المصدر | مجلة قلمون للدراسات والأبحاث العدد الأول – أيار / مايو 2017 |
ملف العدد | فكر الفيلسوف صادق جلال العظم |
اسم الكاتب | أحمد برقاوي |
رقم الصفحة | 59 |
المحتويات
ينتمي صادق إلى الفلاسفة الماركسيين -اللينينين، من دون أية محاولة منه للقيام بعملية نقد وانزياح، وهذا ما حدد وعيه الفلسفي بتاريخ الفلسفة كله. بل إنه قد مارس النقد الفلسفي تأسيسًا على أطاريح الماركسية – اللينينية في صورها السوفياتية الأخيرة في كتابه السجالي مع عدد من الفلاسفة المعاصرين – «دفاعًا عن المادية والتاريخ» الذي أصدره عام 1990.
وإذا كان صادق مقلًا في الكتابة عمومًا فإنه في الفلسفة مقل جدًا. فإذا تركنا كتابه «دراسات في تاريخ الفلسفة الغربية الحديثة»، وهو كتاب أكاديمي – مدرسي يدافع في فصله الأخير عن الحتمية، وبعض مقالات عن «كانت»، فإن الكتاب الوحيد الذي يعبر عن وعي صادق الفلسفي هو «دفاعًا عن المادية والتاريخ»، وهو كتابه الفلسفي الوحيد.
ولقد أخذ الكتاب صيغة المحاكمة لكل من ليس بماركسي – لينيني من الفلاسفة، ولكل من شذ من الماركسيين عن جادة الصواب.
ولهذا فإن القارئ لا يجد عناءً في رسم صورة واضحة لوعي صادق الفلسفي، ولكنه يجب أن يبذل جهدًا لالتقاط كيفية تعين هذا الوعي بوعي الفلسفة الحديثة والمعاصرة.
«دفاعًا عن المادية والتاريخ» هو دفاع ضد خصوم المادية والتاريخ من الفلاسفة، والفلاسفة جميعهم في الكتاب خصومهما، وهذا ما سنراه. لذا، فالكتاب الذي أخذ صورة حوار بينه وبين محاور يدعى قيصر، هو كتاب محاكمة صارمة وشديدة لعدد من الفلاسفة المتهمين بأنهم ضد المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية الذين نالوا علامة الصفر في النهاية، فجميعهم من دون استثناء لم ينجحوا في فهم المادة والطبيعة والفكر والمعرفة والتاريخ والحرية والمجتمع والإنسان.
ومن الطبيعي أن تكون عدة صادق المفهومية هي العدة المفهومية للمادية التاريخية والديالكتيكية في صورتها الكلاسيكية بمثل ما أشرت سابقًا. ولهذا جرد المفهومات المتداولة في حقل الفلسفة الماركسية- اللينينية كلها، بمثل مفهومات: المادية والمثالية والمادية الميكانيكية والمادية الديالكتيكية والمثالية الموضوعية والمثالية الذاتية والحتمية والتناقض والكم والكيف والصراع الطبقي والفلسفة البرجوازية والبنية التحتية والبنية الفوقية والتحريفية، وغيرها.
ولأن وعي صادق عمومًا – السياسي والأيديولوجي والفلسفي والديني – يتكون عادة بالخصام مع الآخرين، ولأن الآخرين مصدر «إلهام لأفكاره ومنبع مفيد لآرائه» بحسب تصريحه، فإنه في «دفاعًا عن المادية والتاريخ» حشد جمهورًا كبيرة من الفلاسفة الذين زودوه بمادة النقد، وهو على معرفة عميقة بهم وبمؤلفاتهم.
فصادق بعد عرض الفكرة المركزية لكل فيلسوف، ينبري للتعبير عن اختلافه معه، ونقده المنطلق من لاماركسية المنقول، فلنتابع صاحب «دفاعًا عن المادية والتاريخ» في محكمته الفلسفية التي عقدها لمحاسبة جمهورٍ من الفلاسفة متنوعي المشارب.
