عند الحديث عن هذا الموضوع الشائك، في شرقنا البائس، لا بدّ من التنبيه بداية إلى مسألتين تتعلقان بموضوع البحث: الأولى المعاصرة، وهي قدرة المنهج العقلي الذي يتحكم في ثقافتنا وسلوكنا على امتلاك المرونة اللازمة للتعايش كبشر مع متطلبات مجتمع الحداثة في دولة المواطنة. والثانية العلاقة بين الأكثرية والأقلية، وفي تناولنا لها سنخضعها لصيرورة وسيرورة الوعي المجتمعي، والتبدلات والتطورات التي حدثت على شكل الدولة من عصر لآخر. وهذا يعني أن لكل عصر شروطَه وظروفَه الذاتية والموضوعية التي تنتج ثقافة وسلوكًا في هذا الأمر.

من حيث المعاصرة، نجد أن مفهوم الأكثرية والأقلية يدخل في باب العلوم الإنسانية، كعلم الثقافة والاجتماع والسياسة وعلم الأعراق، وعلى الرغم من أن دولة المواطنة الحديثة قد تجاوزت إشكالية الأكثرية والأقلية، بمفهومها التاريخي ذي البعد العددي، فقد ظلّ المفهوم حاضرًا في شرقنا البائس، بمعناه التاريخي القائم على العددية، ليتصدر كل دورة يُعاد فيها تشكيل المجتمع، ثقافيًا وسياسيًا واجتماعيًا. فالحداثة وعلم الاجتماع السياسي لا يقبلان مصطلح الأكثرية والأقلية، بمعناه التاريخي، وإنما يفرضه نمط الوعي والسلوك الاجتماعي وتطوره.

إن الإشكالية الناتجة عن مجتمع الدولة الإمبراطورية لهذا المصطلح بقيت حاضرة في شرقنا البائس بشدة، معتمدةً في تعريفها واستحقاقاتها على الكم العددي لكل طرف، لكن في مفهوم دولة المواطنة الحداثية يتهافت الفهم الإمبراطوري للمصطلح، من خلال أكثرية وأقلية جديدة، تولدت بالوعي السياسي والثقافي والاجتماعي، وتتمثل بالأكثرية السياسية من جهة، والأكثرية القانونية من جهة أخرى.

فالأكثرية السياسية تكون في السلطة، لتقود المجتمع والدولة من خلال برامج جعلت المجتمع ينتخبها لتنفيذ تلك البرامج، وكل معارض لها يكون من الأقلية، ولا تدخل الانتماءات الإثنية والطائفية ولا الدينية في المفهوم المعاصر للمصطلح، بحسب قوانين علم الاجتماع السياسي.

وأما الأكثرية القانونية، فهي المتوافقة والموافقة على عقد اجتماعي مُتَضَمن في الدستور ومواده القانونية، وإن وُجِدَ من يخالفه أو لم يقبل به، ولكنّ الجميع منصاعون لهذا العقد، لا يخرقونه لا في الأوضاع الطبيعية ولا الاستثنائية، ليسير المجتمع والدولة نحو التنمية والتقدم بخطًى ثابتة، والأمثلة على ذلك في المجتمعات كثيرة، مثل الحالة الكاتلونية في إسبانيا، أو حالة الجاليات الإسلامية في ألمانيا وغيرها.

شكل الدولة وأثره في حل الإشكالية

يرى علم الاجتماع السياسي في دراسته لهذه الإشكالية المعقدة أنها متبدلة ومتغيرة، بحسب تبدّل الصيروري والسيروري لشكل الدولة، كما أسلفنا. فالدولة عند فلاسفة السياسة مرت بأربعة أطوار:

الدولة الإمبراطورية: كان المصطلح الذي نحن بصدده إشكاليًا جدًا من حيث نتائجه، إذ من الصعب أن تحصل الأقلية الدينية أو العرقية على حقوقها في النمط الإمبراطوري، وكان تديّن وعرق الإمبراطور محددًا للأقلية والأكثرية، لتُسلَبَ الأقلية جلَّ حقوقها.

ولما جاءت الدولة القومية: اعتُمِد فيها التقييم الاصطلاحي للأكثرية والأقلية في تلك الدولة، على التصنيف العرقي الأثنولوجي الغالب فيها.

