خبرنا الصهيونية جيدًا، ولكن لا أحد يصدّقنا، خبرنا استعلاءها إذا كانت في موقع القوة، وانتهازيتها ونفاقها إذا كانت في موقع الضعف، رأينا بأم أعيننا قسوتها وظلمها وارتكابها المجازر، حتى ضد اليهود أنفسهم، وكأنها تمارس طقوسًا دينية، وألاعيبها وخداعها واستخفافها بحقوق الآخرين، وبأمن العالم وسلامه، وباختصار؛ تأكدنا -بما لا يقبل الشك- أنها لا تحلل ولا تُحرِّم أمام تحقيق أهدافها.

في بداية القرن الماضي، بعد انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في (بال) في سويسرا، بدأت الحركة الصهيونية عملية تهجير اليهود إلى فلسطين تحت مُبرر أن المهاجرين يهود متدينون يودون العيش في البلاد التي كانت مهدًا للديانة اليهودية، وتحت هذا المبرر، تسللت مئات الأسر وآلاف الأشخاص إلى فلسطين. ثم استطاعت الحركة الصهيونية إقناع البريطانيين الذين انتدبوا لحكم فلسطين بعد الحرب الأولى، بإعطائهم مساحات من الأرض (أراضي الدولة) لبناء مستوطنات عليها يسكنها “هؤلاء الفقراء المعذبون”، حسب تعابير الصهيونية ويستثمرونها، “بعَرقهم وتعبهم”، وعمدوا إلى تسليح هؤلاء المستوطنين (لحماية أنفسهم) والقيام بالمهام “الدفاعية” الضرورية، بل شكلوا مجموعات عسكرية وفرقًا بحجة أنها ستحارب مع البريطانيين.

أقنعت الحركة الصهيونية أنصارها من اليهود البريطانيين الذين يتولون مهمات في الحكومة بأنّ دولتهم المنتظرة ستكون رأس جسر لبريطانيا، وحاجزًا يفصل عرب آسية عن عرب أفريقية (وهذه حقيقة) واستطاعوا الحصول على وعد بلفور وزير خارجية بريطانيا في هذا الإطار، وفي الوقت نفسه، طرحوا أنفسهم أمام الدولة السوفيتية على أنهم اشتراكيون طلائع، وأن مستعمراتهم بقعٌ اشتراكية في بلد متخلف، وأشاعوا في العالم كله مقولتهم الكاذبة أن “فلسطين وطن بلا شعب، وأن اليهود شعب بلا وطن”، وهي مهد ديانتهم، ومكان “دولتهم” الأولى، وأرضهم التاريخية.

كانوا يزوّرون ويكذبون أمام اللجان الأميركية والبريطانية والمختلطة ولجان عصبة الأمم التي تزور فلسطين للتحقيق، ويظهرون أمامها عكس ما يضمرون، وما إن صدر قرار التقسيم حتى قبلوه ثم أقاموا (الدولة) وانقلبوا عليه، واحتلوا مساحات واسعة من الأراضي التي كانت في نطاق الحصة الفلسطينية بموجب قرار التقسيم، فاستكملوا احتلال الأراضي حتى “إيلات”، وتوسعوا في احتلال أراض بالضفة الغربية، وقاموا بأبشع المجازر لطرد الفلسطينيين من قراهم.

عندما ناقشت هيئة الأمم المتحدة طلب قبول “إسرائيل” عضوًا فيها، اشترطت القبول بشرطين: الأول قبول إعادة اللاجئين إلى ديارهم؛ والثاني الالتزام بقرار التقسيم. وضمّنت قرارها بأن أي مخالفة لهذين الشرطين يُشكّل إخلالًا بمبدأ الاعتراف بدولة “إسرائيل”، وقبِل الصهاينة هذين الشرطين اللذين لم ينفذوا منهما شيئًا، وما زال الاعتراف بإسرائيل حتى الآن “رسميًا” غير قانوني، لرفضها تنفيذهما.

شاركت الدولة الصهيونية في العدوان على مصر، تحت مبرر رد عدوان مصر عليها، وبعد يومين من الحرب، اكتشف العالم الخدعة برمتها (أن لا عدوان عليها) من دون أن تهتز شعرة للدولة الصهيونية أو تشعر بالخجل أمام الرأي العام العالمي، وتكرر الأمر نفسه في عدوان حزيران/ يونيو 1967 على البلدان العربية، حيث زعمت القيادة الصهيونية أن عدوان يونيو كان لرد عدوان مصر، وانكشف الأمر بعد أيام من دون أن تخجل الدولة الصهيوينة من مزاعمها وأكاذيبها وخداعها.

