مدخل تمهيدي

اكتسبت المطارات السورية، المدنيّة منها والعسكرية، مكانة حيوية في الاستراتيجية العسكرية للنظام السوري و”فيلق القدس” الإيراني، في سورية، منذ انطلاق الحراك الثوري في سورية. ومع دخول الثورة السورية مرحلة المقاومة المسلحة في نهاية عام 2011[1]، اكتسبت هذه المطارات أهمية بالغة، تزايدت مع مرور الوقت، كونها شكلت قواعد انطلاق لقصف مختلف المناطق السورية الثائرة، ومحطات جوية تتولى تأمين الدعم العملياتي والعسكري واللوجستي الخلفي.

وساهم عدم وجود حدود برية تربط بين النظام السوري وحلفائه الأبعد جغرافيًا، الروس والإيرانيين، في جعل هذه المطارات تحتلّ أهمية قصوى في الجغرافيا العسكرية للصراع السوري؛ إذ لم يكن بمقدور قوات النظام والميليشيا التي يدعمها “فيلق القدس” الاستمرار في القتال على الجبهات المبعثرة على الخريطة السورية، دون الاحتفاظ بالسيطرة العسكرية على هذه الجيوب، لتأمين التمهيد الناري والدعم اللوجستي.

وحتى في أحلك ظروف المعارك القاسية، عندما اضطرت قوات النظام والميليشيات الإيرانية إلى الانسحاب من الأطراف والأرياف السورية للحفاظ على أقل نسبة من السيطرة العسكرية على المواقع المهمة والنقاط الحساسة في مراكز المدن والمحافظات، كانت تحرص على عدم سقوط هذه المطارات في يد الطرف المهاجم.

على سبيل المثال، رغم سقوط معظم ريف إدلب في يد الثوار السوريين، حافظ النظام على سيطرته العسكرية على مطار الحوامات في تفتناز، حتى سقط هذا المطار أخيرًا بعد هجوم كبير شنّه الثوار في 19 كانون الثاني/ يناير 2013 [2]. وفي وقت لاحق، رغم سقوط معظم أجزاء محافظة دير الزور، استمرّت قوات النظام والميليشيات الداعمة لها في الحفاظ على سيطرتها على مطار دير الزور العسكري، رغم الحصار المفروض عليها (2014 – 2017)[3].

ولتبيان أهمية المطارات السورية بالنسبة إلى “فيلق القدس”، لا بد لنا من الإشارة إلى ما قاله قائد “فيلق القدس” المقتول، قاسم سليماني، في مقطع مصوّر قديم نسبيًا، كشفت عنه المواقع الرسمية الإيرانية في 19 نيسان/ أبريل 2021، أشار فيه إلى أنه “لولا جهود الطيارين الإيرانيين، من المؤكد بنسبة 100% أننا لم نكن لننجح في سورية”، معتبرًا أن “ملحمة الطيارين الإيرانيين في سورية كانت مساوية لملحمة المقاتلين على الأرض”[4].

بالإضافة للحفاظ على المطارات السورية -العسكرية منها والمدنية- كنقاط ارتكاز لقصف المناطق السورية الأبعد وموانئ جوية لتلقي الدعم الخلفي، كان الحفاظ عليها من السقوط يحظى بقيمة رمزية تشير إلى استمرارية هيمنة النظام السوري على مختلف المناطق السورية، إضافة إلى كونها نقاط انطلاق لاستعادة السيطرة على ما خسره من المناطق السورية بالتزامن مع عمليات برية لاحقة.

فيما بعد أخذت قضية السيطرة على المطارات السورية بعدًا آخر، إذ قرّر الإيرانيون الذهاب أبعد من حماية نظام الأسد من السقوط، والعمل على استغلال الساحة السورية في أوراق وملفات إقليمية أكبر، كاستغلال هذه المطارات السورية لأغراض عسكرية، مثل تهريب المعدات العسكرية المختلفة وقطع الصواريخ الدقيقة والمسيرات إلى سورية، ومن ثم إلى ميليشيا “حزب الله” في لبنان.

وكرد على ذلك، شنت القوات الجوية الإسرائيلية، منذ قرابة عقد من الزمن، مجموعة كبيرة من الغارات الجوية ضد مواقع التموضع الإيراني المهمة على الأرض السورية، وكان جزء كبير من هذه الغارات متعلقًا بالمعركة الإسرائيلية بين هذه الموانئ الجوية بالتحديد.

في خضمّ ذلك، لا يتعلق تركيزنا على دراسة الضربات الإسرائيلية للمطارات السورية، باعتبارها جزء من كل الغارات الإسرائيلية عمومًا فحسب، بل نسعى أيضًا للإضاءة على هذا الموضوع بشكل منفرد، بصفتها معركة مستقلة بحد ذاتها، وقصة تتشابك تفاصليها مع سردية الأحداث منطقية التسلسل.

