هذا جليًا في تعاطي الولايات المتحدة الأميركية، من خلال اتهام الصين بإحداث هذه الطفرة من الفيروس ومسؤوليتها عن هذه المؤامرة الكونية التي ألمت بالعالم، بالتوازي مع حالة حنق شديد من سياسات منظمة الصحة العالمية التي وظفت جزءًا كبيرًا من إيراداتها ودبلوماسيتها التي تُسهم الولايات المتحدة في جزء كبير من التزاماتها، لمناطق موبوءة أكثر تهميشًا، معرضة بذلك عن الأزمة الدبلوماسية الجديدة الناشئة بين أميركا والصين[3]، في حين أظهرت دعوات نقدية أوروبية لإعادة التفكير الاستراتيجي بجيوسياسية أوروبا، من منطلق مستقل عن تداعيات النزاع الصيني الأميركي والروسي الأوروبي، بدبلوماسية صحة عامة بالاستعانة بدبلوماسية رقمية تحافظ من خلالها أوروبا على نفوذها العالمي، بإعادة هيكلة الاستراتيجية العامة للاتحاد الأوربي للتكيف مع سياسات داخلية متضاربة وتعاني قصورًا في التصدي للفيروس، وتقلبات دولية من الممكن أنها غيرت قواعد اللعبة والاشتباك بين الأطراف الكبرى[4]، وفي ما يتعلق بقصور الدبلوماسية الأممية في التعامل مع النزاعات العسكرية والحروب، وخاصة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، في ظل تفشي وباء كورونا، نجد أنها اقتصرت على دعوات للتهدئة بين أطراف النزاع من قبل الأمين العام للأمم المتحدة، لم تأخذ هذه الدعوات وجهًا عملياتيًا للاستفادة من إجراءات الحد من كورونا، لتهدئة النزاع والدفع بعمليات تفاوضية مجدية لإيجاد حل للأزمات التي تعوق عمليات الحد من آثار كورونا خاصة، ومسار الدبلوماسية الأممية عمومًا، ولكن على ما يبدو أن دبلوماسية العلاقات الدولية القديمة تجري في طريق إعادة هيكلة جذرية[5]، ليس نسفًا للتحالفات بين الأقطاب، بقدر ما هي إعادة جدولة الأوليات والاهتمامات وتحسين القطاعات الدبلوماسية المختلفة للتعامل مع أوبئة مشابهة في المستقبل، قد تؤثر سلبًا على احتياطات القوى الكبرى من النفوذ، من خلال الدفع بدبلوماسية تجارية لإنعاش الاقتصاد، وصحية لتحسين ظروف الاستجابة، وسياسية تجمع الاثنين على شكل ما يعرف في الأوساط بدبلوماسية الأوبئة والتي ستكون محط أنظار الدول الفاعلة من أجل إعادة ترتيب السياسات والاستراتيجيات، في محاولة لاستدراك ما فات خلال الأشهر الستة الأولى منذ ظهور الوباء، وترسيخ نوع من التحكم الناعم بالوباء والتوازنات الدولية، بأسلوب دبلوماسي شكله دبلوماسية الصحة العامة، ومضمونه النمط التقليدي للتفاعلات في عالم ما بعد كورونا.
ثالثًا: دبلوماسية الأوبئة: بين ضرورات الصحة العامة والحفاظ على المواقع القديمة:
ليست العثرة في ظهور كورونا وانتشاره الكبير والسريع بفعل عوامل عدة، بل في حالة من الغليان بين الدول الكبرى، ونتيجة طبيعية لعلاقات دولية حامية، ليبدأ تنافس شديد بين الشركات الطبية الكبرى والدول الراعية من أجل تطوير لقاح مضاد، في حين أن سوق الصناعات الطبية أصبح ركيزة من ركائز الاقتصاد العالمي الذي تديره بعثات دبلوماسية خاصة أو حكومية أو متعددة الأطراف، في عالم ينفق على الدواء أكثر مما ينفق على الغذاء، لأسباب كثيرة منها الاحتباس الحراري وأزمة المناخ والتلوث والنفايات الصناعية الخطرة… في بداية ظهور كورونا، اقتصر عمل البعثات الدبلوماسية على محاولة لم شتات مواطني دولهم وتقديم التسهيلات اللازمة لإعادة المواطنين إلى بلدانهم، مع تقليل عدد أفراد البعثات وإغلاق المكاتب والتوجه محليًا نحو الإغلاق ومراجعة السياسات الحكومية المحلية بخصوص ذلك، على حين طوّر عدد من الشركات والحكومات الكبرى لقاحًا مضادًا، لتبدأ حملة من التبشير السياسي متعدد الأطراف، وذلك بتقديم الدول الكبرى -كالصين والولايات المتحدة وروسيا- كميات من المساعدات للدول النامية وغيرها للمساعدة في الحد من تفشي الوباء، وفي المرحلة الثانية، بدأت حملة التجاذبات حول اللقاحات وأهليتها وطرق تقديمها للدول النامية والأكثر تهميشًا والأكثر تضررًا، بسياسات فردية تعبّر عن مصالح الطرف المتبرع، ترافقًا مع تخفيف إجراءات الإغلاق تدريجيًا، مع تعافي المجتمعات من حدة الخطاب المرعب الذي انتشر بفعل الشائعات المرافقة للوباء، إذ لم تؤد الدبلوماسية المحلية والدولية دورها الطبيعي في إنتاج خطاب علمي عقلي، يسهل على المجتمعات ويبسط ويحلل تبعات الوباء، ولو تم ذلك بنجاح من البداية، لكانت الخسارة أقل وطأة، ولكان هناك خطاب ولغة دبلوماسية علمية مبنية على أسس التواصل الصحيحة مع المجتمعات في حالات مشابهة[6]، وهذا لم يتحقق بصورة جيدة، نظرًا لحالة الغليان الصيني الأميركي وتبادل الاتهامات وتحول منظمة الصحة العالمية إلى وسيط دبلوماسي يتعرض للطرفين ويتعرض الطرفان له، وعلى صعيد متصل، نرى حالة الاستغلال الجيد من قبل الدبلوماسية الصينية التي انتهجت سياسات قوية في الإغلاق والخطاب العالمي وتطوير اللقاح وتقديم المساعدات للأطراف الشريكة أو ما نسمّيه بتبييض سياسات ناجحة، استطاعت من خلاله تسويق نفسها أو على أقل تقدير الحفاظ على مواقعها القديمة والانتقال إلى الأمام تدريجيًا وتقليل أثر الخسائر على الاقتصاد الصيني، باعتبار الصين بلد المنشأ للفيروس[7]، في تجاوب مدروس شكّل للصين مخرجًا داخليًا وخارجيًا معقولًا من خطر الفيروس، على الداخل الصيني، وخطره الأكبر على علاقات الصين الدولية وتجارتها الكبرى وسلاسل توريدها التي تعتبر الأكبر في العالم اليوم.
