ورقة قُدمت في إطار اللقاء الحواري الأول لـ صالون الكواكبي – مركز حرمون للدراسات المعاصرة – حول قضايا “الدين والدولة والسياسة” – إسطنبول في يومي 8 و9 تشرين الأول 2016.
المحتويات
أوّلًا: حول الصراع الدائر في سورية
1- السيناريو الأول، الحل السياسي
أ- توسيع هامش المشاركة السياسية حكومة وحدة وطنية
هـ- قوات خارجية لإدارة مرحلة انتقالية
2- السيناريو الثاني: تصعيد وتيرة العنف
ثالثًا: تطلعات القوى ذات المرجعيات الوضعية تجاه المستقبل
رابعًا: الحاجة إلى دولة سورية قادرة وعادلة وفاعلة
1- إطار الخروج من مأزق الدولة السورية
خامسًا: متطلبات المرحلة الانتقالية
سادسًا: دحر الثقافة القائمة على النمط الاستبدادي
1- كونية حقوق الإنسان وشموليتها
3- إعادة الروح إلى المجتمع المدني
مقدّمة
شهد الحراك الشعبي السوري تحوُّلات وانعطافات حادة، دفعت وجهته العامة في منحى انحداري، أفضى إلى ما يجري الآن من كارثة إنسانية وحرب قذرة، تطبعان المشهد السوري في مستوياته كافة.
ويبدو واضحًا أنّ الثورة قد تحولت، بعد محاولات إجهاضها عبر تطييفها وعسكرتها، إلى ما أصبح يسمى بـ “المسألة السورية”، ومنذ هذا التحول آلت سورية إلى ملعب لأطراف وقوى دولية وإقليمية ومحلية ولأجندات ليس للشعب السوري مصلحة بها من قريب أو بعيد.
فما مآلات سورية على صعيد الدولة والمجتمع، وعلى صعيد الجغرافيا والديموغرافيا؟ وما الإجماعات الجديدة التي ستتشكل عند السوريين؟ وما موقف المرجعيات العلمانية تجاه مستقبل سورية؟
أوّلًا: حول الصراع الدائر في سورية
الصراع في سورية صراع إقليمي ودولي عبر السوريين، ولن ينتهي إلا إذا جرى توافق إقليمي-دولي للخروج منه. وهناك بالفعل إرهاصات لبدء مفاوضات حول الأزمة السورية. لكن، ليس من أجل إيجاد حلّ للأزمة، يلبِّي الحدّ الأدنى من مطالب السوريين الذين أصبحوا ضحية صافية للمصالح الإيرانية والروسية والدولية، إنما لتكريس المكتسبات التي حققها فرسان الحرب الحقيقيون. ويبدو الملف السوري مؤجّلًا إلى ربيع العام المقبل، عندما تكون الإدارة الأمريكية الجديدة قد بدأت في ترتيب أوضاعها، بعد وصول الرئيس الجديد إلى سدة البيت الأبيض.
ثانيًا: سيناريوهات المستقبل
1- السيناريو الأول، الحل السياسي
عند تناول مسألة الحل السياسي في سورية يجدر بنا الانطلاق من عنصرين: أولهما، أنّ الوضع يشهد حالة استعصاء، حيث لم تعد السلطة قادرة على الحسم العسكري، كما أنّ الكتائب المسلحة مفكّكة ومن دون سلاح كافٍ. وثانيهما، أنّ اللعبة أصبحت خارج الحدود ولا يحكمها طرفان سوريان متصارعان، مهما كان رأيُ كلّ منهما، فلا أهمية جدية وواقعية لموقفهما بإقرار التسوية، فهذه أصبحت في يد الدول الإقليمية والدولية، وسوف يُكَلَّف الطرفان السوريان بتوقيعها وتنفيذها بعد التوافق عليها إقليميًا ودوليًا.
