من الواضح أن جزءًا مهمًا من الشارع التونسي، وهو جزء بارز ونشيط في الشارع التونسي اليوم، يتعامل مع الرئيس قيس سعيد على أنه من خارج النظام، فيرى أن القمع الذي تعرضت له التظاهرات السلمية المناهضة للحكومة وما شهدته من اعتقالات وانتهاك للحريات، وأن التردي الصحي (أزمة كورونا التي كانت الأسوأ بين الدول الأفريقية) والاقتصادي (أزمة المديونية فقد بلغ حجم الدين 100% من الدخل الوطني)، هو من مسؤولية البرلمان والحكومة من دون الرئيس، وأنه لو كان الأمر للرئيس لما عانت تونس هذا الذي تعانيه. ينبع هذا الاعتبار الشعبي من أن الرئيس بلا حزب، بل مضاد للأحزاب التي يزداد النفور الشعبي منها، ليس في تونس فحسب، بل في مجمل البلدان العربية التي تشهد حراكات شعبية. وهذا يطرح مشكلة فعلية على المضيّ في مسار ديمقراطي.
من المفهوم أن يعاني البلد، في مرحلة تكريس الديمقراطية بعد استبداد مديد، أزماتٍ عدة أهمّها ما يتعلق بالاقتصاد من جراء حذر رؤوس الأموال في مراحل الانتقال، وعداء أرباب العمل الناشئين في بيئة استبداد والمتطبعين بآليات العمل في نظام الاستبداد، هذا فضلًا عن الضغوط الخارجية الممكنة. ومن المفهوم أن يعاني البلد حالة بروز صراعات حزبية كانت مكبوتة، واضطرابات وتعبيرات شعبية كانت مقموعة… إلخ. ومن المرجّح أن يؤدي مثل هذا الحال إلى نفور الناس ويأسهم، بعد أن منّوا أنفسهم بآمال عريضة، ومن ثم أن يميلوا إلى نظام أكثر صرامة. يمكن أن يميل الناس، تحت ضغط التدهور الاقتصادي والتعب من الصراعات الحزبية وعمليات التعطيل غير المعهودة، إلى التخلي عن حرياتهم التي ثاروا وضحّوا لأجلها، لصالح “حكم قوي”. هذا منشأ النكوص الاستبدادي الشائع، الذي شهدناه في مصر، ثم ندم عليه المصريون، ونشهد بوادره في تونس اليوم. في كلتا الحالتين، كان النكوص مشفوعًا بتأييد شعبي مهمّ.
مشكلة تونس اليوم أن أقوى طرفين فيها يشكلان خطرًا على الديمقراطية الفتية. الأول هو الرئيس الذي يعادي الأحزاب لصالح ديمقراطية “المجالس البلدية”، في حين أن الأحزاب من العناصر الأساسية في النظام الديمقراطي، ولا يوجد تعارض بين المجالس المحلية والأحزاب السياسية. الثاني هو حزب النهضة الذي لا تتوافق مرجعيته الإسلامية مع الديمقراطية في النهاية، لأنه يتطلع إلى بناء مجتمع على صورة مسبقة تستبعد الشركاء، فتبدو له الديمقراطية مرحلة مفروضة يسعى، في عمق برنامجه الإسلامي، إلى نسفها. كلا الطرفين خطر على بناء قواعد ديمقراطية، ومن أهمها خلق قدر من الثقة لدى الشعب بالأحزاب وبالطبقة السياسية.
التشظي الكبير في تركيبة البرلمان التونسي المنتخب في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، يشير إلى فقر دم حزبي في البلاد، على كثرة الأحزاب، وإلى قلّة اعتبار الناس للأحزاب، حتى الحزب الإسلامي العريق (حركة النهضة) الذي يشكل أكبر كتلة برلمانية، ولكنها كتلة صغيرة مع ذلك (52 نائبًا من أصل 217). ضعف كتلة النهضة البرلمانية، إضافة إلى التراجع الكبير في شعبية الإسلاميين عمومًا، عقب محاولاتهم ركوب موجة الثورات الديمقراطية العربية، بدلًا من الاندماج فيها، جعل حركة النهضة في تونس ضعيفة أمام “انقلاب” الرئيس، وعاجزة عن حشد رفض شعبي ينتصر لرئيسها الذي منعه الجيش من دخول مبنى البرلمان، والذي ناشد الناس النزول إلى الشارع لإحباط الانقلاب، على الطريقة التركية، كما قال، ولكن من دون جدوى.
