عندما صاغ توماس هوبز، منتصف القرن السابع عشر، نظريته حول العقد الاجتماعي، لم يكن يقصد ما قد يفهمه المرء عندما يسمع كلمتي “عقد” و”اجتماعي”؛ فالعقد ليس عقدًا مكتوبًا يقوم كلّ فرد من أفراد المجتمع بتوقيعه والموافقة عليه باختياره ورضاه، بل هو عقدٌ يتم التوقيع عليه بحكم الولادة، فبمجرّد أن تولد في مجتمع معيّن، تكون قد وقّعت سلفًا على العلاقات التي تحكم المجتمع ذاته، وتحكم وجودك في المجتمع، وتضبط أداءك وحضورك وموقعك في البنية المجتمعية.
وكلمة “اجتماعي” كذلك، إذ لا تحيل إلى ما يفهمه المرءُ عند سماعها، وهو مبنيّ غالبًا على ذلك الفصل القائم في العلوم المعاصرة، بين علم الاجتماع وعلم السياسة، على سبيل المثال، لأن العقد الاجتماعي هو أصلًا عقد سياسي بين السلطة والمجتمع، يتعهّد من خلاله أصحاب السلطة بتقديم الحماية للمجتمع الذي يريدون حكمه، مقابل أن يلتزم المجتمع باحترام القوانين التي تشرف عليها السلطة، وتحدد حقوق وواجبات الناس تجاه بعضهم وتجاه السلطة الحاكمة.
سلطة الدولة هي “الليفياثان” الذي تحدث عنه هوبز، والذي يحمي المجتمع ذاته من حال الطبيعية التي يقتل فيها القويّ الضعيفَ، ويحارب فيها الجميع ضدّ الجميع، ومن ثم تحمي المجتمع من الغزو الخارجي الذي يهدد سيادة الدولة وحرية المجتمع التي يصونها العقد الاجتماعي. ولكن عندما يفشل أصحاب السلطة في حماية المجتمع من حال الطبيعة عبر تطبيق القوانين، أو يفشلون في حماية المجتمع من أعدائه “خارج السيادة”؛ يبطل العقد الاجتماعي، وتحدث الثورات التي تقلب السلطة، وتبني عقدًا اجتماعيًا جديدًا، قائمًا على سلطة جديدة، وقوانين جديدة، تهدف إلى حماية المجتمع من جديد.. وهكذا.
إذا نظرنا إلى العقد الاجتماعي الذي تم بناؤه منذ وصول حافظ الأسد للسلطة، فسنجد أنه عقد قائم على ركيزتين أساسيتين: هما الخوف والكذب. الخوف يدفع الناس إلى الكذب، والكذب يعزز حقيقة السلطة الكاذبة أصلًا، ليحوّلها إلى سلطة الحقيقة.
لم يكن الكذب مسألة عارضة في “جمهورية الأسد”، بل هو مؤسس تلك السلطة منذ اللحظة الأولى لانطلاقها، مع الانقلاب العسكري الذي سُمّي “حركة تصحيحية”، ومن ثم هزيمة حرب تشرين التي سُميت “حرب تشرين التحريرية”، فكذبة الحركة التصحيحية أسست للعقد الاجتماعي من الداخل، وجعلت القوانين الحاكمة لعلاقات الناس فيما بينهم، وعلاقتهم بالسلطة، تبدو في الظاهر قانونية، على الرغم من أنها لا قانونية ولا شرعية في العمق، كونها كانت تعبيرًا صريحًا عن الانقلاب العسكري الذي قاده حافظ الأسد ومصطفى طلاس، وكذبة الانتصار في حرب تشرين أسست لمبدأ الحماية الكاذبة للمجتمع من أعدائه في الخارج، حيث بدت السلطة أنها قد حمت المجتمع وحرّرت أرضه ظاهريًا، بينما هي ثبتت احتلال أرضه “الجولان”، وعقدت سلمًا وسلامًا غير معلن وشبه أبديّ مع أعدائه، وجعلت المحتلّ ذاته من أكبر المدافعين عن سلطة الأسد، خلال نصف قرن من الحكم.
