بعد نهاية الحرب العالمية الثانية التي دمّرت أوروبا؛ شعر الفرنسيون والألمان (أعداء الأمس) بضرورة التقارب الاقتصادي والسياسي في سبيل إعادة الاعمار، واجتمعوا على إنشاء المجموعة الأوروبية للفحم والصلب، في التاسع من أيار/ مايو 1950، التي ضمّت -إلى جانب فرنسا وألمانيا- بدايةً كلًا من بلجيكا وإيطاليا ولوكسمبورغ والبلاد الواطئة. ومنذ ذاك الحدث، صار يُعدّ تاريخ 9 أيار/ مايو “يوم أوروبا”. وقد كان عماد هذه الجماعة خلقُ ديناميكية اقتصادية أوروبية فعالة، تترجَم إلى سعي حثيث لإنعاش الاقتصاديات الأوروبية التي دمّرتها الحرب، وقد أريدَ لها أن تُخرج أوروبا من الخضوع التام للحليف المنقذ المتمثل بالولايات المتحدة الأميركية، ومن مشروعه المسمى “مشروع مارشال” الذي زودها بترياق الخروج من الموت في المرحلة الأولى. وقد تنبّه الأوروبيون إلى ضرورة تعزيز العملية التقاربية الاقتصادية بتقارب سياسي وعسكري، وأفضى ذلك إلى التوسع بالتفكير في أشكال متطورة من التحالفات السياسية والتعاون العسكري. وكان للفرنسي روبير شومان، الذي تعاقب على لعب أدوار سياسية وبيروقراطية عديدة، الدورَ الكبير، حين كان وزيرًا للخارجية بين عامي 1948 و1952، في إطلاق براعم المشروع الأوروبي السياسي من حيّز التمنيات إلى حقل التنفيذ، والتوصل إلى توقيع “اتفاقية روما” عام 1957، التي أسست للجماعة الاقتصادية الأوروبية، أو ما يُعرف بالسوق الأوروبية المشتركة. وقد منحته الجمعية البرلمانية الأوروبية التي ترأسها بين عامي 1958 و1960، في نهاية ولايته، لقب “أبو أوروبا”.
في عام 1993، تأسس الاتحاد الأوروبي، بشكله الحالي، من خلال توقيع الأعضاء في الجماعة الأوروبية على اتفاقية “ماستريخت”. وقد شهد توسعات عدة، وانضمّت دول عديدة إلى عضويته، بعد خروجها من الهيمنة السوفيتية، وبلغ العدد 28 دولة، ثم نقص العدد، بعد انسحاب إنكلترا، إلى 27 دولة حاليًا في الاتحاد الأوروبي. وبالطبع، تُعنى مؤسسات الاتحاد الأوروبي بمختلف الجوانب الاقتصادية، من زراعة وصناعة وتجارة، إلى الأمور المصرفية والمالية من خلال العملة الموحدة، إلى القضايا البيئية التي صارت من أولويات السياسات الأوروبية المعلنة على الأقل، إلى العمليات الدفاعية على الرغم من وجود الحلف الأطلسي المهيمن، إلى الشؤون الخارجية. ولكل قطاع مفوضه الذي يديره بتوافق الدول الأعضاء. وقد أثبت الاتحاد فاعلية كبرى وهيمنة فعلية على كل القطاعات التي دخلت في حيز نفوذه، عدا السياسة الخارجية.
يرى المراقبون الأكثر تشددًا أن ليس هناك سياسة خارجية أوروبية، بل سياسات متعددة ومتناقضة في كثير من الأحيان. ويستندون في ذلك الاستنتاج إلى أن السياسة الخارجية تُعدّ من الأمور السيادية التي يصعب على الدول التخلي عنها، أو حتى عن جزء منها. ويعزون ذلك إلى اختلاف العلاقة الفردية لكل دولة من دول الاتحاد مع العالم، بناءً على وجود ماض استعماري كمثل واضح لهذا التمايز. ويرون أنه ما زال للولايات المتحدة الأميركية دور كبير في إخضاع سياسات بعض الدول الأوروبية الخارجية لأجندتها، على الرغم من عدم التناقض الصارخ، نظريًا على الأقل، الذي يمكن تسجيله بين سياسات الاتحاد الأوروبي الخارجية وتلك التي تصدر عن واشنطن.
