منذ دخول “قانون قيصر” حيّز التنفيذ في 17 حزيران/ يونيو الماضي، أجمع مراقبون على أن القانون لن يؤدي إلى إسقاط النظام السوري، ليس لأن هذا الهدف غير موجود على أجندة السياسة الأميركية فحسب، بل لأن التاريخ الحديث لا يُخبرنا عن عقوبات اقتصادية أدّت إلى انهيار نظام استبدادي ما، لكون العقوبات الاقتصادية لا تدخل ضمن دائرة التهديد المباشر للأنظمة، بخلاف المخاطر السياسية – العسكرية التي قد تشكل تهديدات مباشرة للأنظمة الاستبدادية.
بيّنت التجارب التاريخية أن النخب الحاكمة المستبدة قد تتجه إلى تقديم تنازلات سياسية، كخيار ذرائعي براغماتي، إذا ما شعرت بتهديد حقيقي لكينونتها السياسية (تهديد عسكري خارجي، تهديد داخلي بحدوث انقلاب أو تحالفات جديدة)، وتدرك معها أن تكلفة بقاء الوضع على ما هو عليه يفوق بكثير تكلفة التغيير السياسي.
في ستينيات القرن الماضي، ظهرت نظريتان عُدّتا تأسيسيتين، لكلّ من روبرت دال، ودانكوت راستو، وقد جادل كلاهما بأن التغيير السياسي يبدأ عند النخب الحاكمة التي عملت فيها عوامل العائلة والمصلحة والطبقة، في ظل ظرف تاريخي محدد، للقبول بالتعدد السياسي. وفي كلتا النظريتين، لا يتم الحديث عن العامل الاقتصادي، كعامل مسبب في قرار التغيير، وإنما يتم الحديث عن التهديدات السياسية – العسكرية.
لماذا استبعد علماء السياسة وعلماء الاجتماع السياسي تأثير العامل الاقتصادي في دفع النخب الحاكمة إلى إجراء تغييرات سياسية نحو نظام الحكم التعددي؟!
ببساطة، لأن الضغوط الاقتصادية لا تفعل فعلها في البنى الحاكمة المالكة للموارد المالية التي تمكنها من شراء دعم الجيش والنخب الحزبية والبيروقراطيين ورجال الأعمال، فكيف الحال إذا كانت النخب الحاكمة مربوطة بوشائج عصبية ما قبل حداثية، طائفية أكانت أم قبلية.
هنا، لا تفعل الضغوط الاقتصادية فعلها، وتبدو عاجزة عن إحداث خرق في المنظومة الحاكمة، إلا إذا أدّت الضغوط الاقتصادية إلى نشوء أزمة فقر وجودية تهدد البناء الاجتماعي كله، وحتى في هذه الحالة لا توجد ضمانات تؤكد أن هذه الضغوط ستدفع الشعب إلى الثورة من جديد.
إن ظاهرة السبات التي تباطأت بسببها تعبئة الجماهير ضد النظام القديم تفعل فعلها هنا، ويحتاج الأمر إلى ما هو أكبر من مساوئ رموز السلطة لإزاحتها، حيث لا بدّ من انهيار في الاقتصاد المباشر، يصاحبه انهيار في اعتقاد الناس اليقيني، وعندما نصل إلى ذلك، نكون قد وصلنا إلى نهاية الحقبة ما بعد الثورية، يقول عالم الاجتماع إيمانويل فالرشتاين.
ومع عدم قدرة العقوبات الاقتصادية على تحقيق خرق كبير في جدار صمود الأنظمة، تلجأ الأخيرة إلى ما بقي عندها من رأس المال الاعتقادي، فتعيد نفخ الروح في اعتقاد الناس، عبر تضخيم المخيال الاجتماعي القائل بأن سبب الأزمة الاقتصادية يعود للمواقف العدائية الخارجية، وهو ما يفعله النظام السوري منذ سنوات، وزادت وتيرته خلال الأشهر الثلاثة الماضية.
في ضوء ذلك، ما فائدة “قانون قيصر”؟
إن قراءة تاريخية لنظام العقوبات الذي فرضته الولايات المتحدة، على كثير من الدول، يجعلنا نفهم آلية التفكير الأميركي حيال هذه المسألة.