مراحل تطور الضربات الإسرائيلية على المطارات السورية (2013 – 2022)

نعتقد أن مواقع الغارات الإسرائيلية وانتشارها على الأرض السورية قد تقودنا إلى نتائج مهمة واستدلالات مفيدة؛ فهذه الخريطة لمواقع مستهدفة مبعثرة على الأرض السورية تخبرنا بشيء ما، رغم عشوائية انتشارها.

المراقب لخارطة الضربات الجوية الإسرائيلية على الأرض السورية يجد أن هناك مجموعات متفرقة من الضربات المركزة التي ضربت خلال السنوات الماضية عددًا من المطارات المدنية والعسكرية السورية.
ويزداد هذا الاعتقاد يقينًا عندما نعلم أن هناك تزامنًا وقتيًا في تنفيذ الغارات الإسرائيلية ضدّ هذه المحطات الجوية المهمة تارةً، أو تسلسلًا زمنيًا منطقيًا صاغته الظروف العسكرية في تنفيذها تارةً أخرى.

بشكل عام، اتخذت الضربات الإسرائيلية مسارًا تصاعديًا في تناسب طردي مع مسار أحداث المعركة الجوية التي تجري رحاها على الأرض السورية منذ عام 2013. لكن تفاصيل هذه القصة مرت بمراحل تطورية وتكاملية، سنقوم بسردها وفق الترتيب الآتي:

أولًا: مطاردة الشحنات المشبوهة داخل المطارات السورية (2013 – 2019)

يمكن القول إن الضربات الإسرائيلية على المطارات السورية بدأت فعليًا مع بداية عام 2018. ما قبل ذلك، ينظر إليه على أنه مناوشات متفرقة جرت خلالها ملاحقة بعض عمليات الشحن الإيرانية وتدمير بعض المستودعات على خط مطار دمشق – مطار المزة – الحدود السورية اللبنانية، إذ تشير المصادر إلى غارات جوية متفرقة على مطاري دمشق والمزة فقط، في الفترة الممتدة ما بين (2013 – 2017).

خلال هذه السنوات الثلاث الأولى، كان “فيلق القدس” منخرطًا بكامل ميليشياته التي يدعمها في المواجهات العسكرية الكبرى على الأرض السورية، كمعركة حلب (2013 – 2016)، وعلى ما يبدو كانت أغلب عمليات النقل اللوجستي للأسلحة والذخائر والمعدات مخصصة لدعم العمليات الحربية، على مختلف الجبهات السورية.

وكانت إحدى أهم تلك العمليات العسكرية هي المعارك التي خاضتها الميليشيات الإيرانية بقيادة قاسم سليماني، والعميد محمود تشهارباغي، القائد السابق لمدفعية الحرس الثوري الإيراني، لفك الحصار عن مدينتي نبّل والزهراء بأوامر مباشرة من خامنئي.

وفي الحقيقة، كان الثوار السوريون يخوضون معارك غير متكافئة، من حيث العتاد ونوعية التسليح، في مواجهة عدوّ اعتمد سياسية التركيز الناري والأرض المحروقة للسيطرة على المناطق الاستراتيجية في ريف حلب. ويظهر هذا الأمر جليًا في مقابلة مصورة للعميد محمود تشارباغي، مع وكالة أنباء (تسنيم)، نُشرت في 29 كانون الأول/ ديسمبر 2020، يكشف فيها عن وضع كلّ وسائل القصف العنيفة، ومنها المدفعية ومرابض الهاون والطيران الحربي والحوامات، تحت تصرف كتيبتي مدفعية مكونتين من عناصر “الحرس الثوري” وميليشيات “فاطميون” وبعض العناصر المحلية، كان قد شكّلهما في وقت لاحق في 30 تشرين الأول/ أكتوبر 2014، بهدف إحداث خروقات في جبهات الثوار[5].

صحيح أن سياسة الأرض المحروقة توفر كثيرًا من الأرواح في صفوف الطرف المهاجم، وتوقع مزيدًا من الخسائر في صفوف الطرف المدافع في المقابل، لكنها سياسية مكلفة وتحتاج إلى عملية مستمرة ومتواصلة من الدعم اللوجستي الخلفي، الذي كان يُؤمَّن جزء كبير منه من خلال المطارات السورية بين عامي (2013 – 2017).

وفي هذا الصدد، يكشف الكابتن أمير أسد اللهي، أحد طياري شركة (ماهان إير) المتورطة في نقل السلاح وعناصر الميليشيات الإيرانية على متن الرحلات المدنية إلى سورية، عن نقله سبعة أطنان من الحمولات الممنوعة بالإضافة إلى 200 مسافر إلى دمشق برفقة قاسم سليماني، في حزيران/ يونيو 2013، بحسب ما نقلت عدد من المواقع الإيرانية المقربة من الحرس الثوري، في 18 حزيران/ يونيو 2020 [6].

