لعبت الأديان، على مرّ تاريخ البشرية، أدوارًا مهمّة وحيوية في تكوين الإنسان الاجتماعي وفي تشكيله الفكري، وكانت الصراعات الدينية من بين العوامل المحرّكة لتطوّر المجتمع البشري عمومًا. لم تقتصر تلك الصراعات -بطبيعة الحال- على الأديان المختلفة فيما بينها، بل كانت، في كثيرٍ من الأحيان، ضمن نطاق الدين الواحد أعنف وأشدّ قسوة وأكثر خطرًا على بنية المجتمع البشري المحدد الذي تجري فيه. والأمثلة كثيرة في هذا المجال، ولعلّ أشهرها الصراع الكاثوليكي الأرثودوكسي، بين الكنيستين الغربية في روما والشرقية في القسطنطينية، وهو صراع لم يأخذ تلك الحدّة والدموية، كما هو الحال مع الصراع الكاثوليكي البروتستانتي عبر التاريخ الأوروبي اللاحق.
كذلك شهدت المجتمعات الإسلاميّة انقسامات مذهبية أخذت طابعًا فكريًا، تطوّرت بعد نشوء المذاهب في القرنين الثاني والثالث الهجريين، لتصل إلى التمذهب السنّي مع المماليك في القرنين السادس والسابع الهجريين، والتمذهب الشيعي مع الصفويين في القرنين التاسع والعاشر الهجريين. وتعززت هذه الانقسامات المذهبية، عندما اشتدّ الصراع العثماني الصفوي على زعامة العالم الإسلامي؛ فكانت السياسة والسلطة جوهر هذا الصراع، بينما كانت المذهبية صورته أو مظهره الخارجي. وهنا يكون التمايز ضمن حدود المذهب من خلال الجماعة المنتمية إليه، وخارج حدوده بالتناقض والصراع مع الجماعات الأخرى المنتمية إلى مذاهب مختلفة. أي بين الـ (نحن) والـ (هم). هكذا تعرّف الجماعات المختلفة نفسها.
لم يكن تاريخ المنطقة على الدوام محكومًا بالطائفية، كما يحاول كثيرون، لأسباب الصراع الراهن، الإيحاء بذلك. فلم تكن للطوائف، بالمعنى المتعارف عليه الآن، أية أدوار تؤديها في تعزيز اصطفافات المجتمعات المتحاربة. لقد كانت الغلبة في هذا الأمر للقبيلة والعشيرة والأسرة الممتدّة. وكان صراع الأسر الحاكمة على السلطة، بدوافع سياسية واقتصادية، ينسحب دائمًا على المجتمعات الإسلامية، وكان يتمظهر في كثير من الأحيان بأشكال دينية أو بالأصحّ مذهبية. لعلّ أشهر الانقسامات القبلية هو ذاك الموصوف بالتاريخ الإسلامي بالصراع بين القيسية واليمانية، والذي ما زالت بعض آثاره بادية حتى الآن، ولو في المخيال الشعبي على الأقل، في بعض البلدان العربية.
مع انطلاقة الثورة الإسلامية في إيران، ومع استقرار السلطة في يد الملالي بعد إقصائهم بقية الأحزاب والقوى المشاركة في الثورة، أخذت الصراعات السياسية في المنطقة شكل الصراع الطائفي بين الشيعة والسنّة. وقد لعب كلا الطرفين دوره في تطييف الصراع لحسابات داخلية خاصة به، ولحسابات خارجية تخصّ الطرف الآخر. وقد كانت الطائفية مدخلًا رئيسًا بالنسبة إلى إيران لتفتيت المجتمعات العربية، وتحويل قسم من شعوبها من تابعية الولاء للدولة الوطنية، إلى تابعية الولاء للوليّ الفقيه، باعتباره المرجع الأعلى والأوحد للطائفة الشيعية. وهكذا بدأ مع هذه الثورة ما يمكن أن نُطلق عليه تسمية “الدين البديل”، القائم على أسس مختلفة جذريًا عمّا قام عليه الدين الإسلامي.
يقوم الدين في بدايته على أساس الرابطة التي تجمع بين عدد من الأفراد الذين يعرفون بعضهم البعض، ثم يتوسّع ليشمل أفرادًا وجماعات لا صلة فيما بينهم، وقد تختلف أجناسهم وأعراقهم وقومياتهم اختلافًا كبيرًا. يؤلف ويجمع الدين بين أفراد المجموعات البشرية المختلفة، على أساس تلك الرابطة المشتركة، وهي لا تقتصر بطبيعة الحال على العبادات والطقوس الرمزية ولا على الشريعة، بل مع مرور الزمن، يتشكّل التاريخ المشترك، وتبدأ الأساطير والرموز بلعب دورها في عضد الجماعة الدينية المحددة. وضمن إطار التفاعل البشري، يتمّ تحديد الجماعة الدينية بتمييزها عن الآخر المختلف، وهذا ما حصل -مثلًا- بتعريف المسلمين أنفسهم بالتمايز مع أتباع المسيحية واليهودية، في كثير من المواضع. وهو ما يحصل الآن من خلال تعريف الشيعة أنفسهم بالتمايز مع السنّة، وهو ما يؤشر إلى اتخاذ الشيعية السياسية الراهنة منحى التحوّل إلى دين جديد.