وبانتهاء الحربين العالميتين، جاءت الدولة الوطنية: في محاولة عالمية للتخفيف من النتائج السلبية للدولة الإمبراطورية والقومية التي أنتجت كارثة الحربين العالميتين، وذهب ضحيتها ملايين الأبرياء، فاعتمدت في التصنيف المجتمعي على مواطنيها القانطين ضمن الحدود الجغرافية، وعلى العقد الاجتماعي الذي يخضعون له ويتوافقون عليه.

لكن المفهوم بقي ناقصًا ومنتقصًا لحقوق الإنسان المقيم في الإقليم، لأسباب عرقية أو دينية أو طائفية، فلم يسمح لتلك الأقليات بأن تصل إلى السلطة أو أن تنال حقوقها كاملة، كما هي الحال في الولايات المتحدة سابقًا، وإيران حاليًا، وغيرهما من الدول.

تاريخانية الإشكالية وشروط صيرورتها

جاءت دولة المواطنة الحداثوية في العقود الأخيرة، لتجعل من شرعة حقوق الإنسان وثقافة المواطنة المعيارَ في التقييم والحقوق، وليس الكمّ العددي العرقي أو الإثني أو الطائفي أو الديني، باستثناء شرقنا البائس الذي لم يدخل الحداثة! ورفض شرائط المعاصرة، لأسباب دينية أو عرقية أو طائفية.

نتيجة تطور الوعي لهذا المفهوم، شاهدنا في أوروبا وصول شخصيات إلى سدة الحكم في بلدانهم، بالرغم من أنهم ليسوا من أبنائها الأصليين، كالنمسا في رئيسها الحالي، وفرنسا ساركوزي، وأميركا أوباما وترامب، ووصل إلى البيت الأبيض رجل ملون ليس من مواليد أميركا، في سابقة أكدت مفاهيم المواطنة وثقافتها دون لوثة الأكثرية والأقلية.

شكل العلاقة بين طرفي المصطلح

العلاقة في هذه الإشكالية متبدلة ومتغيرة تاريخيًا، والأهم أنها متطورة باتجاه إنساني حقوقي، فالدولة الإمبراطورية كانت ذات تصنيف حاد للأكثرية والأقلية، تصنيف غير إنساني، إذ كانت تعتمد على العرق والدين، كما في إمبراطورية كسرى وقيصر والخليفة إسلاميًا، والأكثرية من هم على دين ملكها، ومن لم يكن على دين الملك يكون منقوص الحقوق بشكل سافر.

وعندما آلت الخلافة الإسلامية إلى العثمانيين، واجهتهم معضلة نصّية، إذ إنهم حققوا شرط الدين، ولكنهم لم يحققوا شرط العرق، فانبرى فقهاء السلطة -كعادتهم- لحلِّ تلك المعضلة، فأطلقوا على الخليفة لقب السلطان، مع الاحتفاظ بلقب الخليفة بروتوكوليًا دون تفعيل، إذ إنّ النص المنسوب إلى النبي الكريم: “الأئمة من قريش”، عرَّب الزعامة إسلاميًا، حيث لا يُسمح لغير العربي بالخلافة، وهذا منطق مخالف لروح القرآن الكريم وخطوطه العريضة ([1]).

سمح العرف الإمبراطوري، تاريخيًا، بهذا التقسيم الأكثري والأقلوي دون اعتراض واضح، إلا في بعض الحالات التحررية التي صنفها المؤرخون حركات تمرد، كثورة الزنج أيام العباسيين، وثورة إسبارتاكوس أيام الرومان وسواهما([2]). ولكن هذا العرف، عندما نضعه على مسطرة العدل الإنسانية، لا تبقى له قيمة، ونجده مخالفًا للحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية التي طرحها القرآن الكريم، في خطوة مبكرة ومتقدمة في مجال حقوق الإنسان، إلا أن عقلية الفقهاء آنذاك كانت منحازة إلى السلطة، وأدت تلك الخطوة إلى أن يكون العرف الإمبراطوري أقوى من روح القرآن الكريم ومقاصده الإنسانية التحررية، فلم يعد هناك فرق كبير بين الإسلامية والكسروية والقيصرية! بل تماثل مع العرف الإمبراطوري.

نقد المفهوم في الإمبراطورية الإسلامية!