منذ بداية تلك المرحلة التأسيسية، إذًا، لم يعد الكذب مسألة عارضة في المجتمع، بل بات شرط حياة وبقاء واستمرار لجميع الناس الذي وقّعوا على ذلك العقد الاجتماعي، أي جميع السوريين دون استثناء. (مرة أخرى التوقيع هنا كان بالمعنى الرمزي وليس الواقعي). والكذب بات هو الواقعية السائدة، التي يكذب من خلالها الجميع على الجميع، ويشارك فيها الجميع، تحت خطر الاستبعاد الاجتماعي، والاعتقال السياسي، والتخوين الوطني. لقد باتت الحقيقة فعلًا ثورية؛ إذا أردنا استخدام تعابير إلياس مرقص، لكن ثمنها ليس أقل من الموت أحيانًا، إن لم يكن التعفن في السجون بلا محاكمة، أو بمحاكمة صورية “كاذبة”، بقدر ما هي منسجمة كليًا مع الكذبة الجوهرية التي أقامت السلطة ذاتها عليها منذ البداية.
العقد الاجتماعي المبنيّ على الكذب لم يعد إذًا مجرد سلطة تكذب على الناس، بل أصبح الناس مشاركين فاعلين في بناء ذلك العقد، يحصّلون الامتيازات من خلاله، ويقومون بتربية أطفالهم على أساسه. وكلّما زادت مبالغتهم في الكذب أكثر؛ كانوا أقرب للسلطة أكثر، وكانوا أكثر تحصيلًا لامتيازات العقد الاجتماعي الذي تشرف عليه وترعاه السلطة. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن الدولة هي مجموع مؤسساتها، وهي جهاز السلطة المنتشرة في جميع تلك المؤسسات، فسيصبح واضحًا ما قاله بدقة ممدوح عدوان يومًا بأنهم “أي السلطة” يكذبون حتى في النشرة الجوية، لكن ما لم يفكر فيه عدوان هو أن السوريين لم يكونوا خارج اللعبة، أي لم يكونوا يشاهدون كذب السلطة من الخارج أو كمراقبين خارجيين، بل كانوا منغمسين كليًا، ومشاركين فاعلين في كذبة السلطة، حيث إن الخروج عن كذب السلطة سيشعرهم مباشرة بانعدام الأمان والاغتراب عن المجتمع، لأن شرط العقد الاجتماعي الجوهري هو الكذب، في المدرسة، في الجامعة، في المستشفى، في الكلية العسكرية، في جهاز الشرطة، في البيت بين أفراد الأسرة، في العلاقات العاطفية، في الموسيقى والأدب والفن والتاريخ والجغرافيا والرياضة.. إلخ. المدرّس سيكذب على تلاميذه، لأن قول الحقيقة سيعرضّه للطرد أو الملاحقة والاستجواب، أو حتى نبذه من قبل الجميع، والضابط سيكذب على عناصره، وإلا فلن يصبح ضابطًا، والمثقف على قرّاءه، والأب على أطفاله، والموظّف على عملائه وعلى رؤسائه، والطبيب على مرضاه (تقارير الوفاة مثلًا)، وبالجملة، الكذب هو السائد فعليًا في كلّ مجال من مجالات الحياة، حيث يصبح الأمر عبارة عن بنية اجتماعية اقتصادية سياسية مغلقة وشبكية، تصيب كل تفصيل من تفاصيل الحياة، وليس هناك ما هو أصعب على الناس العاديين من مقاومتها، لأنها منتشرة في كل مكان ومجال، ولا يمكن الهرب منها، من دون النبذ الكامل أو الجزئي خارج العقد الاجتماعي، أي خارج المجتمع وخارج الوطنية التي تحتكرها الدولة.
من الطبيعي أن يؤدي العيش في الكذب على هذا النحو إلى أن يفقد الجميع الثقة بالجميع، لأن كل شخص يعرف من ذاته أن مضطر إلى الكذب ليعيش ويزدهر ويبعد نفسه وأطفاله وعائلته عن الخطر، ويعرف أن الآخرين مضطرون مثله إلى الكذب على نحو دائم، وهذا ما يفسر ظاهرة أن محققي الأمن السوري، على سبيل المثال، لا يمكن أن يصدّقوا المعتقل، مهما قال، وهم واقعيًا محقّون في ذلك، ولذلك فعندما يعذبون معتقلًا، يعذبونه بكل طاقة الحقد والقهر التي لديهم، لكي يستخرجوا منه حقيقة ليست موجودة، وإن وجدت فهم لا يصدّقونها، وهذا ما كان ينتهي عادة بأن يوقّع المعتقل على لائحة الاتهام التي يريدها المحقق. وهذا ما يفسر أيضًا لماذا يكون أول ما تتهم به السلطة معارضيها هو الخيانة والعمالة، لأن الأصل في المعادلة هو أن المواطن كاذب وخائن حتى يثبت وطنيته، ولكن إثبات الوطنية والولاء هو مسألة لا حدود نهائية لها، لأنها قائمة أصلًا على الكذب وانعدام الثقة، وعلى معرفة السلطة بأن الجميع يُظهر عكس ما يبطنه، وبالتالي فالجميع خونة محتملون، عندما تسنح لهم الفرصة. لكن العيش في الكذب وفقدان الثقة يفسّر أخيرًا سلوك المعارضة، وهو السلوك الذي تجلّى على أوسع نطاق ممكن بعد الثورة، بالرغم من أنه لم يبدأ معها، بل قبلها بعقود، فانعدام قدرة السوريين على العمل الجماعي نتج أصلًا عن عقد الكذب الاجتماعي الذي عاشوه طوال عقود، وصنع بنية تفكيرهم وسلوكهم حيال بعضهم، وهو نتيجة لانعدام الثقة الهائل والفردية المنحطّة والهدّامة التي بناها حافظ الأسد “باني سوريا الحديثة”.