انشغال “فيلق القدس” بقيادة قاسم سليماني في الحرب السورية، في هذه الفترة (2013 – 2017)، يفسّر إلى حد بعيد سبب ندرة الغارات الإسرائيلية على المطارات السورية، خاصة مطار دمشق، رغم الدلائل التي تؤكد استخدامها من قبل “فيلق القدس” لأغراض عسكرية كنقل الميليشيات والشحنات المشبوهة. وهو ما يؤكد أن إسرائيل اتخذت بداية سياسة الحياد، وآثرت عدم التدخل عسكريًا في الصراع في سورية، ما دامت الشحنات العسكرية التي ينقلها “فيلق القدس” إلى سورية هي لمقارعة الثوار السوريين، ولا تشكل تهديدًا جديًّا على الأمن القومي الإسرائيلي.

رغم ذلك، سعى “فيلق القدس”، على هامش الحرب السورية المندلعة على أشدها في تلك الفترة، لاستغلال الموقف ونقل بعض الشحنات الحساسة، كصواريخ فاتح 110، التي عمد الجيش الإسرائيلي لتدمير مستودعاتها داخل مطار دمشق الدولي، في 3 أيار/ مايو 2013، بحسب ما نشرت القناة الثانية الإسرائيلية[7].

وفي تزامن واضح، سجلت الأحداث غارة إسرائيلية جديدة، بعد يومين فقط من الغارة الأخيرة على مطار دمشق، في 5 أيار/ مايو 2013، استهدفت شحنة أخرى لـ “فيلق القدس” داخل مطار المزة العسكري. وعلى ما يبدو، فإن الموقع الجغرافي لمطار المزة على خط التهريب البري نحو لبنان، وتمتعه بمرافق عسكرية كالمستودعات المحصنة مع مدرج قصير لا يصلح لهبوط طائرات الشحن الثقيلة، وضع هذا المطار ضمن الأهداف الإسرائيلية، بصفته محطة مؤقتة على طريق التهريب البري.

وبناءً على ذلك، اقتصرت الضربات الإسرائيلية على المطارات السورية بين عامي (2013 – 2017) على مطاري دمشق والمزة العسكري، وكانت السياسية الإسرائيلية للتعامل مع التهديدات الأمنية في سورية حينها هادئة ومتأنية، وتركز سعيها على ملاحقة الشحنات المشبوهة بعد وصولها لمطار دمشق أو في أثناء تخزينها داخل المستودعات وملاجئ الطائرات المحصنة في مطاري دمشق والمزة.

في الحقيقة، بدأت الضربات الإسرائيلية على المطارات السورية هادئة وحذرة ودقيقة في التصويب، لكن هذه المعركة أخذت مسارًا تصاعديًا مع بداية عام 2018، لتصبح أكثر شدة مع مرور الوقت، وتختصر بذلك الفواصل الزمنية التي تفصل بين استهداف المطارات المعنية.

الصورة رقم (1) – الضربات الإسرائيلية على مطار دمشق (2013 – 2022)[8]

في خضمّ ذلك، لم يأتِ التأني الإسرائيلي في معالجة تهديدات الأمن القومي في سورية بنتائج مرجوّة على أرض الواقع حينها، حيث كان يعمل الإيرانيون بهدوء وصمت على تحويل مطار التيفور، وسط البادية السورية، إلى قاعدة دائمة للتموضع العسكري وتطوير المسيّرات الإيرانية.

استغرق الأمر أكثر من تسعة أشهر، لم توجه فيها أي قذيفة صاروخية إسرائيلية نحو المطارات السورية، وهي مدة زمنية ممتدة منذ آخر غارة ضد ملاجئ الطيران المحصنة في المنطقة العسكرية لمطار دمشق الدولي في 26 نيسان/ أبريل 2017 [9]، حتى أول استهداف لمطار التيفور ضربَ إحدى مركبات التحكم بالمسيرات الإيرانية، بصواريخ دليلة الدقيقة، في 10 شباط/ فبراير 2018 [10].

وتعتبر هذه الفاصلة الزمنية هي الأطول بين فواصل المعركة الإسرائيلية ما بين المطارات السورية، التي أخذت ضرباتها تتولى بسرعة مختصرة المسافات الزمنية، وتُدرج ضمن أهدافها مزيدًا من المطارات السورية.

في خضمّ هذه التحولات، لم يأت اختيار الإيرانيين لقاعدة التيفور من عبث، فقد وقع اختيارهم على مطار بعيد عن الأنظار والعيون الاستخباراتية وعن متناول الضربات الجوية في وسط البادية السورية، فضلًا عن تمتعه بمدرج طويل صالح لاستقبال طائرات الشحن للثقيلة، ومرافق ضخمة متعلقة بالمستودعات المحصنة.