1- تاريخ الفلسفة
تأكيدا لعلاقة الفلسفة بواقعها الاجتماعي يرى صادق «أن أبرز ما تتصف به تواريخ الفلسفة الهامة هو إنها لا تاريخية بالمعنى الجدي للعبارة وليس بالمعنى التسجيلي التعاقبي»([1])
ولكن هذا لا يمنع من أن المنهج التاريخي من شأنه أن «يغلق الأبواب أبدًا في وجه أي نوع من أنواع الدراسات الفلسفية العلمية التي تستخدم مناهج غير تاريخية في معالجة موضوعاتها»([2]).
ولكن كيف يتعين المنهج التاريخ في دراسة تاريخ الفلسفة عظميًا؟ أو كيف تبدو تاريخية صادق في فهم تاريخ الفلسفة؟
حين سئل صادق عن روح الفلسفة الحديثة أجاب: «خلاصة عالية التجريد لواقع الحداثة المتطورة والمتحركة»([3]).
أن تكون الفلسفة الحديثة تجريدًا لواقع الحداثة الأوروبية، فهذا ما يتفق عليه مؤرخو الفلسفة الغربية كلهم، حسبنا أن نقرأ كتاب تاريخ الفلسفة الغربية للفيلسوف راسل لندرك هذه الفكرة، بل ما كانت الفلسفة لتقوم ناهضة لولا النهضة الكلية الشاملة في الغرب.
ولكن أن تكون الفلسفة تعبيرًا عن النهضة، وتجريدًا لها، فهذا حكم كلي لا يساعدنا في فهم التنوع والاختلاف، والمبدع الفلسفي نفسه. فهو في رده الفلسفة الحديثة إلى تقدم العلم، وإن الفلسفة مدينة للعلم بمشكلاتها الجديدة، يرفض رفضًا قاطعًا أن يكون العلم والفلسفة ثمرتان للعبقريات، ويعد الربط بين الفلسفي – العلمي والعبقريات ضرب من الفكر الذي يقدس البطولة([4]).
لا نحتاج إلى كبير عناء لندرك الشروط التي تقودنا إلى فهم الحياة الفكرية والعلمية، ومنها شرط حياة الفرد نفسه، لكننا لا نفهم إبداع الفرد خارج المناخ الذي عاش فيه. فمن ذا الذي يعزل بين حياة نيتشه وفلسفته، وقس على ذلك الحال مع روسو وإسبينوزا، والحق إن هذه المسألة لم تعد منذ مدة ماضية طويلة موضوع مناقشة.
ومن أجل إبراز الفروق بين الفلسفة الحديثة وفلسفة القرون الوسطى، يميل إلى المقارنة بين المقولات الفلسفية هنا والمقولات الفلسفية هناك. ففي العصر الوسيط يعرض المقولات التي يراها تعبيرًا عنه كالماهية والجوهر والمثل والفيض والغاية والوجود بالقوة والوجود بالفعل، في مقابل مقولات الفلسفة الحديثة بمثل الحركة والمكان والزمان والجسم والذرية والعلة الفاعلة والصفات الأولية وقوانين الطبيعة والاستقراء([5])، ويرى بأن هذه المقولات جميعها مستمدة من العلم.
ولكن إذا ما دققنا في المقولات التي عّدها صادق مقولاتٍ جاءت ثمرة من ثمرات أثر العلم الحديث في الفلسفة، لوجدنا بأن جلها هي مقولات الفلسفة القديمة، فالمادة والحركة والجسم والعلة الفاعلة والاستقراء والذرة هي مقولات فلسفية يونانية وأرسطية. والمقولات التي رآها قروسطية بمثل الوجود بالقوة والوجود بالفعل والماهية والجوهر، هي مقولات الفلسفة الحديثة نفسها.
بل إن ديكارت وإسبينوزا ومالبرانش هم فلاسفة الجوهر، والجوهر أهم مفهوم في الفلسفة الحديثة، حتى مفهوم الموناد عند لابينتز هو في حقيقة الأمر مرادف لمفهوم الجوهر.
هذا لا يعني بأنه ليس ثمة علاقة سببية بين تقدم العلم والتغير في الوعي الفلسفي للعالم، ولكن ليس العلم إلا أحد الأسباب.
