يوزّع النظام السوري حصص الخوف على كل السوريين بالتساوي، سواء من هم تحت حكمه وفي كنف أجهزته الأمنية، أو أولئك الذين فرّوا بأنفسهم عبر البحار والجبال والسهول الموحشة والوديان، وتعمل أجهزته الأمنية على تغييب مفهوم العدالة الانتقالية التي يطالب بإحيائها كثيرٌ من الاختصاصيين في مجالات حقوق الإنسان والتقاضي الاستراتيجي، وحرية الرأي، لتغرقنا فرق الخوف بنشر مصطلح تساوي توزيع الظلم على الجميع.
ما من هاربٍ من قدره السوري، كلٌّ منّا ترك شيئًا من جسده هناك في سورية يحترق، فحيثما ابتعدنا بغربتنا، أمسكت مخالب النظام الأمنية بأرواحنا في موضعٍ يُؤلمنا، وضربت في قاع قلوبنا. هذا ما يمكن فهمه من شهود حقّ في محاكم أوروبية لا يستطيعون أن يُطلقوا لحناجرهم حريّة البوح وحقّ الكلام، ولا أن يُسكتوا داخلهم أصوات ذويهم، من ضحايا تتألم في قبورها وأخرى في معتقلاتها من ظلم جلادها.
لقد نجح النظام -عبر داعميه إيران وروسيا- في أن يجعل المجتمع الدولي يتجاوز فكرة إسقاطه أو حتى المطالبة بتغيير سلوكه، لتنتقل كثير من الدول وبعض “المعارضة” إلى التهافت على إعادة إنعاش أدواره العربية والإقليمية، والسماح بإعادة رسم خارطة سورية السياسية والعسكرية، التي تسللت مساحات كبيرة منها إلى خارج حكمه وسطوته، خلال صحوة العمل العسكري لفصائل محسوبة على المعارضة، ولاحقًا لجهات إسلامية عديدة، انقلبت على ما سُمّي “الجيش الحر”، واستولت على مساحاته أيضًا.
تمكّن نظام دمشق من استعادة معظم سورية “الخارجة عنه وعليه”، مدينة تلو أخرى، وطريقًا بعد آخر، سواء عبر الاتفاقات الدولية التي ترعاها روسيا، تحت غطاء مسار آستانا الذي أسس عام 2017، بالشراكة مع حليف الرئيس بشار الأسد الاستراتيجي إيران، وحليف “معارضته” تركيا، أو عبر مصالحات التسوية في أحايين أخرى، من ريف دمشق حتى درعا، ومن حلب حتى الطرق الرئيسة (M4 و(M5، ومن عمق إدلب، وهو ما سنراه في الأيام القريبة بعد آخر ما تم التوافق عليه بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان في سوتشي 29 أيلول/ سبتمبر الماضي، وفي عقر بيت “جبهة النصرة” وأميرها الجولاني، إلى المصالحات المرتقبة مع (قسد) واستعادة شريان النفط، ليصبّ في عروق حياة النظام السوري من جديد.
في هذا الوقت، مع ما يبعد حلم الانتقال السياسي في سورية، تعمل كثيرٌ من الجمعيات والمراكز والهيئات المدنية من أجل الحفاظ على حقّ إنصاف ضحايا النظام السوري وعائلاتهم، وضحايا الصراع عمومًا، وذلك بالتأكيد على العدالة الانتقالية، كمدخل أساسي لاستدامة السلم الأهلي، والسعي لوضعه كنص فوق دستوري ملزم لكل الأطراف السورية، في حال تحقق الانتقال السياسي بهيئته المعروفة وانتهاء حكم الأسد وعائلته لسورية، وفقًا لكلّ البيانات والقرارات الأممية، وإنْ أمعن المجتمع الدولي في تجاوزها، ومنها القرار 2254.