بعد توسّع الأعمال المسلحة للمقاومة الفلسطينية، وتجذر العمل الفدائي، أطلقت الصهيونية تعبير “الإرهاب” على أعمال المقاومة، ومع أن القوانين الدولية والأخلاقية تبيح المقاومة، فإن الصهيونية وأنصارها الأميركان وبعض الأوروبيين كادوا يقنعون العالم بأن المقاومة هي الإرهاب بعينه، متناسين الاحتلال والعسف والظلم الذي يلحقه الصهاينة بالعرب. في الوقت الذي كانت تمارس فيه “إسرائيل” الإرهاب الصريح، وترسل من يغتال القادة الفلسطينيين والعرب، حيثما أمكن ذلك، ودائمًا تحت شعار “الدفاع عن النفس”.

منذ بدأت المفاوضات بين العرب و “إسرائيل”، بدأنا نشهد تعابير جديدة، ففي كامب ديفيد الأولى، أخذنا نسمع بتعابير (التنازلات، والتسوية والحلول الوسط وغيرها) وكأن الأرض المحتلة أرض إسرائيلية يطالب بها العرب! ولا بد من تسوية (وأحيانًا مؤلمة) ليعيدوا بعضًا من أرض العرب إليهم، وما زالت هذه التعابير مستخدمة، وانطلت حتى على العرب.

يقول المنطق الإسرائيلي إن الهزيمة لها ثمن، وبما أن العرب انهزموا عام 1967، فيجب أن يدفعوا ثمنًا، وعليه يطالبون بإبقاء جزء من الأراضي المحتلة في ذلك العام بأيديهم. كان هذا يصح لو اعترف العرب بالدولة الصهيونية بـ “حدودها” القائمة قبل عدوان حزيران، إلا أنهم يرفضون الكيان الصهيوني الذي قام عام 1948 برمّته، فكيف بهم يقبلون توسيعه في ضوء ما استجد بعد عشرين عامًا من قيامه؟ كاد اللعب بالألفاظ والتعابير ينطلي على الجميع، والمنطق يقتضي أنه إذا كان لا بد من تسوية فلنعد إلى ما قبل قيام الدولة الصهيونية، لنبحث عن إمكانية الوصول إلى هذه التسوية.

واشترط الصهاينة إيقاف “العنف” الفلسطيني، لاستئناف المفاوضات، ومن البديهي القول إن ما يجري هو مقاومة فلسطينية للاحتلال، وليس عنفًا، وأن من يريد إيقاف العنف عليه إنهاء الاحتلال. لقد أغرقت الصهيونية العالم بتعابير ومصطلحات عديدة، صدقها قسم كبير من الرأي العام، بل من التجمعات الدولية، وما هي إلا خدع وتلاعب بالألفاظ كثيرًا ما تخدعنا نحن ضحايا الصهيونية.

الجبهة الوطنية:

تقوم الجبهات الوطنية أو التحالف بين أحزاب الأمة وتياراتها السياسية وجميع قواها الحيّة، عندما تواجه الأمة مهمة كبيرة وأساسية يتبناها الجميع كهدف استراتيجي، وتتضاءل معها المطالب الأخرى الأقل أهمية، كأن يكون هذا التحالف لمواجهة غزو أو اعتداء أو تنفيذ خطة تنمية متفق عليها، أو مواجهة مهمة وطنية كبرى لا تقع في إطار الاجتهاد، ومن أجل هذه المواجهة تطوي التيارات أو الأحزاب أو الحركات الوطنية المتحالفة مطالبها الأقل أهمية، بانتظار تحقيق هذا الهدف الجامع المانع المصيري.

تحققت هذه التحالفات في مسيرة معظم الأمم، وحققت أهدافها غالبًا، ففي تاريخنا العربي شهدناها في الفتوحات الأولى، حيث تحالفت قبائل العرب وانتصرنا، وأيام الحروب مع الفرنجة (الصليبيين) حيث تحالفت الطوائف والمسلمين من مختلف القوميات وانتصرنا، وفي مواجهة المغول في عين جالوت بفلسطين، حيث تحالف الناس والمماليك وانتصرنا، وفي تاريخنا الحديث شهدناها في الجزائر وسورية ولبنان، حيث تحالف اليمين واليسار في مواجهة الاحتلال الفرنسي، وفي مصر في مواجهة الاحتلال الإنكليزي، ولاحقًا في مواجهة الاحتلال الإنكليزي، ولاحقًا في مواجهة العدوان الثلاثي، حيث نسي العرب خلافاتهم من محيطهم إلى خليجهم، وتحولوا إلى جبهة واحدة أسهم كل فصيل منهم بما يستطيع في رد العدوان.