وإضافة إلى ذلك، ضاعف الموقع الجغرافي لمطار التيفور ووقوعه على خط التهريب البري (الحدود السورية العراقية – مطار التيفور – مطار الشعيرات – مطار الضبعة – الحدود اللبنانية السورية) من أهميته بالنسبة إلى الإيرانيين، وجعله قاعدة حيوية تصلح لاستقبال وتخزين وإرسال الشحنات المشبوهة في نفس الوقت.

وقد يكون اختيار مطار التيفور كمحطة جوية إيرانية أحد أفكار قاسم سليماني الذي كان يزور المطار بين الفينة والأخرى، وتعرف عليه على أرض الواقع في أثناء المعارك التي قادتها ميليشيات النظام السوري والميليشيات الإيرانية للسيطرة على مدينة البوكمال، في عام 2017، حيث كان يتخذ المطار نقطة انطلاق للعمليات البرية نحو الشرق، وقاعدة لتلقي الدعم الجوي الخلفي. وهذا ما تؤكده إحدى المنصات الإعلامية المقربة من “الحرس الثوري” بنشرها صورة نادرة لقاسم سليماني داخل المطار، في 14 نيسان/ أبريل 2020، أي بعد السيطرة على البوكمال بأكثر من سنتين[11].

لكن اختيار الإيرانيين لهذا المطار واستراتيجيتهم للابتعاد قليلًا عن مطار دمشق نحو الشمال، كان مكلفًا جدًا، لدرجة جعلت مطار التيفور يحتلّ ثاني أهداف قائمة الأولويات للضربات الإسرائيلية بعد مطار دمشق الدولي.

الصورة رقم (2) – الضربات الإسرائيلية على مطار التيفور (2013 – 2022)[12]

فيما بعد، بدت عملية التقلّص بين الفوارق الزمنية للمعركة الإسرائيلية ما بين المطارات السورية أكثر وضوحًا، حيث لم يمض أكثر من شهرين حتى وجهت إسرائيل ضرباتها الجوية الثانية إلى مطار التيفور في 8 نيسان/ أبريل 2018. وفي تطور لافت في الهجمات الإسرائيلية، لم تكن الضربات الجوية الثانية ضدّ مطار التيفور إسعافية أو جراحية تستهدف شحنات حساسة، بل كانت ضربات واسعة النطاق، طالت ما يعتقد أنه حظائر الصيانة في الجزء الأوسط من المجمع الأساسي لتطوير المسيرات داخل المطار، وحظائر الطائرات المحصنة[13]، وفي أعلى حصيلة للخسائر البشرية الإيرانية النادرة خلال الضربات الجوية الإسرائيلية، قُتل ستة عناصر إيرانيين تابعين لقوة الجو فضاء في “الحرس الثوري”، داخل المطار.

كان الرد الإيراني على القصف الإسرائيلي العنيف لمطار التيفور صاخبًا من الناحية الإعلامية، حيث ادعى العقيد يد الله جواني، مساعد الشؤون السياسية في الحرس الثوري، في وقت لاحق أنه تم الرد على الهجوم الصاروخي الإسرائيلي في سورية ضدّ ما سماه بالقوات الاستشارية لإيران[14]. وعلى خلفية هذا الهجوم الواسع، هدد حسن نصر الله، متزعم ميليشيات “حزب الله” اللبناني، الإسرائيليين بمواجهة مباشرة مع إيران[15].

لكن على أرض الواقع، بدت عملية الهروب الإيرانية نحو مطارات الشمال السوري أكثر إلحاحًا، تزامنًا مع الأنباء التي تحدثت عن توجيه ضربات جوية طالت مجمّعًا مدنيًّا (مركز زيدو لاختبار السيارات) قرب مطار النيرب في حلب، في 29 نيسان/ أبريل 2018 [16].

ويدفعنا الاستهداف الإسرائيلي لهذا المجمع المدني في محيط مطار حلب الدولي للاعتقاد بشدة أنه مرتبط بعمليات التهريب الجوي التي كانت تجري من خلال المطار. وعلى ما يبدو، فإن الموقع الجغرافي لمطار حلب الدولي في أقصى الشمال وانخفاض احتمالية تعرضه لضربات جوية، وتمتعه بمرافق وبنى تحتية جيدة، وإن لم تكن بمستوى جاهزية وتحصين مرافق مطار دمشق أو التيفور، وضع هذا المطار في المرتبة الثالثة على قائمة الأولويات للمعركة الإسرائيلية ما بين المطارات السورية.