لا يمكن لقيس سعيد أن يكون عبد الفتاح السيسي؛ لأنه من خارج مؤسسة الجيش أولًا، ولأنه بلا تنظيم سياسي يسانده ثانيًا، والأهم لأنه ليس ابنًا شرعيًا للنظام القديم، فيمكن لقوى النظام القديم الذي لم يرحل، الاطمئنان إليه. في أحسن حال، يمكنه أن يكون سعيد واجهة لحكم عسكري، ولكن لا يبدو أن للجيش التونسي شهية للحكم، كما حال نظيره المصري. على هذا؛ لا يستطيع الرجل أن يكون “الرجل القوي” الذي قد يريده الجزء من الشارع التونسي الناقم على تركيبة الحكم الجديد وعلى الصراعات العبثية في البرلمان، في ظل التدهور الاقتصادي والصحي.
انقلاب الرئيس، أو “الدكتاتورية الدستورية”، كما يسمّيها، لا يملك أن يحسّن من الحال الاقتصادي للبلد، وهذا، إضافة إلى النقمة السياسية التي سببها الانقلاب الذي من المرجح أن يزيد من حال التوتر في البلاد، سيثبت في ذهن العامة حقيقة أن الأفراد، مهما كانوا نزيهين ونظيفي اليد، لا يمكنهم حل المشكلات المعقدة لبلدٍ عانى طويلًا الاستبداد وتبعاته الاقتصادية والاجتماعية. وأن العمل السياسي المنظم، والتنافس الحزبي، جزء لا غنى عنه في الآليات الديمقراطية التي لا يناضل الناس من أجلها إلا لأنها أفضل وسيلة حكم لتحصيل حقوقهم والحفاظ عليها، فيما يقوم الرئيس التونسي بتعليق الديمقراطية لتحصيل حقوق الناس، مستخدمًا لغة خطابية خاوية “فلوس الشعب تعود للشعب”، و”نحن دولة لا نتسوّل” … إلخ. هذا مسار يفضي في النهاية إلى عكس ما يراد له.
من جهة أخرى، على الرغم من اعتدال حركة النهضة وسعيها المتماشي مع المعايير الديمقراطية، من الواضح أنها تشكل مصدر قلق في الحقل السياسي التونسي، وفي الشارع أيضًا. قسم مهمّ من اليسار التونسي، ومن المنظمات الحقوقية، “تفهّم” الانقلاب، واكتفى بالتحذيرات والمطالبة بضمانات، كما جاء مثلًا في بيان المكتب التنفيذي الوطني للاتّحاد العام التونسي للشغل، وبيان الجمعية التونسية للقانون الدستوري. يمكن القول إن هذه مشكلة يسارية في منطقتنا. الاعتقاد بأن الإجراءات القسرية هي الطريقة الفعالة ضد التنظيمات الإسلامية، اعتقاد خاطئ، لا يقود إلا إلى توفير بيئة مناسبة تتغذى عليها ميول الإسلام السياسي، حتى أكثر اتجاهاته تطرفًا.
الخروج من الدائرة المفرغة، التي تبدأ بسيطرة الجيش وتنتهي بسيطرة الإسلام السياسي، إنما يكون عبر الخلاص من خللين: الأول هو الكفر بالأحزاب والبحث عن خلاص عام عبر أفراد، كما كان حال التونسيين مع قيس سعيد؛ والثاني هو إيمان الإسلاميين أو تسليمهم بأنهم يحملون في رؤوسهم “خلاص الأمة” بالخلاص من الآخرين، فينظرون إلى الديمقراطية على أنها شرّ لا بدّ أن يتمكنوا في كنفه كي يقتلوه، وهذا ما لا يخفى على خصومهم، وما يثير القلق والنفور الدائم منهم.
لا ريب في أن أصداء العرض التونسي تتردد في الأرجاء السورية، وعلى الرغم من الفروق الكثيرة، يمكن الاستفادة منه، بوصفه تجربة متقدمة.