ومن الأدوات المفتاحية للنظر في تاريخ الفلسفة عند صادق العظم مصطلحات: المادية والمثالية والمادية الميكانيكية والمثالية الموضوعية والمثالية الذاتية. وتفقر هذه المصطلحات الفيلسوف إلى الحد الذي يتركنا في حيرة من أمرنا. فهل إسبينوزا فيلسوف الجوهر القائم بذاته، وسبب ذاته، وله صفتان؛ الامتداد والفكر، وله أحوال وصاحب الطبيعة الطابعة والطبيعة المطبوعة – هل إسبينوزا هذا – فيلسوف مادي أم مثالي، وإذا كان ماديًا فهل هو ميكانيكي أم جدلي، وإذا كان مثاليًا فهل هو موضوعي أو ذاتي؟
وقس على ذلك كلًا من ديكارت ولوك وغيرهما. إن هذه المصطلحات أفقر من أن تكون أدوات منهجية لفهم تاريخ الفلسفة.
هذا المدخل لفهم تاريخ الفلسفة هو الذي دعا صادق ليصوغ منه تاريخًا للمادية يضم مادية أرسطو وابن سينا ومادية هوبز وماركس على الرغم من الفرق النوعي – بحسب ما يقول ([6]).
ومع ذلك فإنه تأسيسًا على تاريخانية الفلسفة، وربطها بالواقع الاجتماعي والتقدم العلمي، لا ندري لماذا عد صادق «ظاهرية كانط أرقى بكثير من العدمية المعرفية التي كرسها كوهن ونظر لها هو وأشباهه([7]). ما هي الشروط التاريخية – العلمية التي جعلت كانط ابن القرن الثامن عشر متقدما على كوهن ابن القرن العشرين! بمعزل عن هذا التقويم من حيث صحته وخطله.
ولا ندري أيضًا لماذا كانت «ماركسية سارتر – كما يقول- سليلة تقليد قوي شعاره الضمني (الماركسية بلا مادية)، ومن أعلامه جورج لوكاتش وكارل كوش ومدرسة فرانكفورت»([8]).
إن مصطلحات بمثل المادية والمثالية لا يمكنها أبدًا أن تكون أداة صالحة لتناول فلسفة سارتر ولوكاتش ومدرسة فرانكفورت. فمشكلات هؤلاء أبعد ما تكون عن تلك المشكلة الأنطولوجية القديمة حول أصل العالم، وسمحت بناء على أجوبة الفلاسفة عن هذا السؤال أن تميز بين المادي والمثالي.
وبعد محاكمة طويلة لتاريخ الفلسفة يصل صاحبنا إلى الحكم المبرم معلنًا: «يريدون روح الماركسية دون جسدها، إذا جاز التعبير، وهذا سراب لم يحصد أحد منه، حتى الآن، سوى الوهم فلسفيًا والإخفاق سياسيًّا»([9]).
2- نكوص الفلسفة المعاصرة
يقول صادق العظم في معرض النظر في الفلسفة المعاصرة في صورة حكمٍ صارم: «أخفقت الفلسفة اللاحقة على نشوء الماركسية في أثناء عملية تنظيم المثالية لنفسها ثانية وتجديد صياغة أطروحاتها وإعادة النظر في منطلقاتها في تحقيق أي تقدم يضاهي الذرى التي استطاعت بلوغها فلسفات مثل ذرية ليبنتز ونقدية كانط الصورية ومثالية هيغل التاريخية»([10]).
ما هي هذه الفلسفة اللاحقة على نشوء الماركسية التي لم تسطع أن تبلغ الذرى الفلسفية؟
إنها الفلسفة المعاصرة كلها من دون استثناء، إنها الفلسفة المعاصرة غير الماركسية- اللينينية السوفياتية برمتها. من سارتر إلى فوكو مرورًا بجون ديوي ورسل وهيدغر ومدرسة فرانكفورت ودريدا وغيرهم.
وهيدغر رأس هذه العصابة غير الماركسية الذي يَصْب جام غضبه عليه أولًا، وعلى من يلقاه في طريقه ممن يعدهم هيدغريين.
من هو هيدغر في وعي صادق الفلسفي؟ إنه «فيلسوف همه الأساس نقد العلم الحديث، وتحطيم ماديته العفوية منها والفلسفية، وتسفيه دعاوى المعرفة»([11]).
ويرى صادق أن «لدى هيدجر قناعة بأن انحطاط الغرب ناجم عن الفساد الذي دب في روحه نتيجة انجرافه مع تيارات المادية الحديثة والعقلانية العلمية والتقدم التكنولوجي»([12]).