الإمبراطورية الإسلامية التي كان مسماها الشكلاني “خلافة”، لم تنجُ من الآثار السلبية للعرف الإمبراطوري، من خلال انتهاكات صارخة لحقوق الأقليات الدينية، لتحرمها حقوقًا شعاراتية ومعاشية، الإسلام منها بريء كبراءة الذئب من دم ابن يعقوب. لكن طبقة الفقهاء المرتبطة بمصالح السلاطين والخلفاء استطاعت أن تولد دينًا موازيًا، بعد وفاة صاحب الرسالة! لتشرعن انحرافًا عن الخط القرآني الواضح الرافض للعرف الإمبراطوري، فتختلق مفهوم “أهل الذمة” الذي لم يكن موجودًا، لا في مسماه ولا في تعريفه للمواطن غير المسلم، في مقاصد الإسلام إطلاقًا، لتجعل المجتمع منقسمًا انقسامًا عموديًا، إلى مسلم وذمي، ومسلم عربي وآخر من الموالي، كالبدعة التي سنّها الأمويون. وليغدو هذا التقسيم تَدَيّنًا مقدسًا في الدين الموازي الذي أنشأه فقهاء بني أمية والعباس، ومن سار على نهجهم([3]).

ولو أننا تتبعنا هذه السلوكات الإمبراطورية في انتقاص حقوق الأقليات، لما وجدنا لها أثرًا أيام الرسالة، ولا توجد إشارة لها في صحيفة المدينة القائمة على المساواة والعدالة الاجتماعية وحفظ الحقوق الدينية والمعاشية لكل مكونات مجتمع المدينة. لكن الانحراف حدث مبكرًا، وكانت بدايته في عهد عثمان، عندما انحاز إلى الأسرة الأموية، وخضع لابتزازها وسوّد رجالتها، فابتدعوا تدينًا يخدم مصالحهم، مخالفًا لرسالة الإسلام الحقيقية، ليستمر الانحراف في هذا الشأن حتى يومنا هذا!

في الحديث عن العلاقة بين الأكثرية والأقلية، تقفز أمامنا علاقة المسلمين بالمسيحيين، ففي عهد عثمان (32 هـ) تم إذلال المهزومين عسكريًا من المسيحيين، ووُقِعَت اتفاقية سلام سميت في التاريخ “اتفاقية القبط”، عندما فتح الأخ غير الشقيق لعثمان: عبد الله بن أبي السرح (دنقلا) عاصمة مملكة النوبة المسيحية في السودان المصري، وتضمنت الاتفاقية أن يدفعوا كل سنة (360 رأسًا) من رقيقهم الإناث والذكور من الشباب ([4]).

وعلى الرغم من أن عمر بن الخطاب لم يكن راضيًا عن فتح مصر والسودان، فقد تمّ الفتح بخديعة وحيلة من عمرو بن العاص الذي تأخر عامدًا في مقابلة رسول عمر (الذي حمل توصية بعدم دخول مصر) حتى أنجز مهمة الفتح بالاتفاق مع معاوية، في صفقة سياسية تقوي البيت الأموي وسلطته وتمنح امتيازات لرجاله، وعلى الرغم من تأويلات الفقهاء والمؤرخين بأن اتفاقية القبط، المجحفة إنسانيًا والمخالفة لتعاليم الإسلام، كانت بسلوك اجتهادي فردي، لابن أبي السرح، فإنها تأويلات سلطانية لا قيمة لها في مقاصد الإسلام وإنسانيته، وكلها تأويلات غير مقبولة، لكونها أنتجت ظلمًا بيِّنًا لأهالي مملكة النوبة المسيحيين في خط العدل والحرية التي جاء بها القرآن الكريم، وسنَّت سُنة سيئة نُسبت إلى الإسلام ([5]).

وهكذا، ازداد هذا الخط انحرافًا مع مجيء العباسيين، بالرغم من سماحهم لغير العرب بتولي مناصب مهمة في الإمبراطورية، لكن السلوك تجاه غير المسلم بقي منحرفًا حتى زمن العثمانيين، وما تزال رواسب ذلك الانحراف باقية في ذهنية الإسلامويين. وانتقلت هذه الثقافة السلبية إلى الدائرة الإسلامية ذاتها بولادة الطوائف الإسلامية، فالتشيع السياسي ومطالبته بالسلطة لاقى مظلمة كبيرة من العباسيين ومن جاء بعدهم، ولا يمكن انكار مظالم الشيعة تاريخيًا، من السلاطين المحسوبين على السنة ([6])، لتبدأ في القرن الثالث الهجري ولادة طوائف أخرى كـ “النصيرية”([7])، والدروز وقبلهم الإسماعيلية، ولتستمر ثقافة الاضطهاد للأقليات، حيث لم تنجُ الفرق الإسلامية الناشئة في القرن الثالث الهجري من هذا السلوك، ولكن بقي الخط المسيحي هو المعيار في تلك الانتهاكات.