يعرّف المفكر العربي عزمي بشارة الطائفة المتخيّلة، بقوله: “هي مُتخيّل اجتماعي حديث يقوم على التبعية لدينٍ أو مذهبٍ بالاشتراك مع ملايين البشر، الذين لا يعرفون بعضهم ولم يشكلوا يومًا جماعة، كأنه انتماءٌ إلى جماعة كبرى، بناءً على مقاربة انتقائيّة لماضٍ مشترك من المرويّات والقصص والحقائق المنتقاة والأساطير”[1].
ما صنعته السلطة الحاكمة في إيران، ببساطة، هو التأسيس لجماعة متخيّلة عابرة لحدود القومية الإيرانية ولحدود الدولة ذاتها. ولم يكن الهدف من إنشاء هذه الجماعة المتخيلة مجرّد التبعية الدينية، بل تحقيق التوسع الإمبراطوري بأدوات جديدة قادرة على اختراق المجتمعات المحيطة، من داخلها وبواسطة جماعات أصيلة فيها. وقد وجدت هذه الجهود الإيرانية أصداءً كبيرة في غير دولة عربية، فاستغلّت التناقضات الطبقية والمظالم الاجتماعية والاقتصادية المختلفة، لتصنع منها مظلومية راهنة على أسس طائفية، ولتسحبها بأثر رجعي على الماضي لتطييفه وصبغه بأيديولوجيتها المعتمدة. هكذا نرى كيف بدأت الحكومات العراقية المتعاقبة بعد الاحتلال الأميركي إعادة كتابة تاريخ الوطنية العراقية، من خلال المفردات والمفاهيم الجديدة، وكأنه انتصار لنضال الشيعة بمواجهة الاستبداد السني. والنتيجة الواضحة للعيان أمامنا الآن هي تفتت الهُويّة الوطنية العراقية، واستيلاء الميليشيات الشيعية على الجزء الأكبر من الدولة، من خلال اندماجها بمؤسساتها السيادية، وتحضير جزء مهمّ منها للانفصال بفعل التشكّل القومي الكردي في الشمال.
بعد اندلاع ثورات الربيع العربي، وخاصّة الثورة في البحرين وسورية، اتضحت حدّة هذا الاصطفاف، فلم يكن هناك بدّ من الدخول في تحالفات على أسس طائفية لمواجهة مطالب الشعوب الثائرة. هكذا وجد السوريون أنفسهم مرغمين على مواجهة النظام السوري، وعلى مواجهة النظام الإيراني ذي النزعة الإمبراطورية الاستعمارية أيضًا. وعندما بدا أنّ الثورة على وشك الانتصار على هذا المحور، تدخّل النظام الدولي بأيدٍ روسيّة لمنعه من ذلك. لم يكن انتصار النظام الدولي للمحور الأول محبّة به، بل لأنّه أقلّ خطرًا من انتصار ثورة شعبية ذات عمق وطني ديمقراطي ليبرالي. وكان من أهمّ أسباب الوقوف خلف المحور الأول، بلا شك، أمن إسرائيل الذي كان هدفًا معلنًا للمجتمع الدولي طوال سبعين عامًا ونيّف من تاريخ إنشائها على أرض فلسطين.
يقول الدكتور عزمي بشارة، في سياق مشابه: “تاريخيًا، قدّم منطق الدولة الإجابة النظرية والتاريخية عن الحروب الدينية في نهاية العصر الوسيط. ومن هذه الزاوية التاريخية، يمكن القول إنّ الطائفية في العالم العربي اليوم تُعبّر عن سيرورة معاكسة للتجربة الأوروبية. ففشل الدولة الوطنية معطوفًا على الصراعات الإقليمية أدى إلى الطائفية السياسية، ونشوء الطوائف المتخيّلة. وفي حين قادت الحروب الدينية في أوروبا إلى الدولة بمفهومها الحديث، بحثًا عن السلم الأهلي، فإنّ فشل الدولة في العالم العربي أفضى إلى الطائفية السياسية”[2].
لا تُقاس حركات التغيير بالتضحيات المبذولة، بل تقاسُ بالنتائج المتحققة سياسيًا. أما معارضة التغيير حفاظًا على المصالح، فهي شيء عادي ومتوقّع، والمنتصر من يكتب المستقبل، ويسطّر صفحات التاريخ كما يراها، فإما إلى ازدهار وتقدّم، وإما إلى مزيد من التراجع والضياع. وإذا كان هناك من نتائج واضحة حتى الآن لمحاولات التغيير في مجتمعاتنا، فهي فوز الخراب والعبث والدمار وانهيار الدول والمنظومات المجتمعية في المنطقة كلّها. فحتى من يرى نفسه منتصرًا في هذا الصراع، لا يريد الاعتراف بما خلّفته الطائفية في مجتمعه، وهذه قنبلة موقوتة جاهزة للانفجار في أي لحظة.
[1] د. عزمي بشارة – الطائفة، الطائفية والطوائف المتخيّلة – ص 19 – المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات -الطبعة الأولى بيروت 2018
[2] د. عزمي بشارة – المرجع السابق – ص 22