ليس لي في أميركا ناقة ولا جمل، ولكنني متابع جيّد لكفاح الإنسان في العالم الجديد، ونجاحه في بناء جنّته على الأرض، وتنعّمه بالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان.
ومع أن النظام في الولايات المتحدة رئاسيّ مركزي، يمنح الحاكم صلاحيات كبيرة، وينتخبه الشعب بشكل مباشر، حيث يسكن الرئيس البيت الأبيض ويتمتع بصلاحيات هائلة، ويتربع نائبه على رأس الكابيتول، فإنه مع ذلك مقيّد بقيود الديمقراطية المتينة التي تلزمه احترامَ القانون، وتمنح القضاءَ استقلاله التام للمساءلة والمحاسبة، وتمنح السلطة التشريعية الاستقلال والحرية والمسؤولية.
وربما كانت النهايات البائسة التي شهدتها الأيام الأخيرة لحقبة ترامب درسًا فريدًا لم يحدث من قبل، حيث يقف على رأس السلطة مستبدٌ غاضبٌ بمزاج شرق أوسطي، يصرّح -جهارًا نهارًا- بأنه لن يعترف بالانتخابات، وبأنه المؤتمن على أميركا وشعبها ودستورها وتاريخها وعظمتها، وبأنه القائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة، وبأن المحكمة الدستورية العليا في جيبه؛ لأن ستة من أصل تسعة من أعضائها جمهوريون، منهم ثلاثة عيّنهم بنفسه!
ولكن الديمقراطية العميقة قدّمت نموذجًا آخر للمشهد الأميركي، وفرضت قواعدها على لعبة السياسة، ومع أن الرجل ذهب في الغوغائية إلى أبعد مدى، فإنه لم يستطع أن يهزّ عرش الديمقراطية التي منحت الإنسان حريته وأمانه وكرامته، وقبل أسابيع، غرّد غاضبًا: “أنا رئيس الولايات المتحدة، ومع ذلك لا يسمحون لي باللجوء إلى المحكمة العليا!”. والواقع أنه بالفعل لا يستطيع الذهاب إلى المحكمة العليا، بل لا يملك على الإطلاق أن يتصل بأي من القضاة المدهشين المؤتمنين على كرامة أميركا وتاريخها وشعبها، وستكون أكبر فضائح السياسة الأميركية أن يتّصل رئيس الولايات المتحدة بقاضٍ من القضاة التسعة أو أن يطلب منه فعل أي شيء!!
بالطبع، لا يمكننا تخيّل هذه الصور البائسة، في وطنٍ يقوم فيه الاستبداد بكتابة الأحكام الجاهزة في غرف سوداء ليس لها أي صلة بالعدالة ولا بالإنسانية ولا بالواقع، ثم يقوم بتبليغها للقضاة المكلفين، عن طريق مكتب الأمن، حيث لا يكون للقاضي حول ولا قوة، وليس أمامه إلا السمع والطاعة!!
يقولون إنك مبهور بالحضارة الغربية! وجوابي هو الإيجاب بالطبع؛ فأنا مفتون بها حتى الثمالة، وهي الأماني التي أتمناها لبلادي، ولا يسوءُني أن أُسمّى “بوق الحضارة ومطبّلها”، فقد حان الوقت للاعتراف تمامًا بأننا نسير عكس التاريخ، ونرفض الاعتراف بالنجاح الذي حققته الأمم، وبدلًا من بناء مستقبلنا، فإننا نوغل في الماضي، وبدلًا من اتباع الأمم الناجحة، فإننا نمضي إلى تجميل الأمم الفاشلة، وبهرجة ممارسات استبدادية كانت السبب في انهيار حضاري وأخلاقي، ثم القول إننا نمارس “الأصالة والالتزام”، ولا ننخدع بالشعارات البراقة، ثم نمضي بحماس نسير بالأمة عكس التاريخ، ولستُ أدري ما الفائدة من السيارة السريعة والهمة الكبيرة، إذا كان الاتجاه خاطئًا!!
لا أكتبُ مقالي في التحليل السياسي، ولا بأس عندي في أن يُسمى مقالًا وعظيًا، فإنّ أقدس ما يقوم به القلم في سياق مساعدة أمته هو أن يصْدُقَها في المليح والقبيح، وأن يتوقف عن تجميل ما ليس بجميل. وإنّ الرائد لا يكذب أهله، وعليه أن ينأى بالمجتمع عن القبور، وأن يأخذهم بأمانة إلى الأفق الذي تشرق منه الحياة.