أ- توسيع هامش المشاركة السياسية حكومة وحدة وطنية
تذهب أفضل الحلول، التي تروج لها موسكو وطهران، إلى تشكيل توليفة من السلطة والمعارضة، على أساس أنّ اجتماع الطرفين كفيل بتسكين الجبهات واستعادة السلطة والأمن وإمكانية ضبط الأوضاع في البلاد، وليس من المنتظر أن تخلص النوايا لإنجاح مثل هذا الحل، وسيكون فرصة -فحسب- لإفشال الأخر، وإظهاره بمظهر غير القادر على إنجاح الحل، بمعنى أنّ هذه التوليفة ستتحول إلى جبهة إضافية من جبهات الحرب ليس أكثر.
ب- النموذج العراقي
يتوقف فيه الصراع أو ربما يتحول إلى مواجهة تنظيم “داعش”، في حين يسيطر أمراء الحرب –الذين يمثلون عمليًا أطرافًا خارجية إقليمية وغربية– على السلطة ويتقاسمون النفوذ فيما بينهم.
ج- التقسيم والنظام الفدرالي
إنّ الحل في النهاية لا يمكن أن يكون إلا في قيام دولة ضعيفة تعطي المكوِّنات، تحت هذه التسمية أو تلك، حق إدارة جزء غير يسير من شؤونها. ولن تكون رحلة سورية في اتجاه الأقاليم سهلة، لأنّ الاستسلام للأمر الواقع الحالي يعني فوز “داعش” بإقليم مفروض، و”فتح الشام” بإقليم آخر، وثالث للجيش الحر، فضلًا عن إقليمي النظام والأكراد.
دـ- تشكيل هيئة حكم انتقالية
في ظل الاستعصاء القائم نتيجة فوضى التدخلات الإقليمية والدولية، وفي ظل ارتباط الحل بقوى خارجية، لا بد من حل يوصل إلى استقرار، ويبدو أنّ الحل الوسط الوحيد لتحقيق ذلك رحيل بشار الأسد وحاشيته، وتشكيل هيئة حكم انتقالي.
هـ- قوات خارجية لإدارة مرحلة انتقالية
تتشكل من دول من الإقليم ودول خارجية، تساهم في فرض الحل وإدارة مرحلة انتقالية يتم خلالها تفكيك عدّة الفوضى على الأرض السورية وتشكيل جيش وطني وقوات شرطة وتستعيد عمل المؤسسات وتؤسس لوضع دستور جديد، وبقاء هذه القوى لمدة خمسة أعوام على أقل تقدير، تنظم خلالها عملية مصالحة سورية وإعادة الإعمار وعودة النازحين واللاجئين.
2- السيناريو الثاني: تصعيد وتيرة العنف
ما يثار عن مبادرات سياسية ليس أكثر من ذرٍّ للرماد في العيون، حيث لا مصلحة دولية عمومًا وأمريكية تحديدًا، في إنهاء الصراع السوري مادام يحقق لأصحاب هذه المصلحة أكبر فائدة في تاريخ مواجهة الإرهاب، وهو كشف أهم قادته وكوادره واستجرارهم إلى المحرقة، ومادام الصراع صالحًا للاستثمار في استنزاف خصومهم. ومرة ثانية، لأنهم يعتقدون أن المجتمع الدولي، وإن كان راغبًا في وضع حدٍّ لما يجري في سورية، فهو غير قادر؛ بسبب خصوصية الصراع وتشابكاته الإقليمية. أما بالنسبة إلى روسيا؛ فإنّ تصعيد العنف يغدو واحدةَ من الأوراق التي يمكن أن توظفها لمقارعة الغرب، ولتخفيف حدة العقوبات الاقتصادية عنها.
وداخليًا، يُعتَقد أنّ السلطة ليست على استعداد لتقديم تنازلات سياسية، وتاليًا، ليست في وارد التراجع عن خيار الحسم العسكري، وتصعيد وتيرة العنف، لسحق ما تعدّه مجموعات مسلحة متآمرة، ولإعادة المجتمع إلى بيت الطاعة، في حين يصعب على المعارضة السياسية قبول أيّ حلّ أو مبادرة لا تتفق مع مطلبها في إحداث تغيير جذري، خصوصًا أنها محكومة برفض أشدّ يرجّح أن يأتي من الجماعات العسكرية المنتشرة على الأرض، وهي الأكثر تأثيرًا في مجريات الصراع.