الصورة رقم (3) – الضربات الإسرائيلية على مطار حلب (2013 – 2022)[17]

وبناءً على ذلك، كرّست الاستراتيجية الإيرانية اهتمامها على التقليل الأقصى من الخسائر المادية والبشرية عبر المناورة بين هذه الأولويات الثلاث (مطار دمشق – مطار التيفور – مطار حلب الدولي)، في حين استمرت الاستراتيجية الإسرائيلية المضادة بالمقابل في مطاردة الشحنات الحساسة بين هذه المطارات الثلاث، من دون تغيير جذري يذكر.

واستمرت الضربات الجوية الإسرائيلية في استهداف الحمولات المشبوهة ومقرات القيادة والمستودعات وملاجئ الطيران المحصنة، والمجمعات الصناعية المدنية، داخل وحول مطارات دمشق والتيفور وحلب والمزة والضبعة. ومع انخراط مزيد من المطارات السورية، تقلّصت الفوارق الزمنية التي تفصل بين الاستهدافات الإسرائيلية المتكررة لهذه المطارات، إلى شهرين كمعدل وسطي خلال العامين (2018 – 2019)، وهو ما ضاعف من أهمية دراسة هذه المعركة وضرورة تسليط الضوء عليها بشكل خاص.

ثانيًا: التعطيل المؤقت لعمليات النقل اللوجستي في المطارات السورية

شهدت الأعوام الثلاثة الماضية (2020 – 2022) طفرة في معدلات الاعتماد الإيراني على مسار التهريب الجوي عبر المطارات السورية، وهو ما جعل المعركة الإسرائيلية ما بين المطارات السورية بارزة بشكل أكبر من أي وقت مضى. وكان من الملاحظ أن الاستراتيجية الإسرائيلية للتعامل مع هذه التهديدات الأمنية لم تعُد تكتفي بمطاردة الشحنات الحساسة وضربها ضمن الموقع أو أماكن التخزين فقط، بل شهدت هذه الاستراتيجية تطورًا ملحوظًا خلال هذه الفترة.

وعلى ما يبدو، كان مقدار التدفق الإيراني للسلاح والذخائر الحساسة المهربة عبر المسار الجوي نحو سورية يفوق قدرة الإسرائيليين على تعقبه وملاحقته، مما استوجب اتباع استراتيجية جديدة تضاف إلى السلوك السابق القائم على ملاحقة الشحنات وتدميرها. وبنيت هذه الاستراتيجية بشكل تدريجي على ضرب المرافق المتعلقة بعمليات النقل اللوجستي وأنظمة الملاحة ومواقف الطائرات ومدارج المطارات السورية، والتي عادة ما تستخدم لتفريغ الحمولات العسكرية القادمة من طهران على متن رحلات شركات (فارس قشم) والقوات الجوية الإيرانية وطائرات الشحن السورية.

كان الهدف الإسرائيلي من وراء هذا التطوّر اللافت هو تأخير وصول الشحنات العسكرية الإيرانية إلى سورية، وهو ما أعطى مؤشرًا على أن النفوذ الإيراني في سورية يتعاظم مع انتهاء كبرى العمليات العسكرية على الأرض السورية. وعلى ما يبدو، بعد أن اطمأن الإيرانيون على مستقبل النظام السوري، بدؤوا في مراحل استثمار انتصاراتهم العسكرية على الأرض السورية[18].

ولتنفيذ مثل هذه الاستراتيجية، كان لا بد للإسرائيليين من استخدام نوع محدد من الذخائر التي تستطيع اختراق البنية التحتية للمدارج، وإحداث أكبر قدر من التخريب فيها، بهدف إطالة زمن التعافي لمدارج المطارات المستهدفة. وعلى سبيل المثال، أدّت أول ضربة جوية إسرائيلية من هذا النوع ضدّ ساحة المدرج الغربي لمطار التيفور، في 14 كانون الثاني/ يناير 2020، إلى تعطّل مؤقت، واستمرّت عمليات الصيانة مدة شهر تقريبًا[19].

في خضم ذلك، لم تكن استراتيجية التعطيل الإسرائيلي لعمليات التهريب الإيراني تُنفّذ دفعة واحدة، بل تنقلت تدريجيًا ضمن مستويات التصعيد من عمليات التعطيل المؤقت إلى عمليات الإخراج النهائي للمطارات السورية عن الخدمة.

وتشير التقارير إلى عدة غارات إسرائيلية نُفّذت ضد مطار دمشق الدولي خلال الأعوام (2020 – 2022)، منها ما أدى إلى تعطيل المدرج الجنوبي المخصص للرحلات العسكرية، ومنها ما نُفّذ ضد المدرج الشمالي لتقييد حركة الطيران العسكري، ومنها ما أدى في نهاية المطاف إلى تعطيل كلّي لمطار دمشق الدولي[20]، وفي ذات الاتجاه، ينطبق التقييم أعلاه نفسه على حالة مطار التيفور ومطار حلب الدولي.