اتخذت الضغوط الأميركية على الدول الدكتاتورية من أجل الديمقراطية أبعادًا مختلفة، راوحت بين العمل العسكري والعمل السياسي والعمل الاقتصادي.
تدخلت الولايات المتحدة عسكريًا في خمس دول، لوضع حد للنظام القائم واستبداله بنظام حكم ديمقراطي: جرينادا عام 1983، وبنما عام 1989، وهاييتي عام 1994، وأفغانستان عام 2001، والعراق عام 2003.
ولم يكن السبب الرئيسي في التدخل العسكري ناجمًا عن ضغوط في القيم الديمقراطية لدى واشنطن، بقدر ما كان ناجمًا عن تهديدات سياسية كبرى: تهديد شيوعي في حالة جرينادا، الخروج من العباءة الأميركية وتهديد المخدرات في حالة بنما، تهديد شيوعي في حالة هاييتي، تهديد إسلامي في حالة أفغانستان، مصالح استراتيجية في حالة العراق.
ثمّة أمثلة ناجحة على دور العقوبات الاقتصادية في إحداث التحوّل الديمقراطي، فقد أدت العقوبات السياسية والاقتصادية دورًا في تحريك المياه السياسية الراكدة، في عدد من الدول بأميركا اللاتينية، مثل الأرجنتين في ثمانينيات القرن الماضي، حين تم وقف كامل للمساعدات العسكرية والاقتصادية الأميركية، والتصويت ضد معظم طلباتها الدولية من أجل الحصول على قروض. وفي حالة نيكاراغوا، لعبت الضغوط السياسية – الاقتصادية – العسكرية، في ثمانينيات القرن الماضي، دورها في تقوية حركة المقاومة المعروفة باسم الكونترا، وإجبار السندانيين في السلطة على إجراء انتخابات مبكرة. ونجحت الولايات المتحدة عام 1996، عبر ضغوطاتها الكبيرة، في إخراج الدكتاتور جواكين بالاغير قانونيًا من حكم الدومنيكان، نتيجة تزويره الانتخابات.
وفي جنوب أفريقيا، أدت سنوات من العزلة السياسية والعقوبات الاقتصادية، بسبب سياسة الأبارتيد، إلى هبوط أسعار الذهب المحلي وارتفاع الدين العام وتوقف الاستثمار الغربي، وتولّدت قناعة لدى الفئة الحاكمة بأن الحصار الاقتصادي لن يُلغى إلا بإجراء تغييرات سياسية، وهذا ما حدث.
وفي الفلبين، رضخ فرديناند ماركوس للضغوط الأميركية، بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة عام 1985، خسر فيها أمام كورازون أكوينو (أرملة زعيم المعارضة بينيو أكينو الذي اغتاله نظام ماركوس في المطار في أثناء عودته من الخارج)، ثم واصلت واشنطن ضغوطها السياسية والاقتصادية، لمنع ماركوس من محاولة العودة إلى السلطة من جديد.
لم تكن الديمقراطية في ذاتها هي الهدف الأميركي بطبيعة الحال، بل كانت أداة لإنهاء التهديدات السياسية لها، فتحقيق النظام الديمقراطي في هذه البلدان سيبعدها عن الشيوعية، ويجعلها تتحالف مع الولايات المتحدة. غير أن الأمر قد يختلف كثيرًا في الحالة السورية عن كل هذه الحالات؛ فالضغوط الأميركية نجحت في أميركا اللاتينية، لأن الفضاء الجغرافي كان منعزلًا وبعيدًا عن تأثير الدول الكبرى القادرة على التدخل، كروسيا والصين، من جهة، ولأن الدول الدكتاتورية في القارة الأميركية الجنوبية أصبحت بمنزلة جزر في محيط مؤيد للديمقراطية ومتحالفة مع الولايات المتحدة، من جهة ثانية.
وقد بينت الأحداث عجز الولايات المتحدة في ممارسة ضغوطها لإنهاء بعض الأنظمة الاستبدادية أو الضغط نحو تشجيع الديمقراطية أو وقف المجازر الإثنية – الدينية، كما هو الحال مع ميانمار (بورما سابقًا) وكوريا الشمالية وبيلاروسيا وأرمينيا، حيث عرقلت الصين وروسيا العقوبات الأميركية، وأمدّت هذه الأنظمة بالدعم السياسي والاقتصادي الكافي لجعلها تصمد أمام العقوبات الأميركية.