نقد المفهوم في الإمبراطورية الإسلامية من خلال جهاد “الفتوحات”!

أصبح السلوك الإمبراطوري مشرعنًا فقهيًا، على الرغم من مخالفته الصارخة لمقاصد رسالة الإسلام، لينتقل من الداخل إلى الخارج، ولتأخذ سياسة فتح البلدان الأخرى شكل الجهاد المقدس، وتم تخيير الآخر المفتوح وطنه بالقوة، بين الإسلام والجزية أو القتل! وتلك سُنة لا دليل عليها في الإسلام، إنما هي بدعة فقهية لشرعنة استعمار الآخر، لكن ذلك كان سلوكًا إمبراطوريًا سائدًا عند كل الإمبراطوريات آنذاك، على الرغم من مخالفته لرسالة الإسلام! ولم يقرّه الإسلام إطلاقًا، إنما فرضه فقهاء السلاطين، وكان العامل الاقتصادي وفائض القوة سببًا في تلك (الفتوحات) فضلًا عن التخلص من المعارضة السياسية بزجها في أتون تلك (الفتوحات) ليولد هذا الانحراف مصطلحات ابتعدت أكثر فأكثر عن خط الإسلام؛ فكانت مسميات دار الإسلام ودار الكفر ودار الحرب.

ولكي يُشرعن هذا السلوك الإمبراطوري الاستعماري دينيًا؛ جاء مصطلح النسخ لآيات الدعوة وحرية المعتقد، بآيات القتال والجهاد والجزية! وساهم في شرعنة هذا السلوك، شعبيًا، قتلُ (هرقل) أميرَ معَّان الأردنية لخروجه من المسيحية إلى الإسلام؛ فسنَّ (هرقل) الروم مرسومًا إمبراطوريًا بقتل كل من يدخل الإسلام من أهل الشام([8]).

وعلى الرغم من انتهاء العهد الإمبراطوري، عالميًا، بنهاية الخلافة العثمانية، ومجيء الدولة القومية التي بات المؤمنون بها يقيِّمون أبناء المجتمع عرقيًا، حتى بعد ولادة الدولة الوطنية، بقيت رواسب تلك الثقافة التحيزية غير العادلة قائمة حتى يومنا هذا. وهذا إنْ دل على شيء فإنما يدل على عدم الوعي بتغير شكل الدولة ونمطية تعاملها مع مواطنيها، لتأتي مفاهيم الحداثة في دولة المواطنة والسلوك الديمقراطي في الصراعات السياسية على السلطة، فتخرج إشكالية الأكثرية والأقلية، من مفهومها العددي، إلى مفهومها السياسي، وبولادة الربيع العربي؛ عادت تلك الإشكالية لتوضع على طاولة الحوار والجدل الحقوقي بشكل صارخ، إذ إن الإيمان بضرورة ولادة دولة المواطنة بات سبيلًا للخلاص من مشكلات جمة، على رأسها العلاقة بين الأكثرية والأقلية الذي نحن بصدد الحديث عنه.

العلاقة بين الأكثرية والأقلية (سورية أنموذجًا)

جاء الربيع العربي لتفرض أحداثه مفاهيم الحداثة والمواطنة في حوارات أبنائه، ليعود طرح المسألة بحرية وجرأة، أكثر من أي وقت مضى، وخصوصًا في الحالة السورية، وتحديدًا بعد أسلمة الثورة، والدعم المالي الخليجي لتيارات الإسلام السياسي، التي ما زال عفن سلوك الإمبراطوريات (الخلافة) معششًا في ثقافتها، لتمارس سلوكًا ضد المواطنين غير المسلمين في أماكن سيطرتها، ينتمي إلى حقبة الإمبراطوريات، بل على المسلمين الذين لا ينتمون إلى مدارسهم العقدية، من متصوفة وأشعرية وشيعة.