تظهر قِيم الشورى في التاريخ الإسلامي في شخصيات كبيرة، كعمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز، ولكن تطوير ثقافة الشورى لا يتم عبر عبادة الأشخاص، بل عبر بناء مؤسسات العدالة والشورى والديمقراطية.
لا أعتقد أن دعوتي الواضحة والمباشرة، إلى احترام القيم الحضارية في الديمقراطية وحقوق الإنسان، تتناقض في شيء مع القيم الإسلامية، وأؤكد أن دينًا يأمر بأن تكون الإدارة السياسية قائمةً على مبدأ الشورى {وأمرهم شورى بينهم} لهو دينٌ حيويٌ، لديه الاستعداد التام لتطوير هذه الشورى، والوصول بها إلى القيم الديمقراطية الحديثة، حيث يتركز الفقه الدستوري في الإسلام على الشورى التي تعني بوضوح رفض الاستبداد، ووضع الشروط الضامنة في مؤسسات الدولة، لمنع تغول المستبدّ، قاضيًا أو حاكمًا أو مشرّعًا، على الدولة والناس، ولا شك في أن ذلك على رأس أهداف الإسلام وغاياته ورسالته.
تفسير الشورى لن تجده أبدًا في كتب الفقهاء، فقد كتبوه باستمرار في ظلّ حاكم مستبد، يلعن الشورى صباح مساء، ويعلن نفسه “ظلّ الله في الأرض”، ويسمّي وليّ عهده ووليّ وليّ عهده، ويشهر أعوانه وشبيحته وشعراؤه السيفَ، ويقولون في وداع كل خليفة: “الخليفة هذا.. فإن مات فهذا.. فمن أبى فهذا”، في إشارة إلى السيف!! ولن تجد أبدًا تفسير الشورى عند الفقهاء الذين يأمرون الناس بطاعة وليّ الأمر، “ولو أكلوا أموالكم وضربوا أبشاركم وجلدوا ظهوركم”، ويعلنون أن الحاكم ظلّ الله في الأرض، وأنّ الحاكم يظلمنا ويهتك أعراضنا ويقصفنا ببراميله ويقتلنا في سجونه؛ بسبب ذنوبنا!
تفسير الشورى لا يكون بتحليل الكلمة لغويًا، وسرد سياقات تركيبها وتفكيكها، ثم سؤال سيبويه ونفطويه والكسائي وأبي علي الفارسي وابن منظور، عن دلالاتها ومعانيها وعما قالت فيها العرب، ولا يكون كذلك بالبحث في اختيار الطبري والقرطبي والرازي…. إننا لن نصل في هذه الدراسات إلى أي هدى… وسنبقى نكرر:
كأننا والماء من حولنا قومٌ جلوس حولهم ماء
التفسير الصحيح للشورى يكون في برلمانات الأمم الناجحة، في القدرة على لجم المستبدين وإلزامهم بقيم الحرية والعدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان، يكون في تلك الدراسات العميقة التي كتبها فلاسفة عصر الأنوار، وأنجزوا فيها استقلال السلطات الثلاث والدين المدني والعقد الاجتماعي، لتكريس مبدأ الرئيس الخادم للأمة، لا السلطان القاهر للناس.
تظهر قِيم الشورى في التاريخ الإسلامي في شخصيات كبيرة، كعمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز، ولكن تطوير ثقافة الشورى لا يتم عبر عبادة الأشخاص، بل عبر بناء مؤسسات العدالة والشورى والديمقراطية، وهي الحقيقة التي شرحها أبو بكر الصديق، عند وفاة النبي الكريم: “من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت”، ومقتضى هذا القول الهائل أننا لن نعكف عند قبر الراحل العظيم لنبني عنده مستقبلنا، بل سنقوم ببناء المؤسسات التي تتجاوز الفرد وتؤسس للدولة، وتتطور بها الحياة.
دكتور محمد الحبش …رائع خطوة موفقة نحو الأمام ، وروعتها في فهم الشورى في عالمنا المعاصر . أدركت معناها اليوم في عصر التطور والفضاء الفكري ، ونجحت في المقاربة بينها وبين الديمقراطية التي وصل إليها الغرب ، والتي تتجاوز قدرة قائد مهما بلع مناصريه عن تجاوز الديمقراطية . بوركت وبورك قلمك .