يبدو أن مخطط زعزعة الاستقرار في المناطق المحررة يسير كما هو مرسوم له، بدقة متناهية وبوتيرة عالية، حيث لا يكاد يمرّ أسبوع إلا يحدث انفجارٌ مروع في أكثر المناطق ازدحامًا، خاصة الأسواق والأحياء الشعبية والساحات العامة، وليس غريبًا أن تُستهدَف الحاضنة الشعبية للثورة، بقصد إحداث أكبر عدد ممكن من الضحايا، في صفوف الشعب السوري الثائر الذي هُجّر من مناطقه وبيوته قسرًا، لينضم إلى ملايين السوريين المهجرين من مناطق “خفض التصعيد” التي نتجت عن اتفاقات “آستانة وسوتشي” والتي جلبت الوبال على الثورة السورية والشعب السوري الثائر.
إن ما يحدث في المناطق المحررة، من قتل منهجي وتجويع وإذلال للشعب الثائر، يدل بشكل قاطع على أن الحل السياسي مجرد شعار أطلقه مشغلو الأسد، لتمرير مخططهم في إعادة إنتاجه وترتيب بيته الداخلي، فمن يريد الحل السياسي لا يقوم بقضم الأراضي بالتدريج، ولا يقوم بقتل وإفقار وإذلال المواطن السوري بكل الطرق، لإركاعه وإرغامه على العودة إلى حظيرة الأسد، كما خطط حلفاء الأسد وعلى رأسهم المحتل الروسي الراعي الرسمي لاتفاقات “آستانة وسوتشي” المذلة للشعب السوري وثورته، ولعل من وقّع على هذه الاتفاقات، ممن يدعون تمثيل الثورة السورية، هم شركاء حقيقيون في قتل الشعب السوري وتجويعه وإذلاله، ويدلّ على ذلك تقاعس كل مؤسسات الثورة الرسمية، خاصة العسكرية والأمنية، في إيجاد حلول ناجعة لوقف تدفق المفخخات إلى الأراضي المحررة، وهناك أدلة أخرى كثيرة على تماهي هؤلاء مع الحل الروسي والبرنامج الروسي في سورية، منها -على سبيل المثال لا الحصر- عقد اتفاقات الانسحاب من مناطق خفض التصعيد، وتسليم كثير من المناطق إلى قوات الأسد من دون أي مقاومة، وحلب والغوطة ودرعا وشمال حمص ومعرة النعمان وخان شيخون وجنوب حلب كلها تشهد على ذلك.
إن ما حدث ويحدث من اختراقات أمنية للمناطق المحررة يتحمل مسؤوليته من تنطع لتمثيل الثورة والتحدث باسمها وعَقَد الاتفاقات المُذلّة، باسم شعبها، ومن يتماهى مع الحل الروسي في سورية، بالتأكيد هؤلاء لا يكترثون لما تُحدثه التفجيرات المتتالية من أضرار بشرية ومادية ونفسية جسيمة، “فمن أمِن العقاب أساء الأدب”، ولعل المعلومات الواردة عن اختراق بعض الخلايا التي تنشط من مناطق (قسد) لمناطق المحرر بطرق بدائية، بالاعتماد على رشوة الحواجز الأمنية وحواجز ما يسمى “الجيش الوطني”، تؤكد أن الطرفين شريكان في الجريمة، ولكن من يصمت عن هذا الفساد القاتل على هذه الحواجز هو من يتحمل المسؤولية الأكبر عن هذه الجرائم التي لا يمكن السكوت عنها بعد الآن، فالخطب جلل ومصير شعبنا وثورتنا على المحك، ويجب على الأحرار التحرك لوقف هذه الجرائم بكل الطرق المتاحة، ومنها رفع الغطاء عن كل من اغتصب مؤسسات الثورة السياسية والعسكرية والخدمية، لفشلهم في إدارة المحرر، وإيصال الثورة إلى بر الأمان، فمن غير المعقول أن أُحاسب عنصرًا من الفصائل، وهو يعرف تمامًا أن قائده من أكبر لصوص الثورة، ولا يمكن أن أُحاسب قائد فصيل، لأنه يعرف أن المسؤول السياسي عنه جمع ثروته من أموال الثورة، فالمسألة تحتاج إلى عملية تنظيف من رأس الهرم حتى قاعدته الملوثة، ولنصل إلى القادة الوطنيين (عسكريين ومدنيين) من أصحاب الخبرات ومن رجالات الدولة التي تزخم الثورة بهم، ليختار هؤلاء -بالتعاون مع خبراء عسكريين وأمنيين- استراتيجيات جديدة وناجعة لحماية أهلنا وشعبنا في المحرر، من خلال وضع خطط تدريبية وعملياتية لإعادة هيكلة الفصائل أولًا، وإنشاء جهاز أمن محترف يعتمد على الضباط وصف الضباط والأفراد المنشقين عن أجهزة الأمن الأسدية، وعلى الوطنيين الأحرار ممن اكتسب خبرات أمنية أثناء الثورة، ويجب أن يُسبق بإعادة هيكلة مؤسسات الثورة السياسية والخدمية، فالأمن العام للدولة لا يقتصر على أمن المنشآت والأفراد وإيقاف العمليات التخريبية ومحاربة الجاسوسية وتجنيد العملاء، بل يتعدى ذلك إلى ما هو أهم بكثير من ذلك، وهو العمل على تحقيق الأمن الغذائي والصحي للمواطن والأمن الاقتصادي للدولة، والأهم تحقيق الأمن الفكري المؤمن بوحدة الوطن وكرامة المواطن وحريته، ليتحقق عبر ذلك كله ازدهاره وتطوره، وهذا كله يمكن أن يحقق أمن الأفراد وأمن المنشآت، وبالتالي ستتوقف الاختراقات الأمنية التي يعانيها الشمال السوري المحرر، وسيبقى يعاني إذا لم نجد آذانًا مصغية لمن تهمه مصلحة سورية الوطن وشعبها الثائر ومستقبل الأجيال المهدد بكوارث غير مسبوقة لا يمكن التنبؤ بها.