وعلى الرغم من أن بداية الحراك الثوري قسمت المجتمع عموديًا إلى طائفتين: طائفة تريد الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وطائفة خائفة ومترددة قبلت بتحسين شروط الاستبداد، فإن ظاهرة الأسلمة قسمت الشارع السوري إلى أقسام متعددة ومختلفة، ليعود طرح قضية الأكثرية والأقلية مجددًا. وساهمت النخب الثورية في تعميق هذا الجرح المتعفن والمتخلف، رغم علمانيتها، عندما تم تشكيل الواجهات السياسية الثورية بالاعتماد على مبدأ المحاصصة طائفيًا، وكانت تلكم الطامة الكبرى.

وإذا كان الإسلام السياسي في سورية قد فشل في تجاوز هذه الإشكالية، فإن فشل رجالات علمانيين وطنيين في تكريس مبدأ المواطنة، وسكوتهم على مبدأ المحاصصة الطائفي والعرقي، أثبت أن هذه الإشكالية ليست موجودة في قواعد المجتمع فقط، بل عند نخبه أيضًا.فالمجلس الوطني ثم الائتلاف قاموا على المحاصصة الطائفية التي هي شكل قبيح من أشكال بقاء مفهوم الأكثرية والأقلية، لنتحول -ببلاهة ثورية- إلى ثقافة المحاصصات اللبنانية والعراقية، بدلًا من تأسيس مفاهيم الحداثة للدولة المعاصرة ومتطلباتها.

نقد لسلوك الأقليات

ذريعة الأسلمة ومخلفاتها سلوكيًا مع الآخر، دفعت كثيرًا من المكونات الأخرى إلى انزياحات خطيرة، تشكلت في اتجاهين: الأول عاد إلى حضن النظام، رغم عدم قناعته به. والثاني بقي على التزامه الثوري، ولكنه فضّل الهجرة خارج الوطن ملتزمًا الصمت مع إيمانه بروح وعدالة الثورة، دون أن تجرؤ على مخالفة المزاج العام الإسلاموي. وكان الخطاب الإسلاموي ذو البعد الطائفي “الظاهرة العرعورية مثالًا” مبررًا لذلك الانزياح، لأنه انزاح أصلًا عن الخط الوطني باتجاهات إسلاموية طائفية، لا يمكن أن يقبلها وطني سوري عاقل.

أدى هذا الخطاب الطائفي من بعض السُنة إلى دفع بعض المكونات إلى النأي بالنفس، بسبب الأسلمة والعسكرة، وبقي المكون العلوي، بانزياح أكثريته إلى النظام، رأسَ الحربة مبررًا سوداوية بعض العرب السنّة، ويبقى الخطاب الجهادي الإسلاموي سببًا رئيسًا في ذلك الانزياح، استفاد منه النظام كثيرًا.

وأما المسألة الكردية، فهي واحدة من أكبر القضايا وأكثرها تعقيدًا في المشهد السوري في هذا الباب، وبالطبع لا يمكن وضع الكرد في سلة واحدة، من حيث التقييم، ولكن بمجيء مشروع “الإدارة الذاتية” ودعمه من أميركا، والخلافات التي حصلت بينهم وبين العرب في الجزيرة السورية؛ تأجج الخلاف الكردي-العربي، وأصبح هناك تخوف عربي-سوري، من حدوث انفصال لمنطقة الجزيرة عن الوطن الأم، وهذا ما لا يقبله أي سوري، مع ضرورة إيجاد حل للحقوق الثقافية والسياسية لكل المكونات، لتبقى ثقافة المواطنة وتأطيرها، دستوريًا وقانونيًا، هي الخلاص من إشكالية الأكثرية والأقلية.

توصية

في ظلّ دولة المواطنة التي تحقق الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، لا يمكن أن يبقى لثقافة الأكثرية والأقلية، بمعناها التاريخي، وجود، وهذا الأمر منوط بالوعي الإنساني لنا جميعًا، وإننا نحتاج، من بعد الانكسارات المجتمعية التي حدثت في المأساة السورية، إلى ثقافة إنسانية تعتمد المواطنة مرجعًا، حتى نتخلص من رواسب الحرب السلبية، وكذلك الثقافات التاريخية الخاطئة.

وفي المرحلة الأولى، نحتاج إلى مسألتين: الأولى اللاهوت التحريري. والثانية تيار النقاط البيضاء.

أما اللاهوت التحريري: فأن نتفّق جميعًا -بكل مكوناتنا المجتمعية- على أن هدفنا كلنا الخلاصُ من الاستبداد، ويجب أن نعمل عليه، وأن نترك موضوع الخلافات الدينية والعرقية جانبًا، وأن نجعل أمرها إلى الله سبحانه وتعالى، فلا يستحق جنة السماء من لا يعمِّر جنة الأرض، وبإمكان ثقافة المجتمع المدني ومؤسساته أن تساهم في حل الإشكالية، إذا تم العمل عليها، للوصول إلى حالة سِلم أهليّ ناتج عن قناعة الجميع بضرورته، تُنتج عقدًا اجتماعيًا يضمن حقوق الجميع.