في خضمّ سعيها لإعاقة عملية التهريب الجوي الإيراني إلى سورية، كانت إسرائيل تسعى لتوجيه رسائل لنظام الأسد وإيران بالكفّ عن استخدام المطارات لأغراض عسكرية. وهذا ما أكدته ثاني ضربة جوية إسرائيلية لمطار الشعيرات في 31 آذار/ مارس 2020، أي بعد الاستهداف الأخير للتيفور بشهرين ونصف، حيث كانت غارات جوية واسعة أدت إلى تعطيل المطار بالكامل، من بعد استهدافها لمدرجي المطار وأجهزة الملاحة وبعض الدفاعات الجوية[21].

الصورة رقم (4) – الضربات الجوية الإسرائيلية على مطار الشعيرات في 31 مارس/أذار 2020

صحيح أنّ الغارات الجوية على مطار الشعيرات كانت نادرة حينذاك، لكن هذه الضربة تعتبر أول حالة تعطيل كامل لمطار سوري، وهو ما أثبت أن استراتيجية تعطيل عمليات النقل الجوي مرشحة للتطور من خلال استخدام مزيد من القوة الجوية في قادم الأيام.

ثالثًا: التعطيل الكامل للمطارات السورية المعنية

في الوقت الذي كشفت فيه دارسة سابقة لمركز حرمون للدراسات المعاصرة عن زيادة ملحوظة في عدد الغارات الجوية الإسرائيلية المنفذة على الأرض السورية، في الأشهر الثمانية الأولى من عام 2022، بنسبة 22.5%، مقارنة بالفترة نفسها من العام 2021، تصاعدت المعركة الإسرائيلية بين المطارات السورية في عام 2022[22]، حيث استهدفت الغارات الإسرائيلية في عام 2022 أكثر من 25 هدفًا عسكريًّا داخل المطارات السورية المعنية بالدراسة (مطار دمشق – مطار التيفور – مطار الشعيرات – مطار حلب – مطار المزة – مطار الضبعة)، وهو ما يمثل زيادة بمقدار (92% – 19%) مقارنةً بعامي 2021 و 2020 على الترتيب.

وتشير هذه الزيادة الملحوظة، في كثافة الهجمات الإسرائيلية على المطارات السورية في العام 2022، إلى أن إسرائيل عمدت خلال هذه الفترة لاستخدام المزيد من القوة والذخائر بهدف التعطيل الكامل لعمليات التهريب الجوي عبر هذه المطارات.

أحد أبرز الأمثلة، في هذا الصدد، كان الاستهداف الواسع لمطار دمشق الدولي في 10 حزيران/ يونيو 2022، الذي أدى لتعطيل كامل للمطار بعد استهداف كلا مدرجيه[23]، والاستهداف الواسع الذي تلاه لمطار حلب الدولي في 6 أيلول/ سبتمبر 2022 [24].

الصورة رقم (5) – الضربات الجوية الإسرائيلية على مطار دمشق الدولي في 10 يونيو/حزيران 2022

الشكل رقم (1) – حالات التوقف المؤقتة والتعطل الكلي للمطارات السورية (2013 – 2022)

المطارحالات التوقف المؤقتةحالات التعطل الكلي
مطار دمشق الدولي61
مطار التيفور21
مطار حلب الدولي11
مطار الشعيرات01
مطار المزة00
مطار الضبعة10

توزّع الضربات الإسرائيلية على المطارات السورية مكانيًا وزمنيًا

طالت الضربات الإسرائيلية للمطارات السورية خلال العقد الماضي، أهمّ وأكبر المطارات المدنية والعسكرية، وتسببت هذه المعركة بخسائر مادية في البنى التحتية وبشرية فادحة. وأدى الاستغلال الإيراني لكبرى مطارات سورية الدولية، خاصة مطاري دمشق وحلب، لأغراض عسكرية، إلى خسائر اقتصادية جمة، نظرًا لما تمثله هذه المطارات من بوابات جوية تصل النظام بالعالم الخارجي.

وفي المحصلة، أصبحت مطارات دمشق والتيفور وحلب والشعيرات والمزة والضبعة مع مرور الوقت جزءًا من الأهداف العسكرية الواضحة والمتكررة للمعركة الإسرائيلية، خلال العقد الماضي. وشكلت الحملة التي قادتها الطائرات الحربية الإسرائيلية ضد هذه المطارات أكثر من 26% من مجموع الغارات الإسرائيلية المنفذة على الجغرافيا السورية منذ عقد من الزمن. أي إن أكثر من ربع الغارات الإسرائيلية المنفذة على الأرض السورية، خلال عقد من الزمن، كان مخصصًا للمعركة الإسرائيلية بين المطارات السورية.