«هيدجر ذو طبيعة سلفية أي إن فلسفته سلفية ذات خصائص لاهوتية»([13]).
وليس هيدغر هو هذا من وجهة نظر صادق فقط بل حين يسأل المحاور قيصر العظم: هل تعتقد بوجود صلة مباشرة بين التيارات الإسلامية ووجودية هيدغر؟ يجيب صادق: «نعم أعتقد ذلك»([14]).
وهنا يقوم صادق بإبراز التشابه بين هيدغر وأبو أعلى المودودي صاحب فكرة الحاكمية لله، ويعقد المقارنة بين جاهلية المودودي وجاهلية الحضارة الغربية عند هيدغر. وليس هذا فحسب بل إن الجناح اليميني في الحداثة الأوروبية الذي يمثله هيدغر هو ذاته الذي ينتمي إليه أدونيس، مدلًا على ذلك بمقارنة بين أدونيس وهيدغر انطلاقًا من مفهوم الدازاين الهيدغري([15]).
لماذا يبدو هيدغر بهذه الصورة القبيحة عند صادق؟ وهل هذا يعود إلى سوء فهم لفلسفة هيدغر أم إلى سوء تأويل أم إن هيدغر هو كذلك، بالصورة التي رسمها صادق؟
لا، شيء من هذا كله، إن صادق لم يرَ هيدغر إلا بعينين ماركسيتين – لينينيتن. لا شك في أن من شيمة الاختلاف في الرؤى الفلسفية أن يصدر عنه نقد متبادل بين الفلاسفة بروح فلسفية، ولكن أن نضع فيلسوف الوجود والقلقن والوجود الزائف، والوجود الأصيل والحرية، ونقد حضارة التقنية جنبًا إلى جنب مع المودودي مرة، ومع أدونيس مرة ثانية، فهذا فيه اصطناع مقارنة زائفة.
لست في معرض الدفاع عن هيدغر وعرض فلسفته، وهو أمر يفيض على غاية بحثنا، لكن حسبنا القول بأن فيلسوف الكينونة – هيدغر – هو فيلسوف الكائن في زمانيته الماضية والحاضرة والمستقبلية، إنه الكائن بوصفه ممكنًا، والدازاين هو الكينونة في العالم. وفيلسوف الكينونة هذا ليس رجعيًا أو سلفيًا أو مناهضًا للعلم، وما شابه ذلك من وصف.
إنه فيلسوف أراد أن يعود مرة أخرى للسؤال عن الكينونة بوصفها «الدازاين».
والفيلسوف الآخر الذي اقتيد إلى محاكمة «دفاعًا عن المادية والتاريخ» هو جورج لوكاتش، ولا سيما كتابه «التاريخ والوعي الطبقي»([16]).
يرى صادق بأن لوكاتش الشاب الذي كتب «النفس والشكل» هو بداية التنظير للاهوت الوجودي، أما كتابه «التاريخ والوعي الطبقي» فهو التنظير للاهوت البروليتاري، فيما يظهر لوكاتش الماركسي في كتابه «تحطيم العقل» الذي يشبهه بكتاب الأيديولوجيا الألمانية بوصفه تصفية حساب مع فلاسفة عصره([17]).
ويسهب صادق ومحاوره في صفحات كثيرة في الكشف عن هذه المراحل الثلاث في تطور لوكاتش، وهو من وجهة نظرهما مؤسس الوجودية اللاهوتية الأول، ويوافقان غولدمان بأن هيدغر اعتمد في كتابه «الكينونة والزمان» على كتاب لوكاتش «التاريخ والوعي الطبقي» من دون أن يشير إلى ذلك. وصادق الذي يدين موقف هيدغر من هتلر، يعترض على موقف لوكاتش من ستالين، لأنه رأى في موقف هيدغر تنظيرًا للنازية فيما عد موقف لوكاتش خطأ يساريًّا([18]).
أما سارتر وجودية صاحب الوجود والعدم، فهو سارتر الهيغلي الناكص على هيغل، وبخاصة نكوصه على فينومينولوجيا الروح، والفصل المتعلق بجدل السيد والعبد([19]).
وليس سارتر في نهاية الأمر «إلا مشروع نقدي لا يخرج عن المشروع الفينومينولوجي العام للفلسفة البرجوازية في القرن العشرين»([20]).