وهكذا، لا يمكن لأحد أن يتنبَّأ بما ستحمله الأشهر أو السنون القادمة، فقد يطول الصراع، ما يعني المزيد من التدمير والتقتيل والتهجير.
ماذا يعني ذلك؟ يعني أنّ الأزمة السورية سيتم وضعها في موقف اختباري جديد وقاسٍ، نظرًا إلى عدم نضج الأوضاع المناسبة للحل، ولعدم قدرة الرعاة على وضع تصورات متماسكة للحل، وآليات قادرة على إنجازه.
عندها قد يجتمع مجلس الأمن، وينجح في إصدار قرار ملزم تحت الفصل السابع يطلب من جميع الفرقاء وقف إطلاق النار، وتثبيت الحدود القائمة التي ترسم الخريطة الجديدة للمنطقة، بعد أن شاخت خريطة سايكس-بيكو وهرمت وحان وقت دفنها، وقد بدأت بمحو حدودها كل من “داعش” و “فتح الشام”.
ثالثًا: تطلعات القوى ذات المرجعيات الوضعية تجاه المستقبل
القوى الحقيقية، التي تنزل إلى الشارع، تتبنى، بشكل واضح، تصورًا مستقبليًا لسورية: ديمقراطية، دولة كل مواطنيها، ودولة قانون وحريات عامة وفردية تنبذ العنف والطائفية. والأسئلة الرئيسية هي: كيف يمكن أن يتحقق الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية في سورية؟ أي كيف يتم تفكيك النظام الشمولي والدولة الأمنية؟ وكيف يعاد إنتاج النظام السياسي على نحو يؤسس لديمقراطية تشكل أساسًا للتغيير بجميع مستوياته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، بما يفرضه ذلك من إعادة بناء الدولة السورية الحديثة؟ وما الذي ينبغي تغييره؟ وما الذي ينبغي الإبقاء عليه؟ وكيف نضمن التطورات المستقبلية؟ وماذا نفعل بالثقافة السلطوية القديمة؟ وهل التغيير يحدث من تلقاء نفسه أم لابد من إدارته؟ وما هي الفترة التي ستستغرقها عملية التحول؟ وهل يمكن لثقافة بكاملها أن تتغير لتحل محلها ثقافة أخرى؟
لن تكون سورية بعد اليوم مزرعة لأحد، كما كانت لعقود طويلة، وإنما وطن الحرية والكرامة لجميع أبنائها، لن تكون بلد التمييز والظلم والإقصاء، بل وطنًا واحدًا لشعب سوري موحّد، لا حديث فيه عن أكثرية وأقلية بل مواطنية ومساواة، لا يراعي في معاملته مع أبنائه أي صفة قوميّة أو مذهبيّة أو طائفيّة أو مناطقيّة، ولا امتياز فيه إلا للكفاءة والإخلاص، والمقدرة على البذل والتضحية في سبيل المجموع. سيحمي دستور سورية الجديدة حقوق كل مكوّنات المجتمع السوري، حيث سينال فيها الأكراد والأشوريون والتركمان ما حُرموا منه من حقوق وما عانوه من تمييز. ستُفصل في سورية الجديدة السلطات القضائية والتشريعية والتنفيذية، وستحاسَب فيها الحكومة المقصّرة وستكون السلطة بيد الشعب يقرر من يحكمه عبر صناديق الاقتراع. ستكون سورية المستقبل دولة الحق والقانون، يتساوى فيها الجميع أمام القضاء المستقل، ويكون للجميع الحق ذاته في تشكيل المنظمات والأحزاب والجمعيات، والمشاركة في صنع القرار.