تحققت الجبهة في فرنسا وإنكلترا وبلدان أوروبا الغربية خلال الحرب الثانية، وأهملت الأحزاب والكتل المتحالفة خلافاتها، فحارب القومي إلى جانب المتدين إلى جانب الشيوعي، حتى ستالين نادى بها لمواجهة الغزو الألماني، وخاطب شعبه بأبناء القيصر، وصالح الكنيسة ورجال الدين المسلمين، لتصبح شعوب الاتحاد السوفييتي كلها كتلة واحدة بوجه عدو خارجي غاز، وتناسى الجميع خلافاتهم الثانوية وبرامجهم السياسية أو الاجتماعية المرحلية.

توحّد الصهاينة في كل أطرافهم ضد الفلسطينيين والعرب، وشكّلت أحزابهم ائتلافات، من حزب “العمل” إلى حزب “الليكود”، و”شاس إسرائيل بعليا”، و”إسرائيل بيتنا”، و”شعب واحد”، و”الاتحاد القومي”، وجميعها أحزاب مختلفة البرامج متباينة الآراء، منها من يطالب بدولة دينية، ومنها من يطالب بدولة علمانية، منها العنصري المتعصب، ومنها الصهيوني المعتدل، ولا يجمعها إلا الإحساس بالخطر على “دولة إسرائيل”، والعمل “لأمن إسرائيل”، مع الاعتراف بسعي هذه الأحزاب لمصالحها الذاتية وانتهازيتها.

ما دام الأمر كذلك، فلماذا لا تقوم وحدة وطنية فلسطينية، أو جبهة موحدة، أو قيادة مؤتلفة، تجمع (فتح) إلى “الجبهة الشعبية” إلى “الجبهة الديمقراطية” إلى (حماس) إلى “الجهاد الإسلامي”، إلى كل فصيل فلسطيني، يناضل من أجل صد العدوان الصهيوني اللانهائي وتحرير الأرض المحتلة.

مهما كانت التباينات في برامج هذه الحركات والتيارات الفلسطينية؛ فإن الهدف الأول لها جميعًا هو تحرير الأرض ومواجهة العدوان، وما دام هذا هو الهدف الرئيس لها جميعًا، فلماذا لا تتحالف لتحقيقه! وعندما يتحقق فليذهب كل منها في طريقه، وليعمل بعدها لإنجاح برنامجه السياسي المختلف، إن كان هذا البرنامج مختلفًا فعلًا عن بقية البرامج.

قامت “منظمة التحرير الفلسطينية” على أساس مشاركة مختلف التيارات في تكوينها، ومرّت فترات عديدة كانت هذه التيارات والجبهات والحركات تأتمر بأمر قيادة موحدة، حتى إنها خضعت مع القوى الوطنية اللبنانية لهذه القيادة، عندما واجهت خطر إبادتها في لبنان، ثم تبعثرت أيدي سبأ، وزادت بعثرتها بعد اتفاقيات أوسلو لاختلاف المواقف من هذه الاتفاقيات، أما الآن والشعب الفلسطيني مهدد بوجوده، محاصر في سجن كبير، يعاني الجوع والبطالة إضافة إلى القتل والإبادة، وتدمير البيوت وقلع الشجر، ويزداد العدو الصهيوني صلفًا ووحشية، والوضع العربي على ما هو عليه من التفكك والتردي، وقد فقد القطب الواحد بصره وبصيرته وضميره وأخلاقه، أفلا يستحق كل هذا قيام جبهة وطنية فلسطينية موحدة، تجمع الأحزاب والحركات والتيارات الفلسطينية بقيادة واحدة، وفي إطار استراتيجية واحدة؟

إن أي مبتدئ بالسياسة يعتبر هذا أولوية الأولويات، وأي مناضل يراه قرارًا لا بد منه، وأي سياسي أو مسيس أو شبه مسيس يجده الطريق الوحيد للمواجهة والخلاص. ومع ذلك، ما زالت المنظمات الفلسطينية تتفرج، وتصدر البيانات والتهديدات، دون أن تعمل بمسؤولية وجدية لقيام جبهة وطنية بقيادة موحدة، تنسق الجهود وتضع الخطط وتواجه أخطر تهديد مسلط على الشعب الفلسطيني طوال تاريخه.