تفشل العقوبات الاقتصادية الأميركية، عندما تفتقر إلى نفوذ كاف على الأنظمة الاستبدادية التي تتلقى دعمًا من قبل دول كبرى ودول مجاورة، وتنجح العقوبات الاقتصادية بالمقابل، إذا لم يتحقق الشرطان السابقان: (دول كبرى، دول إقليمية) تدعم الأنظمة الاستبدادية.
عقب انتخاب روبرت موغابي رئيسًا لزيمبابوي، في عملية تزوير واضحة؛ فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات اقتصادية قاسية، في وقت علق الكومنولث البريطاني عضوية زيمبابوي، لكن رئيس جنوب أفريقيا تهايو مبيكي رفض التعاون، فبقي موغابي في السلطة.
هذا تمامًا ما يحدث في سورية منذ سنوات، فالعقوبات الأميركية – الأوروبية، قبل “قانون قيصر” وبعده، لن تؤدي إلى النتائج التي حدثت في أميركا الجنوبية، بسبب وجود دولتين كبيرتين تدعمان النظام السوري وتعرقلان العقوبات الأميركية قدر المستطاع (روسيا، الصين)، وبسبب وجود دول إقليمية داعمة للنظام السوري، إما علنًا أو سرًا (لبنان، العراق، مصر، الجزائر، السودان، الإمارات).
بطبيعة الحال، يدرك صناع العقوبات الاقتصادية في الولايات المتحدة هذا الوضع الإقليمي والدولي المحيط بسورية، ويدركون أن العقوبات الاقتصادية لن تقود وحدها إلى إنهاء النظام السوري، وقد قال السفير فريدريك هوف الذي شغل منصب المستشار الخاص حول الانتقال السياسي في سورية خلال فترة إدارة الرئيس باراك أوباما: “أن تقتصر جهود الولايات المتحدة على هذا القانون وحده للوصول إلى تسوية سياسية حقيقية للنزاع، سيجعل الحزمة الجديدة من العقوبات ذات تأثير ضئيل جدًا ومتأخرًا جدًا”.
ومن المهم ملاحظة أن الولايات المتحدة لا تضع الديمقراطية هدفًا في ذاته داخل سورية، ولا حتى كأداة، كما كان الأمر في الدول التي تعدّ ضمن الحديقة الخلفية للولايات المتحدة (أميركا اللاتينية) أو في الدول الآسيوية لإبعادها عن الشيوعية، ليس هذا هدفًا أميركيًا، ولذلك رفضت واشنطن تقديم الدعم العسكري الكافي لفصائل المعارضة لتحقيق الغلبة العسكرية. إن كل ما تريديه الولايات المتحدة هو منع النظام من العودة للحكم، كما كان الأمر قبل 2011، لأن ذلك سيجعل الجغرافية السورية أداة وساحة لإيران وروسيا.
ولذلك، فإن الهدف الأميركي من العقوبات الاقتصادية هو هدف بعيد المدى، يؤدي على المدى الطويل إلى إرهاق النظام السوري وحلفائه، من أجل إدخال فرقاء جدد في منظومة الحكم، بما يؤدي إلى إبعاد سورية قدر المستطاع عن المحور الروسي – الإيراني، بغضّ النظر عن الديمقراطية أتحققت أم لا، وقد تقبل الولايات المتحدة بنوع من الليبرالية على الصعيد الاجتماعي – الاقتصادي، وهي وجهة نظرٍ سادت، في النصف الثاني من القرن العشرين، داخل الدوائر السياسية والأكاديمية في أميركا.
وترى هذه الدوائر أن الديمقراطية إذا كانت قد تؤدي إلى تهديد المصالح الأميركية، فالأفضل الإبقاء على أنظمة الحكم، مع إدخال نفحات ليبرالية على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي، لتخفيف ضغط الشارع.
في الحالة السورية، بسبب تحالفات النظام الواسعة، لن تتحقق الأهداف الأميركية من البوابة الاقتصادية وحدها، وإنما يجب أن تترافق بضغوط قانونية قضائية عبر المحاكم الدولية، وباستمرار الضغوط السياسية مع تلويحات عسكرية ولو كانت متقطعة.