وأما تيار النقاط البيضاء: فبالتأكيد، لا يوجد مكون سوري -مهما كان عدده أو قوته- يمتلك الصواب المطلق، بما يؤمن أو يدَّعي، وهذا يعني بالضرورة أنه لا يوجد مكوّن على خطأ مطلق، وبالتأكيد يوجد في كل مكون من هذه الفسيفساء السورية نقاط بيضاء ومفيدة، نستطيع -إن أردنا الخروج من كهف الأقلية والأكثرية- أن نجمِّع تلك النقاط البيضاء، ونشكل مجتمعًا سوريًا إنسانيًا حداثيًا، يؤسس للأجيال القادمة حياة كريمة، لا يوجد فيها مظلوم أو مقهور أو منقوص المواطنة.

وإذا لم نتعلم من أخطائنا التي مررنا بها في سنوات الحرب، فهذا يعني أننا نعاني حالة خلل مخيفة، وأننا سنورث لأبنائنا عاهات فكرية واجتماعية، لن يسامحونا عليها. فلنبنِ الجمهورية السورية الثالثة بعقد اجتماعي يحترم كل مواطنيها، ويساوي بينهم دستور عصري، يأخذ بالحسبان إنشاء مؤسسات المجتمع المدني الكفيلة بإنهاء ثقافة الأكثرية والأقلية، بمفهومها التاريخي.


[1] ـ استطاع الفقهاء، بهذه الحيلة الفقهية، الخروج من النص المنسوب إلى النبي الكريم بأن “الخلفاء من قريش”. وأعتقد أن هذا النص ليس صحيحًا في نسبه للرسول الكريم، لأنه مخالف للخط العام للقرآن الكريم، وبقي يُقال عن الخليفة العثماني سلطان، وأما لقب خليفة فكان في أدبيات الشارع الشعبي فقط، حتى إن أتاتورك لما بدأ حراكه السياسي طرح إسقاط حق السلطان سياسيًا بقيادة تركيا، وبقاء منصب الخليفة بروتوكوليًا، ولما تعنّت أنصار السلطان خلعه بشكل نهائي، وأعلن نهاية الخلافة، وإقامة الجمهورية التركية بعيدًا عن محيطها في القرار السياسي والوطني.

[2] ـ نرى هذه الحركات الموصوفة بالتمردات على سلطة النظم آنذاك حركات تحرر حقوقية لا سياسية أرادت تحقيق شيء من العدالة الإنسانية.

[3] ـ وهنا أيضًا يمكن الإشارة إلى التشكيلات الاقتصادية الإقطاعية التي مرت على البشرية قاطبة، بحسب ماركس.

[4] ـ راجع قصة ابن أبي السرح، في كتب التراجم والتاريخ الكثيرة، وستجد أن حوله إشارات استفهام كثيرة.

[5] ـ للتوسع في هذه السلوكات الخاطئة والمسيئة للإسلام، راجع كتاب ابن القيم الجوزية (أحكام أهل الذمة).

[6] ـ الإقرار بمظلمة من تشيَّع لعلي بن أبي طالب تاريخيًا لا يجعلنا اليوم نتناسى المظلمة التي يقوم بها التشيع الإيراني في بلادنا العربية، إنْ في العراق بعد احتلاله، وإنْ في لبنان من خلال “حزب الله” أو ما تقوم به الميليشيات الإيرانية في سورية.

[7] ـ ذكرنا هنا المصطلح (النصيرية) بمعناه التاريخي عند نشوئه، لا بمعناه الطائفي عند التيار السلفي اليوم، حيث إن هذا المصطلح يُنسب مرة إلى مؤسس الطائفة محمد بن نصير، وأخرى إلى مكان وجودهم في جبال النصارى بسورية. واليوم أبناء هذه الطائفة لا يقبلون المسمى التاريخي “النصيرية”، بل يفضلون مصطلح “العلويون”، وهذا حقهم.

[8] ـ راجع تلك الحادثة وتداعياتها فقهيًا وسلوكيًا في كتب التاريخ التي تحدثت عنها.