مثلما هو مُتوقع، عندما يقوم العقد الاجتماعي بالكامل على الكذب، سيتشكل مسار الانفصال عن الواقع، والانفصال عن الواقع يقوم على إنكاره، وإنكار الواقع لا يؤدي إلى حل مشكلاته، بل إلى تراكمها، ولذلك رأينا كيف أن كل مشكلة صغيرة أو كبيرة حاولت السلطة حلّها، زادت حدتها، الفساد، التعليم، الفقر، الصحة؛ وبعد الثورة، التظاهرات والاحتجاجات، السلاح والأسلمة، القتل والطائفية.. حرفيًا كل شيء. ولذلك، نجد كيف أن سوريي الداخل اليوم باتوا يعيشون في اللامعقول بطريقة لا تطاق، ولا تكفّ عن الانحدار في لا معقوليتها ولا إنسانيتها وخروجها عن كل شرط إنساني، وكل ذلك في الوقت الذي تزيد فيه السلطة من بلاغتها، وتمضي في انتصاراتها وانتخاباتها وحديثها عن السيادة الوطنية، وكأن شيئًا لم يكن. لكن نهاية ذلك المسار باتت واضحة للجميع، وهي تمضي فعلًا نحو جعل سورية، كبلدٍ، وكأنها لم تكن، وكأنها كذبة.
عزيزي.. أسمح لنفسي أن أسترعي انتباهك إلى تفصيل يبدو لي شديد الأهمية. العقد كما نعلم جميعًا يقوم بين طرفين. أساسه الأول التراضي بينهما. ومن حيث المبدأ، لا يخرج العقد الاجتماعي عن هذا التوصيف. لذلك، حين ينتفي التراضي، يكتسب العقد صفة أخرى ويصير عقد إذعان. هذا الأخير يعني أن أحد طرفي العقد لم يكن راضيًا، وأنَّ عليه أن يذعن للطرف الآخر. ولذلك لا يمكنني أن أقول إن العقد الاجتماعي قام في سورية بين طرفين متراضيين، رغم كل المبررات التي تسوقها في مقالك للبرهنة على أنه كان عقدًا بالتراضي ما دام الناس قد أذعنوا بحكم الخوف ومارسوا الكذب. صحيح أن الخوف أدى إلى الإذعان لكن الإذعان لا يعني القبول، وانتفاء القبول يعني عيبًا أساسًا في العقد. ولا يمكن أن ننسى أن هناك من رفض الإذعان ودفع الثمن: سجنًا أو قتلًا أو هجرة، ثم انتهى الأمر إلى رفض شامل للإذعان..
العزيز الدكتور بدر، شكراً لتعقيبك الذي يؤشكل ما هو إشكالي أصلاً، سأسمح لنفسي أن أكون “هوبزياً” قليلاً، وأدمج هوبز مع فوكو لأقول: إن الإذعان متداخل جداً مع التراضي، أو بكلام آخر، الإذعان موجود داخل كل تراضي، ففي الحالة السورية على سبيل المثال لم يبدأ الموضوع بالإذعان بالضرورة، لأن جزء كبير جداً من الناس أيدوا وصول حافظ الأسد للسلطة واحتفلوا به كعسكري وضامن للاستقرار بعد عصر الانقلابات، وهؤلاء الناس “وهم الجزء الأكبر من المجتمع” هم استمرار لظاهرة رؤية العسكر كمخلصين منذ زمن النكبة الفلسطينية وانطلاق فكرة تحرير الأراضي المغتصبة، المعنى هنا، أن الناس قد يكونوا بدأوا بالتراضي، ولكن لأن التراضي قام على كذب أصيل قامت به السلطة، انتهت المسألة بالإذعان، والإذعان أعاد إنتاج الكذب اجتماعياً، فتحول الناس من متلقي سلبي للكذب إلى فاعل في إنتاجه وإعادة إنتاجه وهو ما أسميته “العقد الاجتماعي على الكذب”.. إذاً المسألة ليست تحميل المجتمع كلياً مسؤولية نظامه السياسي وعقده الاجتماعي، ولكن من جهة أخرى مواجهة الذات “الفردية والاجتماعية” بمسؤوليتها ومشاركتها الفاعلة ضمن العقد وفي صناعته، ولذلك فإن رافضي العقد والذين دفعوا الثمن كما ذكرت أنت، كانوا مدانين ليس فقط من وجهة نظر السلطة، بل من المجتمع الموقّع على العقد أيضاً، وسواء أسميته عقد إذعان أو تراضي فهو سيبقى “عقد اجتماعي سوري”، هو ما علينا تغييره. تحياتي.