وهذا ما يجعل نشاطات المجتمع المدنيّ ذات أهمية خاصة، وتحرّكها في هذا الشأن والتعاطي مع “السيناريوهات” المحتملة بمواجهتها، لا يكون بالتهرب منها، كما هو الحال في سنوات العمل السياسي المعارض، الذي صغر حلمه، من إسقاط النظام بكل أركانه وأسمائه ورموزه، إلى الجلوس معه، بمن سبق ذكره في لجنة دستورية مشتركة، أسهمت في إحيائه لا تغييبه، وذلك من خلال استخدام هذه المؤسسات المدنية الممكن والمتاح حاليًا، في دول أوروبية فتحت أبواب محاكمها للتقاضي الاستراتيجي، ونقل أصوات الضحايا من أنفاق معتقلاتهم إلى رحاب العدالة.
تعدّ المحاكمات الجارية فردية، ولكنها تكتسب أهميتها من خلال أدوارها في إحياء فكرة إنصاف الضحايا، ومثالها محاكمات كوبلنز، لشخصيات موجودة فعليًا في أوروبا، متهمة بالعمل والشراكة مع النظام بجرائم تعذيب المعتقلين وقتلهم، أو لآخرين غيابيًا، وهي مع محدودية ما يمكن أن تنجزه لتحقيق العدالة المأمولة التي غابت خلال سنوات الصراع في سورية، تُعدّ نقطة التحوّل، من واقع الجمود والنظريات التي يحملها العامل الأخلاقي والمطالبات الإعلامية بها، إلى واقع التنفيذ العملي لما يمكن أن يكون مسارًا محتملًا ومتصاعدًا وقادرًا على تعبيد الطريق للهدف الأسمى “العدالة الانتقالية”.
من هنا، يمكن أن نفهم مدى خطورة محاكمات بعض المتورطين، من ضباط ومتعاونين مع الأنظمة الأمنية السورية، في جرائم تعذيب المعتقلين، وأسباب رفضها من طرفي الصراع السوري “النظام وبعض المعارضة”، بآن معًا، فحيث يرفضها النظام لجهة أنها تتعدى أسماء الواقفين خلف أقفاص الاتهام، إلى ما يمكن وسمه بطبيعة النظام ككتلة واحدة مسؤولة عن كلّ جريمة، في أي مكان من معتقلاته المعروفة بالاسم، أو تلك المجهولة العنوان، كما هو الحال في المعتقلات السرية التي لم تنفذ إليها بعد أي من الجهات الدولية، أيضًا يمكن أن نستقرأ أسباب رفض بعض المحسوبين على المعارضة لها، لأنها تدخلهم تحت سلطة المحاكمات ذاتها وفي الاختصاص ذاته.
كان النظام يرى في المحاكمات عقابًا للمنشقين الأمنيين عنه، إضافة إلى ما آل إليه مصيرهم، من رفض مجتمعات المعارضة -على اختلاف مستوياتها وأسباب رفضها- لهم، ولكن على أن تكون العقوبة مقتصرة عليهم كأفراد، لا كجزء من نظام متكامل. لكن طبيعة ما حدث ضمن سياق المحاكمات سار باتجاه مخالف لرغباته، فقد رفعت شهادات الضحايا وأهاليهم الغطاء عن حقيقة الممارسات الوحشية، وحوّلت الصور المسربة “لقيصر”، من لوحات على حائط تباكى عليه المجتمع الدولي، إلى أجساد تتهاوى تحت عين وسمع قضاة ترصد حياة المعتقلين كمجموع عام، يعيشون أهوال الموت على يد حماة الوطن والأمن السوريين، ما دفعه إلى محاولات قمع الشهود أو حتى تغييبهم واغتيالهم.
ربما في المساحة الضيقة التي يتركها المجتمع الدولي للتعريف بالثورة السورية، وما تخللها من أعمال عنف مارسها النظام ضد معارضيه، ومارستها قوى واقع أخرى على الأرض السورية، ما يمكّن جهات المجتمع المدني من الوصول إلى محددات قانونية، تتوافق والاحتياجات السورية لتحقيق العدالة الانتقالية، التي غابت عن المتصارعين على السلطة، لأنها تشملهم جميعًا، وإن بحجوم وكميات غير متساوية.