خاتمة:
أحدَث فيروس كورونا سلسلةً من الانتكاسات المختلفة للعلاقات الدبلوماسية والدولية، وأظهر حجم التدني في الاستعداد للأوبئة في جميع دول العالم، ولأن العالم لا يسير بقطبية واحدة، كما يعتقد كثيرون، فرض كورونا دبلوماسية افتراضية، بعد أن عطل عمل الهيئات الدبلوماسية التقليدية، واتّسمت هذه الدبلوماسية بالبطء وبحالة من الصدمة وبأخطاء جمّة، منها ضعف عامل التكنولوجيا والاتصال وإدارة الوقت والاستراتيجية الإدارية، إضافة إلى شرخ جيوبولتيكي في معظم خطوط وقواعد الاشتباك بين الدول الكبرى، وكذلك أظهر هامشية القانون الدولي وهيئة الأمم المتحدة، بنظر الأطراف المتحاربة عسكريًا، في نقاط مختلفة من العالم، وبدا جليًّا في صراعات دبلوماسية الأوبئة، إذ كانت خيارًا سياسيًا أكثر من كونها خيارًا صحيًا عامًا، من جهة واحدة في الغالب، ومع كلّ هذا، ليس من السهل الحديث عن تغييرات جذرية في النظام العالمي، بل يمكن اعتبار كورونا محطم الدبلوماسية والعلاقات الدولية، نقطة البداية في ظهور تحوّلات كبرى في النظام العالمي، استنادًا إلى أزمات ما قبل كورونا وما بعده.
ويُستحسن إعادة بناء استراتيجية نقدية جديدة، لتعويض النقص الناتج عن تعطّل الدبلوماسية التقليدية، وتحسين أداء الدبلوماسيين في العالم الافتراضي برؤية متعددة الأطراف، بالمعنى الحقيقي، فقد أصبح من الضرورة إعادة هيكلة البعثات الدبلوماسية المختلفة، لتتلاقى مع الضرورات الطويلة الأمد التي أحدثها كورونا، مع ضرورة الحفاظ على البعثات الدبلوماسية الدائمة، ودمجها بالافتراضية التعددية، لتتكامل ظروف إعادة ترتيب البيت السياسي والدبلوماسي العالمي، بمنطلق إدارة إنسانية عادلة ومتوازنة؛ فالاستراتيجية هي من تحدّد شكل العالم لاحقًا، ومدى تعرّضه لخسائر كبرى في جميع القطاعات في السنوات القادمة، فالحاجة اليوم إلى إصلاح ما أفسده الفيروس توجب أن يكون هناك حشد عالمي تكون الدبلوماسية الصحية العامة محطّ أنظاره، مع التشديد على الدور الإيجابي الذي يمكن أن تؤديه البعثات الدبلوماسية تجاريًا في الخارج، لإعادة تنشيط الاقتصادات وتدوير عجلة التجارة.
[1] Maricela Muñoz, Diplomacy in times of COVID-19, DiploFoundation,16 Jul 2020. https://cutt.ly/lx7K1Nb
[2] Jovan Kurbalija, Are permanent missions at global diplomatic hubs more or less relevant in 2020?, DiploFoundation, 15 Jul 2020. https://cutt.ly/Ax71BQI
[3] Viorel Mionel, Silviu Neguț & Oana Mionel’ Pandemopolitics. How a public health problem become a geopolitical and geoeconomic issue, Eurasian Geography and Economics, Volume 61, 2020 – Issue 4-5, Page 392.
[4] The geopolitical implications of the COVID-19 pandemic and the role of the EU in the world, Chiara Manley and Federico Steinberg 20/11/2020. https://cutt.ly/4cw4L3Y
[5] Jeffrey Cimmino, Matthew Kroenig, and Barry Pavel, Taking stock: Where are geopolitics headed in the COVID-19 era?, Atlantic Council, June 2020. https://cutt.ly/uce24lo, https://cutt.ly/Cce4W71
[6] Biljana Scott, Has the coronavirus deprived us of choice?, DiploFoundation, 26 Mar 2020. https://cutt.ly/FcrgWlM
[7] DIPLOMACY AND ECONOMIC RECOVERY, Diplomat Magazine, 29TH JUNE 2020. https://cutt.ly/jcrxJiw