الشكل رقم (2) – توزع الضربات الإسرائيلية على المطارات السورية حسب المطارات (2013 – 2022)

المطارعدد الضربات الجوية التي طالت المطارالنسبة المئوية للضربات الإسرائيلية على المطارات السورية
مطار دمشق الدولي4955.1%
مطار التيفور1213.5%
مطار الشعيرات1011.2%
مطار حلب الدولي910.1%
مطار المزة55.6%
مطار الضبعة44.5%
المجموع89100%

الشكل رقم (3) – التسلسل الزمني للضربات الإسرائيلية على المطارات السورية (2013 – 2022)

العام الميلاديعدد الضربات الجوية التي طالت المطارات السوريةالنسبة المئوية للضربات الإسرائيلية على المطارات السورية
201333.4%
201400
201511.1%
201611.1%
201722.3%
20181112.4%
20191213.5%
20202123.6%
20211314.6%
20222528%
المجموع89100%

الخاتمة

على الرغم من انتشار “فيلق القدس” الواسع في أكثر من 50% من المطارات السورية المدنية والعسكرية، لم يختر الانتشار الميداني وبدء عمليات النقل اللوجستي والعملياتي إلا في أكثر المطارات السورية تجهيزًا، من حيث المرافق والبنية التحتية كالمدراج الطويلة التي تسمح بهبوط طائرات الشحن الثقيلة، والمستودعات ومقرات القيادة والسيطرة، وملاجئ الطائرات المحصنة. وقد فرضت الظروف العملياتية في بعض الأحيان على “فيلق القدس” استخدام مطارات حربية سورية متواضعة، كمطاري الضبعة والمزة العسكري، لاستخدامها كمحطات مؤقتة على طريق التهريب الجوي والبري معًا نحو لبنان.

تبرز أهمية المعركة ما بين المطارات السورية، عندما نعلم أن “فيلق القدس” اضطر إلى المناورة بسبب الملاحقة الجوية الإسرائيلية وتوسيع خياراته ما بين المحطات الجوية السورية، متنقلًا بين مطارات الجنوب والوسط والشمال السوري لتفادي الخسائر المادية والبشرية. وتُظهر المعركة الإسرائيلية ما بين المطارات السورية في أكثر جوانبها أهميّة أنّ المسار الجوي الذي يستخدمه “فيلق القدس” لتهريب المعدات والأسلحة الدقيقة لم يكن المسار المفضّل فقط، بل كان مسارًا إجباريًا للمضي قدمًا بمشروع فرض وتعزيز النفوذ الإيراني في سورية، والاستمرار بدعم الحليف اللبناني، “حزب الله”.

ويظهر هذا الموضوع بجلاء ووضوح عند النظر بشكل خاص إلى خريطة المعركة الإسرائيلية على مطار دمشق أعلاه، حيث نجد عددا كبيرًا من النقاط التي تعرضت للقصف والاستهداف الإسرائيلي أكثر من مرة خلال العقد الماضي.

وبعيدًا عن المطبات الجوية، لا يوفر المساران البري والبحري أدنى مستوى من الحماية التي يمكن أن يحصل عليها “فيلق القدس” من خلال المسار الجوي، بالرغم من خطورته أيضًا. وخلافًا لما يعتقده كثيرون، لم تكن كل المطارات السورية مغرية بالنسبة للإيرانيين، رغم الانتشار العسكري الإيراني الواسع على الأرض السورية، ومن جملتها المطارات المدنية والعسكرية وبعض المطارات الزراعية. 

في خضمّ ذلك، لعبت بعض المميزات التي تمتعت بها بعض المطارات السورية، وبعض الظروف التي فرضتها المعركة الإسرائيلية، دورًا مهمًا في اختيار الإيرانيين المطار المناسب، ليكون أحد المطارات المعتمد عليها في مسار التهريب الجوي، وعمليات النقل البري والتخزين اللوجستي. ومن بين أهم تلك الميزات، مدى جاهزية مدراج المطارات وبناه التحتية لاستقبال طائرات الشحن الثقيلة، ومدى قدرة هذا المطار أو ذاك على تأمين عمليات التخزين اللوجستي. وإضافة إلى ذلك، لعب الموقع الجغرافي للمطارات السورية التي اختارتها إيران بعناية في بعض الأحيان دورًا حيويًا في أن يكون هذا المطار جزءًا من الأهداف العسكرية المشروعة للمعركة الإسرائيلية.

في المقابل، تدرّجت الاستراتيجية الإسرائيلية خلال العقد الماضي لمواجهة هذا التهديد الأمني في استخدام القوة الجوية، بدءًا من توجيه الضربات الدقيقة فيما يشبه وخزات الإبر ضدّ طرود الشحنات المشبوهة، والمستودعات المحصّنة داخل المطارات السورية، مرورًا بعمليات الإعاقة لعمليات الشحن الجوي، وانتهاءً باستخدام القوة المفرطة التي أدت في نهاية المطاف إلى تعطيل كامل لكبرى مطارات سورية الدولية والعسكرية.