رابعًأ: الحاجة إلى دولة سورية قادرة وعادلة وفاعلة
دولة الحق والقانون والمؤسسات الدستورية والتنمية الشاملة المستدامة، حقوق المواطنين فيها هي واجبات الدولة، بما هي دولة الكل الاجتماعي. هي دولة جميع مواطنيها بلا استثناء ولا تمييز، يشارك فيها الأفراد والفئات الاجتماعية مشاركة فعلية من خلال المؤسسات.
1- إطار الخروج من مأزق الدولة السورية
إنّ الحل للخروج من مأزق الدولة السورية المستمر هو مغادرة بنيان الإقصاء والعنف إلى رحاب بنية اجتماعية- سياسية- ثقافية- تقوم على العمل المنتج واستثمار الموارد الاقتصادية والبشرية وزيادتها، وتحرر إرادة الوطن والمواطن، والإطار الصحيح لقيام هذه البنية يشترط ما يأتي:
أ- المواطنة عقدًا لتنظيم علاقات الأفراد والجماعات.
ب- الديمقراطية إطارًا لقيام مشاركة سياسية تضمن فصل السلطات، التنفيذية والتشريعية والقضائية، وتداولها.
ج- التنمية الشاملة لاستثمار الموارد الاقتصادية والبشرية وتطويرها وتوظيفها لقيام اقتصاد منتج، يرفع مستوى معيشة السكان ويؤمن العدالة الاجتماعية.
2- دولة لا مركزية إداريًا
تبدو سورية اليوم، بعد خمس سنوات ونيف على الثورة المطالبة بالحرية والكرامة، ملغّمة بكل عوامل الانفجار الداخلي، وعصيّة على التوحد الوطني ضمن دولة مركزية، ما يتطلب البحث عن صيغ أكثر جدوى لإعادة بناء الدولة السورية الحديثة في ظل الجمهورية الثالثة القادمة. وبما أنّ السلطات المركزية المتعاقبة لم تستطع النهوض بعبء مهام بناء الدولة الوطنية الحديثة، فإنّ العقلاء يعتقدون أنّ اختفاء رائحة الموت من سورية مشروط اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بالدعوة الصريحة إلى إقامة نظام لامركزي يكفل الوحدة الوطنية.
إنّ الخيار ليس بين المركزية الطاغية، أو التقسيم، أو الفدراليات الطائفية، بل هو بين هذا كله وبين نظام ديمقراطي حقيقي، تضمن فيه صلاحيات الحكومة المركزية، في المجالات الكبرى كالخارجية والدفاع والعملة وإدارة الثروة النفطية، حكومة قادرة على حل القضايا المعلقة والشائكة. إنه أيضًا النظام الذي يضمن، في الوقت نفسه، أوسع الصلاحيات للمحافظات والمناطق والنواحي والبلديات.
خامسًأ: متطلبات المرحلة الانتقالية
إنّ طبيعة الفترة الانتقالية أنها مرحلة استعادة توازن المجتمع، وترميم ما تصدع من أعمدة الدولة التي سعى النظام السابق لهدمها. وهي التي يتم فيها إرساء الأساس الذي يبنى عليه المستقبل، وخطورتها أنها تتفشى فيها التحركات المضادة للثورة، والتي تعرف، في علم دراسات الثورات والتحولات التاريخية، بـ “فوضى ما بعد الثورة”.
تكتنف تلك المرحلة مهمات متنوعة، كصياغة دستور جديد، وتشريعات تضمن حقوق الإنسان والمواطنة، وقضاءً مستقلًا وإعلامًا حرًّا، وتنمية مستدامة، ومؤسسات نزيهة لضمان الأمن. وأكثر ما يهدّدها هو العمى الأيديولوجي لدى بعضهم، والتعصب الفئوي لدى بعضهم الآخر، اللذان ينذران بنشوء بؤر متفجرة للنزاعات الطائفية أو المذهبية أو القومية، ما يفسح في المجال أمام تصاعد العنف وإسقاط مشروع الانتقال الديمقراطي برمّته في أتون الفوضى والصراع الأهلي.