عزيزي.. شكرًا لسعة صدرك. لكن المشكلة والإشكالي يظلان مع ذلك قائميْن..لاسيما وأنك تقول بأنك ستكون “هوبزيًا” قليلًا وستدمج مع هوبز فوكو. لكن هوبز كان من أنصار الملكية المطلقة، وهو ما يمكن أن نطلق عليه بلغتنا اليوم: الاستبداد، أما فوكو فهو ديمقراطي عاش وفكر وكتب في أوربا الديمقراطية..
العقد الاجتماعي في مفهوم هوبز عقد إذعان بحكم الملكية المطلقة التي كان من دعاتها. والإذعان لديه لا يفترض الرضا لأنه يبقى إذعانًا، أي خضوعًا مطلقًا لما ليس منه بد في ظل الحكم المطلق، في حين أن الإذعان في الدولة الديمقراطية ينطوي بكل تأكيد على الرضا لأن ممثلي الشعب : النواب والحكومة المنبثقة عنهم، هم من أوجدوا عقود الإذعان التي تفرضها الدولة في إطار تنظيمي بحت.
في عصر هوبز الحاكم المطلق يضع العقد الاجتماعي ولا خيار لرعيته إلا في الإذعان له. التراضي معدوم حتى افتراضيًا. في عصر فوكو العقد الاجتماعي هو إرث الثورة الفرنسية وسقوط الملكيات المطلقة وحلول الملكيات الديمقراطية محلها، وكان ممثلو الشعب هم الذين وضعوه. ومن ثمَّ فكل ما ينبثق عن هذا العقد الاجتماعي القائم من عقود تنظيمية تحررها مؤسسات الدولة الديمقراطية هي عقود إذعان تفترض الرضا أو تنطوي عليه لأنها على وجه الدقة صادرة عن الممثلين الشرعيين لمن يُطلب إليهم الإذعان لها.
العزيز بدر، شكراً لك مجدداً.. الرابط الذي قصدته بين هوبز وفوكو هو رابط السلطة، فأنا قلت “سأكون هوبزياً” لكي أفصل طرحي عن طرح روسّو و”الذي يبدو خلفية لطرحك حول فهم العقد الاجتماعي” فعند هوبز الأصل في الطبيعة البشرية هو الشر “على عكس روسو”، والأصل في العلاقات البشرية هو الجميع ضد الجميع حتى يأتي العقد الاجتماعي الذي يضمنه “الليفاثان” أي سلطة الدولة الملكية، لكي يضبط قوى الناس ويوقف قتلهم لبعضهم.. أما السلطة عند فوكو فهي لم تعد بيد ملك أو نظام حكم لوحده، بل منتشرة في كل شيء والجميع يشارك بها لأنها تمثل الايبستيم اللاواعي لمرحلة معينة، فالسلطة عنده ليست قوة مباشرة لجسم سلطوي، بل هي اليوم في اوروبا تطبيع normalization زائد مراقبة surveillance زائد اختبارات دائمة examination ، ونحن في سوريا اليوم نملك كلا النموذجين معاً، الهوبزي والفوكوي.. بالمعنى الهوبزي لدينا نظام “ملكي” وبالمعنى الفوكوي الناس مشاركة في صناعة السلطة ذاتها وليست سلبية متلقية فحسب.. إذاً المسألة ليست إما إذعان أو تراضي، بل هي اذعان وتراضي معاً، والقول أنها مجرد إذعان لا أراه مفيداً بل يعمي عن رؤية الحقيقة كاملة، وكثيراً ما يستخدم للتبرير الدائم لفشلنا العام عبر إلقاء المسؤولية على أي طرف، المهم ألا نكون نحن فيه وداخله.