في المحصّلة، يخبرنا هذا التدرّج في استخدام القوة الجوية الهائلة التي تملكها إسرائيل أنها مرشحة، في أي وقت تقتضيه المتطلبات الأمنية الإسرائيلية، للتصاعد لتشمل مزيدًا من المنشآت المدنية والصناعية والبنى التحتية، ما دام “فيلق القدس” الإيراني يعتمد عليها لأغراض عسكرية.


[1] – الجيش السوري الحر – الجزيرة نت – https://urlz.fr/jYqZ

[2] – قصة السيطرة على مطار تفتناز العسكري – الجزيرة نت – https://urlz.fr/jYt8

[3]– كيف يبدو مطار دير الزور العسكري بعد فك الحصار عنه؟ – بي بي سي عربي – https://www.bbc.com/arabic/media-41351639

[4]– قاسم سليماني يخاطب مجموعة من القوات الجوية التابعة للجيش الإيراني – وكالة أنباء تسنيم – https://urlz.fr/jYrT

[5]– محمود تشارباغي: رأيت أن كل شيء قد ضاع في سورية/ قصة حصار قاسم سليماني لمدة 18 يومًا في حلب – وكالة أنباء تسنيم – https://youtu.be/L9KwYa8P8dA

[6]– طيار ماهان إير: نقلنا شحنات ممنوعة إلى سورية برفقة قاسم سليماني -بي بي سي فارسي- https://www.bbc.com/persian/iran-53097786

[7]– نشر صور الأقمار الصناعية لغارة جوية إسرائيلية على مطار دمشق – لونغ وار جورنال – https://bit.ly/3I3JCLv

[8]– للمزيد، انظر مواقع الضربات وصور الأقمار الصناعية من خلال الرابط التالي – https://bit.ly/3uD0NvD

[9]– يمكنكم مشاهدة صور الأقمار الصناعية من خلال الرابط التالي – https://bit.ly/3h30maU

[10]– يمكن مشاهدة فيديو استهداف مركبة التحكم بالمسيرات الإيرانية في مطار التيفور في 10 شباط/ فبراير 2018 – موقع قوات الدفاع الإسرائيلية على يوتيوب – https://youtu.be/E0Jt_Vy4Mj0

[11]– صورة نادرة لقاسم سليماني في مطار التيفور (T4) أثناء معارك السيطرة على مدينة البوكمال – مشرق نيوز – https://bit.ly/3iBQ4Pd

[12]– للمزيد، انظر مواقع الضربات وصور الأقمار الصناعية على الرابط التالي: https://bit.ly/3uD0NvD

[13]– للمزيد، انظر صور الأقمار الصناعية من خلال الرابط التالي: https://bit.ly/3UOGPc4

[14]– صد الهجوم الإسرائيلي على الأراضي السورية… تسبب الهجوم على التيفور بأضرار مادية فقط – صحيفة شرق الحكومية – https://bit.ly/3uo6ZaF

[15]– نصر الله للإسرائيليين: وضعتم أنفسكم في مواجهة مباشرة مع الجمهورية الإسلامية في إيران – الميادين – https://bit.ly/3H9J1Ya

[16]– يمكنكم مشاهدة صور الأقمار الصناعية من خلال الرابط التالي – https://bit.ly/3Pc6GJr

[17]– لمزيد، انظر مواقع الضربات وصور الأقمار الصناعية من خلال الرابط التالي: https://bit.ly/3uD0NvD

[18]– عن كثب-إسرائيل تصعد حربها الجوية في سورية على التمدد الإيراني – وكالة أنباء رويترز – https://bit.ly/3I2DTWe

[19]– يمكنكم مشاهدة صور الأقمار الصناعية من خلال الرابط التالي – https://bit.ly/3BixOkz

[20]– انعكاسات التصعيد الإسرائيلي تجاه إيران على الساحة السورية – ندوة لمركز حرمون للدراسات المعاصرة – لمشاهدة الندوة من خلال الرابط التالي – https://bit.ly/3VCK3jZ

[21]– يمكنكم مشاهدة صور الأقمار الصناعية من خلال الرابط التالي – https://bit.ly/3h9QQ5M

[22]– تقرير عن الهجمات الإسرائيلية على سورية عام 2022 – مركز حرمون للدراسات المعاصرة – https://bit.ly/3W0B4bV

[23]– يمكنكم مشاهدة صور الأقمار الصناعية من خلال الرابط التالي – https://bit.ly/3FAa65P

[24]– يمكنكم مشاهدة صور الأقمار الصناعية من خلال الرابط التالي – https://bit.ly/3Fc75Y3