ولأنّ الاستبداد والتسلط بنية، وليس مجرد فرد أو نظام، فإنه ما لم تهتدِ سورية إلى أنّ تأسيس الانتقال الديمقراطي ينبغي أنْ يرتكز على ضمان الحريات الشخصية والعامة، وتداول السلطة، والحريات الدينية والسياسية للمواطنين، وإبعاد الدين عن أنْ يكون مادة للدعاية الانتخابية والحزبية؛ فستبقى بنية الاستبداد -إذا لم تتوجّه سورية نحو الخيارات السابقة- قائمة مهما تنوعت أشكاله. وبالتالي، فإنّ نجاح الثورة السورية في تحقيق أهدافها لا يقاس -حصرًا- بقدرتها على إطاحة نظام الاستبداد بقدر ما يقاس بقدرتها على إقامة نظام بديل لذلك الذي قامت من أجل إسقاطه.
وختامًا، يمكن القول إنّ عملية التحول الديمقراطي في أمسّ الحاجة إلى توافر مجموعة من العوامل المهيِّئة لنجاحها وفي مقدمتها: التوعية السياسية المكثفة، والعمل الجماعي السياسي، وعقد تحالفات أوسع نطاقًا، والبحث عن وسائل سلمية للاحتجاج والمعارضة، وتوظيف الدعم الدولي لما يخدم المصالح الوطنية العليا. حيث تشكل هذه العوامل مداخل إستراتيجية لا غنى عنها في إطار إحداث التحول الديمقراطي المنشود في سورية.
سادسًا: دحر الثقافة القائمة على النمط الاستبدادي
من المؤكد أنه ليس في الإمكان نقض الاستبداد وبناء الديمقراطية من دون دحر الثقافة السياسية والمدنية القائمة على النمط الاستبدادي، ومن دون الانتصار للنمط الديمقراطي القائم على الحرية والتسامح والمساواة والمشاركة السياسية.
إنّ عملية التحول الديمقراطي تقتضي إعادة صياغة القيم السائدة، وتغيير أنماط السلوك من خلال مجموعة كبرى متكاملة من التحولات، من أهمها: التغيير من مناخ اليأس والقدرية إلى مناخ الثقة بالذات والقدرة على التحكم في المصير، والانتقال من القدرية التي يسيطر عليها الماضي إلى التوجهات المستقبلية. كما أنها تقتضي القطيعة مع ثقافة سياسية شعاراتية، خالية من أيّ مضامين عملية ذات صلة بالسياسات المعاصرة. وفي هذا السياق لا ينبغي توجيه طاقات الشعب السوري لتصفية الحساب مع الماضي، وإهمال تحديات الحاضر وتأجيل التفكير في آفاق المستقبل.
1- كونية حقوق الإنسان وشموليتها
مفهوم حقوق الإنسان في الوقت الحاضر مفهوم شامل لا يقتصر على فئة واحدة من الحقوق من دون غيرها، فهو يشمل حقوق الأفراد والجماعات والشعوب، كما ينطوي على حقوق سياسية ومدنية مثلما ينطوي بنفس القدر على حقوق اقتصادية واجتماعية وثقافية.
2- الخيار الديمقراطي
صارت الديمقراطية ضرورة لا غنى عنها، واختيارًا لا مفر منه، فهي معيار صلاحية الاختيارات الأخرى على صعيد السياسة والمجتمع والاقتصاد والثقافة، إنها ما يمنح هذه الاختيارات جميعها بعدها الإنساني. ولا يمكن تمثّل هذه التحولات بعمق إلا في إطار الدولة الحديثة التي تقوم على أسس ثلاثة: فصل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، ورقابة المجتمع على سلطة الدولة، وخضوع سلطة الدولة نفسها للقوانين التي تسنّها.