لا شك عندي في أن الوعي الفلسفي لصادق – في ضوء محاكمته النقدية للفلاسفة المعاصرين- قائم على مقاومة وجود الذات الفاعلة بما تنطوي عليه من وعي بالعالم، فالتاريخ لماركسي لينيني حركة قانونية صارمة حتمية، لا تترك للذات حظًا من الحرية في صناعة التاريخ.
الفلسفة عند صادق إما ن تكون مادية ماركسية لينينية أولا تكون؛ وأن تكون فلسفة مادية ديالكتيكية فهي إذًا تقدمية، وإن لم تكن كذلك فهي إذًا رجعية لاهوتية.
وحين سأل قيصر صادقًا: ما الإنسان؟ كانت إجابة صادق إجابة مدرسية- ستالينية.
«الإنسان حيوان، بدأ إنسانيته بإنتاج وسائل عيشه، تطور تطورًا كبيرًا عبر الزمن تطورًا تجيب عنه الفيزيولوجيا والبيولوجيا والإنتروبولوجيا، ثم هو أعلى الرئيسيات، ثم تطور وانتصب وكبر حجم دماغه، جهازه العصبي عالي التعقيد، ثم تعلم، وهو محتاج دائمًا للعيش المشترك، بعد ذلك نشأ التاريخ».
هو ذا الأساس الذي يتكئ عليه صادق في نقد صاحبي «الكينونة والزمان» و«الوجود والعدم» و«والتاريخ والوعي الطبقي»([21]).
3- البنيوية الخائنة
يقول صادق بوضوح: «وما نظرية الممارسة النظرية في إنتاج المعرفة عند «ألتوسير» إلا انزلاق إلى المثالية والذاتوية والعدمية الإبستيمولوجية التي ينتهي إليها عادة الاتجاه التواضعي- التصوري في فلسفة العلوم البرجوازية»([22]) بل إن ألتوسير إنما أراد أن يزاوج بين المادية. والتأويل الصريح للعلم وطبيعة المعرفة، وفي طريقه لدحض ماركسية ألتوسير البنيوية لا ينسى أن يمر على نقد توماس كوهن وباشلار([23]).
لنتأمل تلك المصطلحات مرة أخرى بوصفها صفات اتهام لفيلسوف ماركسي وعضو في الحزب الشيوعي الفرنسي، مثالية – ذاتوية -عدمية إبستيمولوجية.
إذًا، ألتوسير الفيلسوف الماركسي المادي ينزلق في المثالية، والمثالية هنا تأويل مثالي للعلم ولطبيعة المعرفة.
ما هو التأويل المثالي للعلم من وجهة نظر صادق؟ لكي نجيب عن هذا السؤال لنضع القارئ في صورة المشكلة. وهنا أستند إلى مادتي في الموسعة العربية- مصطلح «الإبستيمولوجيا» حيث كتبنا نقول: «تعد مشكلة المسار الذي تسلكه المعرفة العلمية واحدة من أهم مشكلات الإبستيمولوجية.
ولقد انقسم الإبستيمولوجيون – في النظر إلى هذه المشكلة – إلى فريقين: فريق نظر إلى مسار العلم على أنه سيرورة متصلة مستمرة لا انقطاع فيها ولا انفصال.
وفريق آخر رأى أن مسار العلم مسار انقطاع واضطرابات وأزمات وثورات.
ويعد إميل ميرسون Emil Meyerson وليون برنشفيك Léon Brunschvicg أهم دعاة الاتجاه الذي يقول بالاستمرارية. والمعرفة العلمية – من وجهة نظر هذا الاتجاه – استمرار وتطور للمعرفة العادية. كما إن كل معرفة علمية جديدة هي استمرار للمعرفة العلمية السابقة، فتاريخ العلم سلسلة يتولد بعضها من بعض، وما التغير الذي يحدث في العلم إلا تغير تدريجي. ويدللون على صحة رأيهم بالتطور التدريجي للمنهج العلمي وطريقة انتشاره.