تظهر التناقضات الأوروبية في مجال السياسات الخارجية، وخصوصًا في ما يتعلق بالقضايا العربية، أو هذا ما يعنينا -نحن العرب- ونتنبه إليه. وقد توضّحت هذه التناقضات أكثر، مع توسيع الاتحاد الأوروبي ليضم دول شرق ووسط أوروبا، التي وقع البعض منها، كهنغاريا مثلًا (على الرغم من تخلّصها من الهيمنة السوفييتية) تحت الهيمنة الروسية أو التقارب مع روسيا، بسبب تقارب طبيعة من هُم في رأس السلطة، بينما ما زال البعض الآخر يرى الولايات المتحدة الأميركية الحليفَ الأجدر، على الرغم من أن أموالًا أوروبية أُغدقت لإعادة بناء بلاده التي خرجت من المعسكر الشرقي ضعيفة، كبولندا مثلًا، إضافة إلى أن هناك دولًا أعضاء ما زالت تحافظ على علاقات جانبية جيدة مع الأنظمة المافيوية العالم ثالثية، مثل بلغاريا ورومانيا، وذلك نتيجة طبيعة النظام الجديد “الرأسمالي” الذي هو استنساخ عن أسوأ ما في القديم “الاشتراكي”.
وقد أظهرت بعض الملفات الشائكة، في العلاقات الخارجية لدول الاتحاد الأوروبي، تناقضاتٍ صارخة في تعامل الدول الأعضاء. فعلى سبيل المثال لا الحصر، تختلف سياسات الدول الأعضاء تجاه القضية الفلسطينية والموقف من الاحتلال الإسرائيلي. فبينما نرى بعض الدول الأعضاء قلقة من التطرف اليميني الواضح في السياسات الإسرائيلية، كفرنسا وإسبانيا، نرى دولًا أخرى تتقارب مع اليمين المتطرف الإسرائيلي، وتدعمه في كل خطواته، كدول أوروبا الوسطى والشرقية عمومًا. وكذلك ظهر التناقض أو عدم التناغم واضحًا في ما يتعلق بالموقف من ثورات الربيع العربي. فمن جهةٍ، تقوم مؤسسات الاتحاد مدعومة من بعض الدول الأعضاء، كفرنسا وألمانيا، بفرض عقوبات قاسية بحق شخصيات محسوبة على الأنظمة الدكتاتورية، ومن جهة ثانية، نرى دولًا أخرى، كإيطاليا مثلًا، تستقبل أهمّ هذه الشخصيات المسجلة على رأس قائمة المطلوبين للعدالة، ضمن وثائق الاتحاد نفسه، استقبالَ الضيف المرموق للتباحث معه في الشؤون الأمنية. وأخيرًا، وليس آخرًا، يتبدى للمراقبين حاليًا وجود تناقض صارخ يكاد يصل إلى حد التصادم في الموقف من الملف الليبي؛ حيث تدعم فرنسا الضابط الانقلابي خليفة حفتر في بنغازي من جهة، وتدعم إيطاليا -برضًى ألماني ضمني- حكومةَ الوفاق في طرابلس.
ومن المهم القول إن شخصية المفوض المكلف بالشؤون الخارجية ضمن المؤسسة الاتحادية تلعب دورًا مهمًا جدًا في تنسيق المواقف وتعزيز الدور الجامع. وقد سبق للاتحاد أن عرف خافيير سولانا، كمفوض ناجح خلفه عديدون، لم يتركوا أي أثر توفيقي في السياسات الخارجية الأوروبية. ويتعرف الاتحاد اليوم إلى وزير الخارجية الإسباني السابق جوزيف بوريل، القادم من صفوف الاشتراكية الأوروبية، وتُعقد عليه آمال، لكنها ستخبو، إذا تأخر في أن ينجح في تقديم وجه أوروبي شبه موحد للسياسة الخارجية من دون تناقضات، وهو المتوقع.