3- إعادة الروح إلى المجتمع المدني
من غير الممكن تصور سورية لكل مواطنيها بمعزل عن عودة الروح إلى المجتمع المدني، وضمان مؤسساته المستقلة عن سلطة الدولة، كي يستردّ المجتمع حراكه السياسي والثقافي، بما يخدم إعادة بناء الدولة السورية الحديثة.
4- مؤتمر وطني عام
إنّ إنجاز التغيير الديمقراطي، في جميع البنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، بات ضرورة للتمكن من التعاطي المجدي مع تحولات العالم المعاصر طبقًا للمصالح الوطنية السورية العليا. ولعل برنامجًا شاملًا، يصوغه مؤتمر وطني عام، يساعد على الخروج من خيارات الماضي، الذي يفتقد حرارة التواصل مع الحاضر والمستقبل، إلى خيارات المستقبل التي تفتح الأفق أمام انطلاق مبادرات كل مكوّنات الشعب السوري.
خاتمة
سورية أمام تحديات حقيقية تستوجب تفعيل الخيارات الممكنة، من خلال إرادة سياسية لرجال دولة عقلاء، وإدارة مجدية لكل إمكانياتها المتوفرة، بهدف التعامل مع المطالب الشعبية بإيجابية، فليس من الواقعية والعقلانية أن تغمض سورية أعينها عن مختلف الخيارات والقدرات التي يمتلكها شعبها.
يحتاج السوريون اليوم للتوافق على خطّة واضحة ومتكاملة للتغيير المنشود في المرحلة القادمة في ظل المعطيات الواقعية الحالية. خطّة تستند إلى رؤية واضحة للتغيير، تقوم على شرح كيفية تحويل موارد المجموعات المؤمنة بهذا التغيير إلى عوامل قوة ومصادر طاقة من أجل إنجاز العمل في اتجاه التغيير المطلوب.
إذ لا يمكن الاستمرار على النهج القديم، الذي أدى بالثورة إلى إضاعة البوصلة والطريق. الاستمرار في تجاهل الواقع، ونكران التحولات العميقة التي شهدتها مسيرة الصراع من أجل الحرية والكرامة على عموم الأرض السورية، لا يساعد على التقدم ولا يفتح أي طريق سالك من أجل إنقاذ رهانات الشعب السوري الأساسية، وإيجاد شروط خروج الملايين من أبنائه من حياة التشرد غير إنسانية.
نحن اليوم أمام مفترق طرق، إما تسليم سورية للقوى الإقليمية والدولية، لتبقى ساحة صراع وتفاوض بين هذه القوى، أو استعادة زمام الأمور عبر التعويل على كامل الشعب السوري، والعمل على تحقيق آماله وتطلعاته.
وبناء على ما تقدم، يبقى العامل الذاتي الوطني حجر الأساس في أيِّ تعامل مع المبادرات والجهود التي تقارب المسألة السورية. فمن دون قيادة سياسية متماسكة للمعارضة تمتلك رؤية سياسيّة واضحة ومطَمْئِنة لسائر المكوِّنات السورية، على قاعدة احترام الحقوق والخصوصيات، وتكون بعيدة كل البعد من التعصب والتطرف، وتأخذ في اعتبارها المعادلات الإقليمية والدولية، وتؤكد للجميع أنّ سورية المستقبل ستكون عامل استقرار وانسجام لمصلحة الجميع، ستبقى الأمور عائمة، مفتوحة على غير ما هو منشود.
يستدعي هذا، قبل أي شيء آخر، العودة إلى ذاتنا، واستعادة روح الثورة والمبادئ التي كانت تمثلها، في الحرية والكرامة وحق الشعب في تقرير مصيره، ورفض المساومة على القضية التي ضحَّى من أجلها ملايين السوريين، بعضهم بروحه وبعضهم بمستقبله وكل ما يملك، فمن دون إحياء روح الثورة من جديد، وتعميم إشعاعها في قلوب أغلب السوريين، لن يبقى هناك أيُّ معنى، وسيتحول الكفاح البطولي المرير للشعب السوري، منذ خمس سنوات، إلى اقتتال مجاني، عبثي.