فالمنهج العلمي الاستقرائي الحديث تمتد جذوره في الماضي، وقد تمَّ انتشاره واستيعابه شيئًا فشيئًا عن طريق علماء متخصصين في العلوم الطبيعية، ولاسيما في علم الفيزياء، أما من حيث لغة العلم، فيرى أنصار الاستمرارية أنها استمرار للغة العامة، مع تميز لغة العلم من هذه الأخيرة بطابعها الرمزي فيما الاتجاه الثاني الذي يقول باللااستمرارية وأهم ممثليه غاستون باشلار [ر] وتوماس كوهن Th. Cohn ولوي ألتوسير Louis Althusser وميشيل فوكوFoucault فإنه ينطلق – على العكس من الاتجاه السابق – من أن تاريخ العلم تاريخ قطْعٍ بين المعارف العلمية البالية والمعارف الباقية.
والذي يفصل بين هذين النمطين من المعرفة العلمية هو مفهوم القطيعة الإبستيمولوجية.
ليست المعرفة العلمية امتدادًا للمعرفة العامية، بل هي انتقال من التجربة إلى «العقلنة rationalization»، ومن الملاحظة المضطربة إلى المعرفة الموضوعية.
ولو صح أن المعرفة العلمية هي استمرار للمعرفة العامية، لصح أن يكون اختراع المصباح الكهربائي استمرارًا للمصباح العادي «.
إذًا التأويل المثالي للعلم هو القول بالثورة العلمية، وباللااستمرارية، فالقضية هنا لا علاقة لها بمثالية ومادية أبدًا.
لكن صادق يرى بأن القول بالثورة العلمية التي تشكل قطيعة مع المعرفة السابقة «عدمية إبستمولوجية»، لماذا؟ لأنها لا ترى تاريخية في تطور العلم حيث اللاحق مدين للسابق من جهة، ولأن أصحاب القطيعة ينظرون إلى العلم بوصفه ثمرة عبقريات، فماركس وأنشتاين وفرويد وغيرهم نجوم ساطعة في عالم العلم الجديد([24]).
وهو أمر لا يوافق وعي صادق بتطور العلم، فصادق كما قلنا يرفض القول بالقطيعة الإبستيمولوجية عند ألتوسير الذي أخذها عن باشلار، كما يرفض الثورة العلمية بمثل ما جاءت في كتاب كوهن «بنية الثورات العلمية».
لكن صادق يرضى بمصطلح القطيعة الإبستيمولوجية، حين يُستخدم للإشارة المختصرة إلى الخصيصات الرئيسة التي تتصف بها التحولات لنوعية العلوم، ويرفض في الوقت نفسه القطيعة بصورة مفاجئة، بل يشبه قطيعة ألتوسير الإبستيمولوجية بانبثاق لحظة الرؤية عند هيغل»([25]).
إن صادق لا يستطيع أن ينكر أهمية البنية بوصفها مفهومًا معرفيًّا – فلسفيًّا، لكنه لا يريد القبول بالبنيوية منهجًا في التفكير، وآية ذلك أن البنيوية هي نقيض التاريخانية التي يعتقد بها.
ولهذا يؤكد «في المادية التاريخية لا بنية بلا تاريخ أنتجها، كما إن التاريخ يكون تاريخ لا شيء إذا لم تاريخ بنيات حقيقية محددة، لهذا لا بد للبنيوية السكونية التي يحاول ألتوسير إقحامها في المادي التاريخية من الاصطدام الحتمي بتاريخية المادية التاريخية»([26]).
وهكذا يريد صادق أن تكون البنية مفهومًا من مفهومات التاريخية من دون بنيوية.
فالعدمية الإبستيمولوجية لا يعني بها صادق سوى علم بلا تاريخه، وهي تفضي إلى «الذاتوية» بمعنى النظر إلى العلم بوصفة ثمرة عبقريات.
وليس هذا فحس بل إنه فِي معرض نقده للبنيوي لا ينسى أن يمر بفجغنشين وفايرابند ودريدا، ويدخلهم في ما يسميه «الفوضوية الإبستيمولوجية».
وهكذا يصوغ صادق العظم وعيه الفلسفي النقدي تأسيسًا على وعي ماركسي – لينيني كلاسيكي، لم يجدد فيه، ولم يتجاوز أطاريحه القديمة.
المصدر
صادق جلال العظم، دفاعًا عن المادية والتاريخ، (بيروت: 1990).
([1]) صادق جلال العظم، دفاعًا عن المادية والتاريخ، (بيروت: 1990)، ص. 27